عندما يصبح تسييس القضاء ضمانة لاستقلاله: أفكار حول التجربة المصرية (1967-2012)


2012-07-30    |   

عندما يصبح تسييس القضاء ضمانة لاستقلاله: أفكار حول التجربة المصرية (1967-2012)

أين اختفى قضاة “التيار الاستقلالي” في مصر اليوم؟ سؤال محير يراود أذهان أكثر من متابع للشأن القضائي المصري في الوقت الحاضر. فالمفارقة الغريبة هي أن القضاة الذين صنعوا الحدث القضائي والسياسي عامي 2005 و2006 عندما تحدوا من خلال نادي قضاة مصر نظام حسني مبارك في أوج سلطته[1]باتوا اليوم، بعد سقوط هذا النظام، شبه غائبين عن الساحة القضائية. القضاة الأفراد ما زالوا هنا طبعا، على الأقل سياسيا: فالمستشار حسام الغرياني ترأس مجلس القضاء الأعلى وهو اليوم يترأس اللجنة المكلفة إعداد الدستور والمستشار هشام البسطويسي كان مرشحا ملحوظا لرئاسة الجمهورية والمستشار محمود الخضيري عضو فاعل في المجلس النيابي الجديد، الخ. إلا أن التيار نفسه قد اضمحل قضائيا أمام السيطرة المتجددة للتيار المنافس، المعروف سابقا بمهادنته لنظام مبارك، على نادي القضاة بالكامل منذ عام 2009 حتى اليوم، مع تجدد فوزه في انتخابات النادي الأخيرة بعد الثورة. ويدفع تبعثر القضاة “الاستقلاليين” إلى التساؤل عن مدى وجود تيار جماعي بهذا الاسم في القضاء المصري: فهل اقتصرت أحداث 2005 وسواهاعلى مبادرة بعض القضاة الثائرين على تقاليد مهنتهم وممارسات النظام فقط فشكلوا ظاهرة جماعية ظرفية محصورة لا غير، أم أنهم جزء من تحرك قضائي أوسع وأكثر قدما، يمكن توقع انتعاشه مجددا في المستقبل القريب؟ نسترجع في هذا المقال بشكل خاطف بعض محطات التاريخ القضائي المصري المعاصر للتذكير أولا بجذور تحرك 2005 الفكرية والتنظيمية، وثانيا لعرض فرضية بحثية تسمح ربما بتفسير تخبطات هذا التحرك الجماعي الذي يقوى أمام الاستبداد ويضمحل – أو يزداد اضمحلالا – مع سقوط أبرز رموزه[2]. إذا كانت قوة نظام مبارك غير كافية لتفسير تغيرات وهج معارضيه القضائيين، فما هو العامل التحليلي الآخر الذي يسمح بذلك؟ وإذا كان سقوط حسني مبارك لا يتعارض – بغرابة – مع انتعاش التيار القضائي الذي كان يهادنه لا بل يدعمه حسب اتهام التيار “الاستقلالي”، فأليس على الباحث أن يعيد التفكير في العلاقة السببية بين هيمنة السلطة التنفيذية وازدهار أو انتكاس معارضتها أو موالاتها القضائيتين، وأن يبحث في مكان غير العلاقة مع السلطة السياسية عن مصادر شرعية وفعالية الكلمة والحركة القضائية؟[3]
من 1969 إلى 2006: مواسم الهجرة إلى الصمت
من المثير للاهتمام أن نرى القضاة الذين اتُهِموا عام 2005 بانتهاك التقاليد القضائية عبر احتلال المساحات الإعلامية والاحتجاجية يحاولون ابراز تراث قضائي مواز ومختلف يضفي شرعية قضائية على ما قاموا به، تضاف الى الشرعية السياسية التي لطالما نعموا بها بمواجهة النظام الاستبدادي. وتراث قضاة 2005 هو تراث “الرفاعية”، نسبة الى المستشار يحيى الرفاعي الذي طبعت نضالاته وصداماته مع النظام مسيرة القضاء المصري “الاستقلالي” منذ الستينات حتى أواخر الثمانينات. ولا يتردد شيوخ قضاة 2005 بربط تحركهم رمزيا بعمل الرفاعي القضائي، رجوعا لما يعرف “بمذبحة القضاة” عام 1969، حين تعرضت مجموعة من القضاة المصريين ومن بينهم الرفاعي نفسه للاضطهاد والعزل على يد جمال عبد الناصر بعد رفضهم الانضمام إلى “الاتحاد الاشتراكي العربي” وبعد اتخاذهم مواقف نقدية علنية ومكتوبة ربطوا فيها هزيمة 1967 بغياب الديمقراطية داخليا، لا سيما عبر رئيس نادي القضاة حينها القاضي ممتاز نصار[4]. وقد دفع هؤلاء ثمن هذا الخروج الأول عن “تقاليد” الصمت القضائي بضع سنوات، إلى حين تمت إعادة بعضهم في السبعينيات ضمن أجواء الابتعاد عن السياسات الناصرية التي طبعت سنوات حكم السادات. وقد شكلت مذبحة القضاة هذه مدعاة “للهجرة”[5]القضائية الأولى للقضاة “الاستقلاليين” كما ترسمها الذاكرة الجماعية لهؤلاء التي بنيت حول نمطية الهجرات المتكررة والدورية – كل عشرين عاما تقريبا – تبعا لكل انتفاضة قضائية، وبشكل يذكر بالثنائية الدورية “انتفاضة قضائية – انكفاء قضائي” التي تميز أيضا الذاكرة القضائية التونسية الحديثة، علما أن حراك القضاء التونسي وانكفاءه غالبا ما تزامنا مع حراك القضاء المصري وانكفائه (انتفاضة وقمع القضاة الشبان عام 1985، انتفاضة وقمع مكتب جمعية القضاة التونسيين عام 2005): فهل يعكس هذا التزامن آثار انتشار أفكار أو قواعد قضائية على الصعيد العربي أو الدولي في هذه الفترات؟  وبالفعل، فإن الحلقة التالية من المسلسل الاستقلالي المصري كما يراه ويرويه القضاة والناشطون بدأت تتكون في بداية الثمانينيات حول المستشار الرفاعي نفسه، الذي شكل محركا قضائيا نشطا من داخل نادي القضاة الذي ترأسه عامي 1985-1986 و1989-1990، وقد أصبح النادي يحتضن آنذاك الحراك الاستقلالي بشكل يؤكد ترسيخ تسييسه- بالمعنى العلمي للكلمة – بعد إقفال كل المساحات الأخرى أمام القضاة، إلى جانب وظيفته الخدماتية التي لطالما حاولت السلطة أسره فيها. وتوج هذا الحراك الاستقلالي الثاني بحدث مهم لم يلق شهرة “مذبحة القضاة” بالرغم من طابعه التجديدي والاستثنائي ألا وهو: مؤتمر العدالة المصري عام 1986. وتميز هذا المؤتمر أولا بحجمه الضخم (قدمت خلاله حوالى 110 ورقة)، وبطبيعة المشاركة فيه وشموليتها ثانيا، عبر الدور المهم الذي لعبه محامون وجامعيون وإداريون وسياسيون معارضون في أعماله إلى جانب القضاة، وثالثا، بتنوع وجرأة المسائل التي طرحت فيه إذ تناولت الأوراق المقدمة مختلف المواضيع التي تهم المرفق القضائي، من أكثرها تقنية (بطء المحاكمات ودور الخبراء إلخ…) إلى أكثرها تسييسا (استقلالية القضاء، المحاكم الاستثنائية، الخ.)[6]. وأكثر ما طبع الذاكرة في هذا المؤتمر المواجهة المفاجئة والمدوية التي حصلت خلاله بين القاضي والحاكم، عبر واقعة ما زال القضاة المصريون المنتمون للتيار “الاستقلالي” يروونها اليوم بشيء من الاعتزاز: فيما كان الرئيس حسني مبارك يحضر شخصيا افتتاح المؤتمر، طالبه رئيس النادي يحيى الرفاعي أثناء إلقاء كلمته برفع حالة الطوارئ والحد من دور المحاكم الاستثنائية، مما أثار لاحقا حفيظة وغضب الرئيس الذي اكتشف فجأة، بعد بضع سنوات من توليه الحكم،   “أن هناك جسما داخل هيكل الدولة المصرية يسمى الجسم القضائي يستعصي على الفهم من ناحيته، ويستعصي أيضا على السيطرة”[7]. وقد أطلقت هذه المواجهة موسم الهجرة القضائية الثاني إذ سرعان ما ضيقت السلطة على هؤلاء القضاة “الاستقلاليين” نهاية الثمانينيات، دافعة بعضهم إلى ترك البلاد في اطار الإعارات القضائية إلى دول أخرى، مع حمل آخرين إلى حصر أنشطتهم العامة. ويمكن هنا مقارنة أساليب قمع جمال عبد الناصر الصاعقة (العزل التام من القضاء) بأساليب القمع التي انتهجها مبارك والتي كانت أقل قسوة من دون أن تكون بالضرورة أقل”فعالية”، إذ استبدلت القوة بالإبعاد الصامت المقونن (إعارة إلى دولة عربية أخرى مع شروط مهنية مغرية). وامتدت الهجرة الثانية إلى نهاية التسعينيات عندما بدأ قضاة، وفي طليعتهم محمود مكي وهشام البسطويسي وزكريا عبد العزيز، بالمشاركة بندوات ومحاضرات أعادت تدريجيا طرح مسألة استقلالية القضاء على بساط البحث في المساحة العامة (ولو بعيدا عن الاعلام في مرحلة أولى) بعد عشر سنوات من الانكفاء.
الانتفاضة القضائية الثالثة :قضاة “الاستقلال” ضد من؟
قيل الكثير حول تحرك القضاة المصريين عام 2005-2006 بشأن مسألة الإشراف القضائي على الانتخابات، إلا أنه نادرا ما تم الرجوع إلى ما قبل هذه المرحلة لرسم معالم نشوء هذا التحرك، كأنما القضاة قد اجتمعوا وقرروا فجأة، على خلفية إهانة قاض في الإسكندرية بداية 2005 أو على خلفية إشرافهم على الانتخابات النيابية أو على الاستفتاء الدستوري الذي جرى في العام نفسه، إشعال مواجهة لا مثيل لها في تاريخ القضاء المصري مع السلطة[8]. إذا كان من الواضح أن كتابة القصة ابتداء من ربيع 2005 يحرمنا من العوامل التي تسمح بفهم ظروف تكوين التحركات المهنية القضائية، فلا مجال هنا للدخول في تفاصيل ولادة الجيل الثالث من التيار “الاستقلالي” نهاية التسعينيات. كان مثلا لترابط الأجيال القضائية ونقل التراث القضائي المشاكس دور أساسي في هذا المجال، من خلال التأثير الفكري والمهني الذي استمر بعض القضاة كيحيى الرفاعي في ممارسته حتى بعد تقاعدهم تجاه قضاة أصغر منهم سنا. كما أنه كان لبعض الفاعلين غير القضائيين، كالمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة الذي تأسس عام 1997 من ضمن المجهود الهادف إلى استنهاض الخطاب الاستقلالي، دور في تقديم مساحات وموارد لم يكن القضاة “الاستقلاليون” يمتلكونها خلال فترة غيابهم عن النادي، مما سمح لهم بتطوير قدراتهم وصولا الى استرجاع إدارة النادي عام 2001. ولكن لهذه العوامل تعقيداتها نعرضها في مناسبة أخرى. نكتفي هنا بالإشارة أولا إلى ضرورة دراسة تحرك 2005 وغيره من الأحداث القضائية ضمن التاريخ القضائي الطويل أو على الأقل المتوسط دون الاكتفاء بالعلاقات السببية البسيطة والمباشرة، وثانيا إلى ضرورة توسيع القراءة المرتكزة على الثنائية التصادمية “قضاة استقلاليين / سلطة تنفيذية” لإدخال عوامل وفاعلين آخرين غالبا ما يتم تجاهلهم في معادلة القضاء المصري والعربي، كقضاة “تيار الحكومة” (كما يحب قضاة التيار “الاستقلالي” تسميتهم بهدف تجريدهم من مشروعيتهم وصهرهم بالسلطة التنفيذية التي يعدونهم ممثلين لها)، أو جمعيات المجتمع المدني المعنية بالشأن القضائي. وبالفعل، فإن دراسة فترات “الهجرة” كالتي امتدت من 1990 إلى 2001 مثلا (سنة استرجاع قضاة التيار “الاستقلالي” مجلس إدارة النادي) تظهر أن ما تصفه الرواية الاستقلالية بفترات ركود أو تبعية لا تستحق التأريخ هي حقيقة فترات يسيطر عليها قضاة آخرون، لا شك أن لبعضهم صلات قوية أو مشبوهة مع الحكومة، إلا أن لغالبيتهم بكل بساطة نظرة مختلفة للمهنة القضائية، لأدبياتها وتقاليدها ووسائل عملها، يمكن نعتها بالمحافظة أو التقليدية أو الحيادية، من دون ان يكون بالإمكان اختزالها بالتبعية للسلطة التنفيذية. وهنا يظهر لنا أن التمييز القائم بين “قضاة استقلاليين” و”قضاة حكومة” هو من إنتاج القضاة “الاستقلاليين” أنفسهم الذين ابتكروا هذه التسميات – وهذا من حقهم – في خضم معاركهم الشجاعة مع السلطة المصرية من باب زيادة مشروعية تحركاتهم غير التقليدية، فاعتمدها بعض الباحثين والصحفيين مباشرة متجاهلين ظروف إنتاجها واستعمالها، وهو خطأ يتحملون هم مسؤوليته التحليلية لا القضاة الغارقون في صراعاتهم المصيرية. فلهذه التسميات – عندما تتحول الى مفاهيم تحليلية – مفاعيل مغرضة على قراءة الواقع القضائي، إذ يصعب عبرها أن نفهم مثلا كل الانقسامات الحادة التي تشهدها الساحة القضائية المصرية، أو لماذا يختار القضاة المصريون في نادي القضاة بعد الثورة ممثلي تيار “التبعية” للحكومة – التي أسقتطها الثورة – على حساب قضاة الاستقلال. وكما يقول بكلمات أخرى المستشار حسام الغرياني نفسه[9]، وهو يعد أحد “حكماء” تيار الاستقلال وقد ترأس مجلس القضاء الأعلى في فترة (يوليو 2011- يوليو 2012) قبل تقاعده، فإن القضاة غير المنتمين للتيار الاستقلالي ليسوا بالضرورة أقل استقلالا، هم فقط قضاة لا يجهدون خارج محاكمهم لإعطاء هذا الاستقلال كل أبعاده (السياسية).
من هنا يظهر جليا أن المفهوم الأساسي لقراءة التحولات والثوابت القضائية المصرية ليس مفهوم الاستقلال – الذي يبقى شعارا نضاليا أكثر مما هو مفهوم تحليلي – بل هو مفهوم التسييس، أو بالأحرى البعد السياسي للعمل القضائي[10]. فيكون بذلكقضاة “تيار الحكومة” قد اصابوا في تشخيصهم لحراك قضاة “تيار الاستقلال” عندما نعتوه بالمسيّس، وإن أخطأوا في الاتهام. فعبر رفضهم لمحاولات السلطة أسر القضاة في تقنيات القانون والمحاكمة وإبعادهم عن الشأن العام حتى عندما يكون للقضاة دور مباشر فيه (في حال الانتخابات مثلا)، وعبر إصرارهم على إعطاء القضاء مكانته في فلسفة النظام السياسية، وعبر ابتكارهم لوسائل تعبير وتحرك غير مسبوقة قضائيا اعتقدت السلطة أنهم لن يتجرؤا على اعتمادها، فجر ما يعرف بقضاة “الاستقلال” كل معايير العمل القضائي التقليدية، ما أثار ذعر زملائهم القضاة غير المستعدين لخوض هذه الغمار، أكثر ربما مما أخاف السلطة الحاكمة نفسها. فمن غير المستغرب إذا أن يأتي رفض هذا المنهج القضائي الذي يمكن وصفه بما بعد الحداثي من داخل القضاء قبل أن يأتي من السلطة التنفيذية، مما يساهم في تفسير استمرار تهميش قضاة “تيار الاستقلال” حتى مع تحولات النظام السياسي الحالية بعد الثورة. لا يعني كل هذا تحييد السلطة التنفيذية عما يصيب القضاء والقضاة خاصة في الأنظمة الاستبدادية كالتي كانت تحكم مصر وتونس، فممارسات السلطة جد واضحة في هذا المجال، إن عبر التضييق المالي على نادي القضاة عندما كان يسيطر عليه قضاة الاستقلال، أو عبر تقديم امتيازات للقضاة مقابل صمتهم و انكفائهم في محاكمهم، أو عبر الاعتماد على المحاكم الاستثنائية، وغيرها من الممارسات الهادفة إلى تحييد القضاة والحد من قدراتهم الرقابية. قد تسمح فقط هذه الفرضية، إن صحت، بفتح آفاق جديدة للدراسات الاجتماعية المهتمة بالقضاء العربي، فلا تكون مهووسة بسياسات الأنظمة القمعية العمودية لا غير، بل تغدو أكثر حساسية لتحولات التيارات والأفكار داخل المجتمعات المهنية القانونية عامة والقضائية خاصة بحد ذاتها، كما لعلاقات القضاة الأفقية مع مهن وتيارات وتحركات أخرى في مجتمعاتهم. فالمستقبل القضائي يقرأ ربما ليس على أفواه حكام مصر الجدد إلى أي جهة انتموا، بل عبر تصرفات رئيس نادي القضاة الحالي، أحمد الزند، خصم التيار الاستقلالي الأول في السنوات الأخيرة وهازمه على أساس احترام التقاليد القضائية. فنراه اليوم يدعو إلى الإضراب ويخاطب السياسيين في الصحف ويدخل في مشادات إعلامية غير مسبوقة دون أي حرج بين أكثر زملائه. فبغض النظر عن مضمون تحركاته ومواقفه وتقييمها، ألا يشكل هذا الخروج عن التقاليد القضائية الصامتة – بالرغم من انزلاقاته ومبالغاته الحالية والتي لا علاقة لإشكاليتنا بها – أهم انتصارات قضاة 2005 وأهم ما يتركونه للجيل الرابع من “التيار الاستقلالي”: ساحة قضائية بدأت تسقط فيها الممنوعات القضائية المفروضة سياسيا من كل الجهات؟

نشر في العدد الخامس من مجلة المفكرة القانونية


[1]على خلفية مسألة الإشراف القضائي الفعلي على الانتخابات. أنظر مثلا أعمال الباحثة Nathalie Bernard-Maugiron  حول محطة 2005 القضائية (بالفرنسية).
[2]إن الأجوبة التي تريد إقفال النقاش عبر حجة أن النظام المصري لم يسقط سوى ظاهريا عام 2011، ما يفسر استمرار كسوف التيار المسمى بالاستقلالي، غير مقنعة: فلماذا يكون لهذا السقوط الظاهري، بغض النظر عن حقيقته، آثار مدوية على المشهد السياسي المصري، فيما المشهد القضائي يبقى غير معني به تقريبا؟ و يتقدم آخرون بفرضية ثانية تفسر تراجع وهج التيار “الأستقلالي” عبر وصول الاسلاميين – الذين يتعاطف معهم جزء مهم من القضاة “الاستقلاليين” –  إلى السلطة في مصر، فلا يرغب قضاة هذا التيار  بإزعاج حلفائهم السياسيين. لا مكان هنا لمناقشة هذه الفرضية بالتفصيل، إلا أننا نكتفي بالإشارة إلى إن كسوف التيار الإستقلالي في النادي بدأ قبل الثورة بسنتين أو ثلاث عندما كان التيار الإسلامي ما زال مقموعا، ما يجعل هذه الفرضية غير كافية على الإطلاق لتفسير مسيرة “الاستقلاليين” القضائية.
[3]يشكل هذا المقال جزءا بسيطا من بحث ميداني أوسع تقوم به “المفكرة القانونية” حول التطور المقارن للقضائين التونسي والمصري في علاقتهما مع النظامين الاستبدادين في البلدين قبل وبعد الثورة. ومصدر معلومات المقال، بالإضافة إلى بعض المراجع القليلة حول الموضوع، عدد من المقابلات المطولة والمفتوحة مع فاعلين قضائيين وناشطين حقوقيين في مصر.
[4]أنظر :Botiveau B., 1997, “Nasser et les magistrats égyptiens : l’affrontement de 1969 et le débat sur la souveraineté de la loi”, in L’Etat de droit dans le monde arabe, Mahiou A. (éd.), Paris, CNRS-Éd., pp. 395-402, و: نصار م.، 1974، معركة العدالة في مصر، القاهرة، دار الشروق، أو للإطلاع على وجهة نظر مختلفة :  إمام ع.، 1976، مذبحة القضاء، القاهرة، مدبولي.
[5]الكلمة للمحامي ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاء و المحاماة .
[6]لعرض أكثر تفصيلا لأعمال هذا المؤتمر، أنظر : Bulletin du CEDEJ, 20 (2), 1986.
[7]مقابلة مع السيد ناصر أمين.
[8]و لا تكفي هنا العودة فقط إلى حكم المحكمة الدستورية عام 2000، الذي فرض مبدأ “قاض على كل صندوق” في مسألة الإشراف على الإنتخابات.
[9]ضمن مداخلة له في مؤتمر حقوقي في مكتبة الاسكندرية، 30 أيار 2012.
[10]و مفهوم التسييس لا يستعمل هنا طبعا بمعنى التحزب لجهة سياسية أو لأخرى، إنما بمعنى التعامل مع إشكاليات القضاء كإشكاليات عامة تخص كل فئات المجتمع و يصح بالتالي التصدي لها من قبل القضاة في المساحات العامة خارج مساحة المحاكمة الضيقة.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني