عندما تُبعثر الأزمة وضع القضاء: ولادة حراكات جديدة في العدليّة

،
2024-09-17    |   

عندما تُبعثر الأزمة وضع القضاء: ولادة حراكات جديدة في العدليّة

حاولنا في الورقة السابقة أن نظهر كيف أنّ مشروعيّة هيئات مركزية داخل القضاء اللبناني أو حوله تراجعت بشكل ملحوظ في سنوات الأزمة الأربع. هيئات مثل مجلس القضاء الأعلى أو وزارة العدل أو نقابة المحامين في بيروت فقدت جزءًا من الثقة التي كانت تتمتّع بها في العدلية، بسبب ما فرضته الأزمة من أحداث وتحدّيات لم تتمكّن هذه الهيئات من التعامل معها جيدًا، وإنّما أيضًا بسبب بعض المقاربات والقرارات غير المفهومة التي تسبّبت بتوتّر العلاقة بين القضاة والمحامين من جهة وهيئاتهم المنظِّمة من جهة أخرى. وقد أشرنا إلى أنّ التراجع في مشروعيّة هذه الهيئات سيكون له عواقب جدّية على مستقبل قطاع العدالة في لبنان إن لم يعالج بشكل سريع، وهو ليس بالأمر السهل نظرًا إلى استمرار الأزمة التي فضحت كلّ هذه المشاكل أصلًا، لا بل تطوّرها وتعمّقها بشكل أفقد هذه الهيئات جزءًا من سيطرتها على أوضاع القطاعات التي تسيّرها. إلّا أنّ لهذه التحوّلات الرمزية والمهنية نتائج أخرى أهمّها نشوء ممارسات وتجمّعات جديدة داخل القضاء والإدارة في السنوات الأخيرة، لتحاول أداء جزء من الدّور الذي تركته الهيئات المنظِّمة بتراجعها، أو لتطوير أدوار جديدة للمهن القانونية. فدرسنا هنا نشوءها لتكون موضع اهتمامنا في هذه الورقة.

بالفعل، وجد القضاة أنفسهم مضطرّين لابتكار وسائل عمل وتحرّكات جديدة لمواجهة طوارئ الأزمة التي سقطت عليهم وعلى مجتمعهم ابتداء من نهاية العام 2019. وانضمّ إليهم المساعدون القضائيون، الذين لم يكن لديهم هيئات تنظيمية أو تمثيلية فعّالة، إلّا أنّ الأزمة فرضت عليهم تنظيمًا معيّنًا لكي يتجنّبوا التهميش والانسحاق التامّ أمام عجلاتها التي لم ترحم أيّ فاعل لم يعرف أن يتأقلم بسرعة معها. لم تكن هذه المبادرات مخطّطًا لها دائمًا، أو لم تكن جزءًا من مقاربة تغييرية واضحة للمهن القانونية المعنيّة، إنّما تمّ بناؤها تحت نيران الانهيار، تطبيقًا لمقولة أنّ الطبيعة تكره الفراغ، والفراغ هو الذي بدأ يحتلّ المسافات بين ما تفرضه الأزمة وما تقوم به الهيئات المنظِّمة القضائية. بعض هذه المبادرات بقي خارج أيّ إطار مؤسّساتي وتنظيمي، إنّما اكتفى بتغيير طريقة عمل القضاة وسبل تفاعلهم مع بعضهم البعض. والبعض الآخر منها أخذ شكلًا تنظيميًا معيّنًا بسرعة، من أجل القيام بمهامّ ذات طابع عامّ لا يمكن القيام بها بشكل فوضوي أو عفوي. إلّا أنّ معظم ما تكوّن في أروقة العدلية في السنوات الأخيرة بقي في المنطقة الرمادية بين الطرفين، يُظهر بعض علامات التنظيم من دون أن يسلك جدّيًا طريق المأسسة على المدى الطويل. لهذا السبب، فضّلنا مثلًا وضع نادي القضاة من ضمن الهيئات المنظِّمة التي تأثرت مشروعيّتها في الأزمة (أنظر الورقة السابقة)، إذ أنّ مأسسته وتنظيمه بدآ قبل الأزمة، وسيستمرّان بعد نهايتها، فيما أنّ معظم التحرّكات الذين وثّقناها في هذه الورقة تتميّز بأنّها وليدة الأزمة، وقد تختفي، أو يتحوّل معظمها عندما تبدأ هذه بالتراجع، وهو ما بدأنا نراه أصلًا منذ 2023 في بعض الحالات.

ومهما كان مصير هذه المبادرات الحديثة، فهي تبقى مهمّة تحليليًا لفهم الحاضر وتوقّع المستقبل. فشكل التحرّكات وخصائصها يدلّنا على طبيعة طرق عمل وأولويّات القضاة والموظفين مؤخرًا، ونظرتهم لسبل التفاعل بين بعضهم ومع سائر المهن والقطاعات في المجتمع اللبناني. كما تُظهر لنا حدود وقيود مساحات العمل الممكنة داخل المهن القانونية والقضائية، ووسائل التحرّك المتاحة بالنسبة لقضاة ومحامين ومساعدين قضائيين تفرض عليهم عادة أطرهم التنظيمية الصلبة عدم المبادرة والتحرّك بحرّية كبيرة كسائر المهن. وقد ولدت هذه المبادرات الجديدة في الأزمة لتستمرّ ويبقى بعضها في السنوات المقبلة. وقد يعدّل ذلك طرق عمل الهيئات القضائية والعلاقات بينها، ويؤثّر على مجريات العمل القضائي وتفاعله مع المجتمع، كما على خريطة التحرّكات والإمكانيات النضالية والتنظيمية في الفترة المقبلة. لكلّ هذه الأسباب، تبقى دراسة هذه التحرّكات في العدلية خلال الأزمة مُهمة من الناحية التوثيقية، ولكن أيضًا منهجيًا، لنفهم بشكل أفضل ومن زوايا جديدة كيف يفكر ويعمل القضاة والمحامون والموظفون عندما يتحرّرون، ولو جزئيًا ومؤقّتًا، من هيمنة التنظيمات الهرمية والنقابية، وهذا ما سنحاول عرضه في الصفحات المقبلة.

مبادرات جديدة بين القضاة لتعويض غياب السياسات القضائية

أكثر ما عانى منه القضاة في سنوات الأزمة، بعد تدهور أوضاعهم المادّية طبعًا، هو الشعور العارم لأكثر من ثلاث سنوات بأنّهم على مركب ضائع في بحر هائج، لا أحد يقوده أو يعرف مكانه. طبع الضياع السنوات الأولى للأزمة، ابتداءً من رأس الهرم السياسي والقضائي والنقابي، لينتقل لاحقًا وسريعًا إلى مئات القضاة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها ضحايا ظرف صعب بدأ الناس يسمّونه الأزمة. وكنّا قد وثّقنا سابقًا ما مرّ به القضاة في هذه الأيام الصعبة، من ضائقتهم المادّية إلى شعورهم بالوحدة والعزلة. إلّا أنّ ما يهمّنا هنا هو اقتناعهم بضرورة التصرّف سريعًا، بشكل منفرد أو جماعي، من دون انتظار سياسات وتعليمات واضحة من قبل الهرمية السياسية والقضائية، التي بدت عاجزة، مصعوقة، وكأنّها تسير خلف مبدأ وحيد في تلك الفترة، وهو: “تحمّلوا”. انتظروا لأشهر ولسنوات، منذ خريف 2019، أن تأتيهم جهة حازمة ومتفهّمة، تقول لهم إنّه هناك من يرى أوجاعهم وينصت لشكواهم. وإذا طلبت منهم الصبر أو الشجاعة، فهي تفعل ذلك لأنّها تعرف الطريق التي عليهم سلوكها، وتناقشها معهم وتقودهم عليها، وتشاركهم الهدف الذي عليهم التوجّه نحوه، والوقت الذي ستستغرقه هذه الرحلة الصعبة، والمعركة النبيلة التي ستخوضها معهم والتي من أجلها عليهم أن يتحمّلوا، فيصبح عندها للتضحيات معنى يسمح لهم بتقبّلها. انتظروا، ولكن لم يأت شيء. افتقد القضاة وجود سياسات قضائية واضحة وناجعة وغير متناقضة، تسهّل صمودهم في مختلف محطّات الأزمة من دون الاعتماد حصريًا على قدرتهم الشخصية على التحمّل. كان على القضاة، هم الذين اعتادوا تطبيق القانون ودراسة الملفّات وإصدار الأحكام، أن يبتكروا ويبادروا لضمان الاستمرارية في منازلهم وفي عملهم في المكاتب والمحاكم، التي بدت متروكة لقدرها ولحنكتهم. كنّا قد درسنا الحلول الفردية التي لجأ إليها القضاة لمواجهة النقص الحاد في أدوات العمل في بداية الأزمة، وقد استعملوا علاقاتهم الشخصية ومعارفهم لذلك. ونستكمل هنا توثيق آثار هذا الغياب المدوّي للقرار الموحّد، في ثلاثة مجالات بارزة على الأقلّ، حيث دفعت الضرورة بهم إلى الاعتماد على مبادراتهم الجماعية وتنسيقهم لتسيير الأمور.

أوّلًا، شكّلت جائحة كورونا حالة استثنائية دفعت بعض القضاة إلى اتّخاذ إجراءات في المحاكم التي يعملون فيها، لكي يستطيعوا الاستمرار في العمل وإن بشكل محدود بالرغم من الإقفال العامّ ومن خطورة العدوى حين أعيد فتح المحاكم. وإلى جانب خطوات مجلس القضاء ونقابة المحامين ووزارة العدل للتعامل مع الإقفال، وقبلها أحيانًا، قام العديد من القضاة بمبادرات شخصية، طبّقوا بعضها في محاكمهم[1] واقترحوا بعضها على الهرمية القضائية التي اعتمدتها أحيانًا،[2] من أجل إحياء العمل القضائي عندما كان الوصول إلى قصر العدل مستحيلًا. وقد أدّى ذلك إلى اختلاف في طريقة العمل بين محكمة وأخرى، بدلًا من أن يكون الأمر منظّمًا مركزيًا من البداية. ولن نتوقّف هنا عند الفارق بين القضاء العدلي والقضاء الروحي في التعاطي مع أزمة كورونا والإقفال الذي سبّبته، إذ أكّد لنا أكثر من محام أنّ العمل في المحاكم الروحية المختصّة بالأحوال الشخصية للمسيحيين استمرّ بشكل شبه عاديّ طوال فترة الإقفال عبر المحاكمات عن بعد،[3] من دون مشاكل مهمّة تذكر، في حين كانت المحاكم العدلية تتخبّط بين الإقفال التامّ وبعض المبادرات التي لم تكن دائمًا موفّقة أو حتى قانونية (الاستماع إلى الموقوفين وإقامة جلسات عن بعد من دون مراعاة مبادئ المحاكمة العادلة مثلًا). فلماذا يستطيع القضاء الروحي المستقلّ عن الدولة ما لا تستطيع المحاكم العدلية التابعة لها؟ وبغضّ النظر عن هذا التساؤل، تبقى المفارقة هنا في الأهمية التي أعطاها بعض القضاة لهذه المبادرات الشخصية في محاكمهم أو في الوزارة، وما زوّدتهم في تلك الفترة الصعبة من معنويّات إيجابية، فيما كانت تُقفَل جميع الأبواب أمامهم في فلكهم القضائي آنذاك.

“أنا بحبّ أعمل مبادرات، جرّبت بكورونا وقت قصّة المنصّة اللي بلّشت مع نقابة المحامين، والـ online hearing، هيدي كانت آخر فترة أكثر شغلة عم تخلّيني نفّس وما حسّ حالي hopeless (بلا أمل)، مبادرات شخصية، وأنا غرامي هالأشياء، ولكن هذا يدلّ على إنّه ما في جهاز إداري قضائي، مجلس القضاء ما عنده الخبرة الإدارية، مجلس يدير قضاء ما عنده إدارة. أنا كنت عم بعملها لإرتاح أنا، لأن كنت محقون”.[4]

من الواضح أنّ هذه المبادرات العملية قد شكّلت مُتَنَفّسًا يُشعِر القضاة بأنّه ما زال هناك معنى لعملهم القضائي، فيما القضاء شبه مشلول، وهم يجدون أنفسهم عاجزين عن ملاحقة أو محاكمة أيّ شخص مسؤول عن الأزمة وسرقة أموال المودعين وتفجير مدينتهم. شعروا بخسارة معنى المعارك الكبرى، مثل معركة استقلالية القضاء ومحاسبة الفاسدين والمجرمين، إلّا أنّهم حاولوا إيجاد معنى آخر، أقلّ طموحًا وأصغر حجمًا، من خلال يوميّات عملهم الصغيرة، يُشعرهم بأنّه ما زال لديهم قدرة تحرّك داخل محاكمهم، فيما يبدو أنّ الجميع فقدها، وبخاصّة الإدارة القضائية التي بدت لهم عاجزة عن اتّخاذ أيّ قرار مؤثّر.[5]

ثانيًا، لجأ القضاة للتشاور بين بعضهم البعض بشكل ووتيرة غير مسبوقين، لمعالجة ملفّات متشابهة طُرِحت عليهم، لا سيّما الجديدة منها التي ولّدتها الأزمة أو غيّرت طبيعتها (مثل جرائم ماليّة معيّنة، أو جرائم سرقة صغيرة، إلخ..). وفيما اعتبر قضاة أمامنا أنّ هذا التنسيق والتعلّم الأفقيّين بينهم صحّيان ومفيدان، إلّا أنّهم شدّدوا على الحاجة الملحّة إلى جهة قادرة، في تلك الفترة الاستثنائية، على تحمّل المسؤولية الجماعية: تأمين التنسيق بين القضاة، أو توحيد التوجّهات على صعيد السياسة الجنائية الواجب اعتمادها في أشهر والسنوات الأولى للأزمة، أو فيما يخصّ حلّ الخلافات حول العقود والمتعلّقة بانهيار قيمة العملة الوطنية واستعمال العملة الأجنبية، أو على مستوى طريقة تعاطي النيابات العامّة مع الملفّات المتشابهة التي أفرزها الانهيار الاجتماعي، من بين أمثلة عديدة.[6] ثالثًا، وحتّى فيما يتعلّق بمسائلهم الخاصّة، أوجد القضاة تجمّعات صغيرة وظرفية فيما بينهم أيضًا، للتحرّك جماعيًا في ملفات معيشية معيّنة تعني بعضهم. مثلًا، تجمّع القضاة الذين يتعلّم أولادهم في مدرسة خاصّة واحدة، لعقد اجتماع مع مديرة المدرسة من أجل التفاوض معها على تخفيض أقساط أولادهم نظرًا للأوضاع، بعدما أعلمتهم جهات من مجلس القضاء الأعلى أنّ محاولاتها التفاوض مع المدارس لهذا الهدف باءت بالفشل.[7][1] 

ومن الممكن عرض تجارب جماعية أخرى من التعاون والتشاور بين القضاة في السنوات الأخيرة، في مجالات عديدة تعني عملهم القضائي كما حياتهم العائلية والشخصية، في ظلّ الصعوبات المادية التي مرّ بها معظمهم. وفي حين كانت بعض هذه النقاشات والمشاورات طبيعية في الحياة القضائية قبل الأزمة، إلّا أنّها تكاثرت وذهبت إلى حدّ التجمّع والتحرّك في مواضيع متعدّدة كانت سابقًا تعالَج فرديًا مع الهرمية القضائية أو صندوق التعاضد، في حال وُجِدَت أصلًا قبل الأزمة. كما أنّ القضاة الذين التقيناهم قد ربطوا مباشرة تطوّر هذه التحرّكات المحدودة بضرورات الأزمة أوّلًا، وثانيًا بغياب السياسات والإرشادات القضائية بخصوص مجموعة مواضيع، بعضها طارئ وبعضها مهمّ، ما دفعهم إلى البحث عن حلول مبتكرة أنتجتها النقاشات بينهم. وفي حين أنّ جميع القضاة متّفقون على ضرورة استرجاع الهيئات القضائية قدرتها ودورها في تأمين حاجاتهم المادية والمعنوية من دون تركهم يخترعون الحلول في مواجهة صعوبات الأزمة، ورغم تحسّن الأمور قليلًا في السنة الأخيرة وإنْ من دون ضمانات للمستقبل، إلّا أنّ علينا التوقّف أمام منهجيّات العمل الجديدة التي نشأت عفويًا بين القضاة.

تؤشّر هذه المبادرات، على تواضعها أحيانًا، إلى تطوّر توجّهات ديمقراطية وتشاركية معيّنة في الجسم القضائي خلال الأزمة، من أجل إيجاد حلول قانونية أو قضائية أو حياتية. واللافت للنظر هي الطريقة الإيجابية، وإن كان يطغى عليها التحسّر في بعض جوانبها، التي تكلّم بها معظم القضاة الذين التقيناهم عن هذه المبادرات والمحاولات التي قاموا بها. فهي أعطتهم على الأقلّ شعورًا بإنجاز شيء ما لأنفسهم، والقيام بتحسينات متواضعة في وضع كان مأساويًا، فيما كانت كلّ الحلول المؤسّساتية الأخرى تبدو مجمّدة. هذه التشاركية العفوية – تشاركية الضرورة – على شيء، تؤكّد مرّة جديدة على أهمّية إيجاد وتفعيل جمعيّات القضاة العمومية في محاكمهم ومناطقهم، وهو حلّ كنّا قد طرحناه منذ زمن كوسيلة إصلاحية مهمّة، وكذلك فعل بعض القضاة. وإذا كانت تجربة نادي القضاة في بعض المجالات قد قدّمت أكثر من دليل على ذلك، فإنّ تشاور القضاة في الأزمة وتبادل خبراتهم القانونية والمعيشية لابتكار الحلول في محاكمهم وحياتهم شكّل مصدر طاقة إيجابية كبيرة واندفاع مهم، في زمن كانوا قد فقدوا فيه كلّ أسباب الاندفاع. وقد سمح غياب الهيئات المنظِّمة داخل القضاء لفترة معيّنة باختبار إمكانيّات هذه التشاركية القضائية التي يمكن مأسستها مستقبلًا عبر الجمعيات العمومية مثلًا. وتظهر لنا أهمّيتها هنا بوضوح، لأنّ الأزمة شكّلت مختبرًا سمح بالتأكّد كيف أنّ إشراك القضاة في اتخاذ القرارات التي تعنيهم وتعني محاكمهم لا يقوّي انتماءهم للمؤسّسة والمحكمة فحسب، إنّما يؤدّي غالبًا إلى اتخاذ القرارات الأفضل لأجلهم ولأجل القضاء، إذ هم الأقرب إلى المشاكل التي يعانون منها، وفي الموقع الأفضل لابتكار الحلول العمليّة لها. وبما أنّ النقاط الإيجابية بقيت نادرة جدًا في السنوات الماضية، فلا بدّ لنا أن نتوقّف عند إيجابيات هذا المنحى وضرورة تطويره من أجل تشجيع التبادل الأفقي بين القضاة في المراكز المتشابهة أوّلًا، أو في المحاكم المختلفة وفيما بينها في مختلف مناطق لبنان. ولا شكّ أنّ القضاء بحاجة لمأسسة وسائل جماعية تشاركية جديدة تسمح بتطوير هذه المنهجية. ومن الضروري البناء على هذه الابتكارات والاختبارات لتطوير طرق عمل جديدة لا تترك الأمور كلّيًا للهرمية القضائية، مهما كانت نزيهة أو فاضلة، بل تعيد وضع القضاة أنفسهم وبمختلف درجاتهم في وسط معادلة إدارة مؤسّساتهم وأوضاعهم.

لجنة متابعة قضائية لتأمين الحد الأدنى المادي

على الصعيد الجماعي الذي يعني كلّ القضاة، كان هناك محاولات لتخطّي الشلل المؤسّساتي وإيجاد بعض الحلول للمأزق المادّي الذي وجد القضاة أنفسهم فيه، في ظلّ عجز الهيئات المسؤولة: لذلك ولدت لجنة المتابعة القضائية من رحم الأزمة، من أجل “فعل شيء ما”، عندما وصل يأس القضاة إلى مرحلة متقدّمة بعد أن طرقوا كافة الأبواب القضائية من دون جدوى. وقبل المضيّ بعرض خصائص هذه اللجنة، لا بدّ من التذكير بأنّها ليست المرّة الأولى التي ينشئ فيها القضاة تجمّعات مؤقّتة من أجل المطالبة بحقوقهم المادية أو المعنوية. فبعد اللجنة القضائية في بداية الثمانينيات،[8] شهدت فترة ما بعد الحرب تجمّعات ولجانًا عدّة شُكِّلت للتفاوض مع السلطات القضائية والسياسية من أجل تحسين الأوضاع السيّئة للقضاة. كما شاهدنا عرائض وقّعها القضاة في العقود الثلاثة الماضية، إضافة إلى تحرّكات مختلفة، كالتحرّك الذ حصل عام 2014 اعتراضًا على تقصير العطلة القضائية والمسّ بصندوق التعاضد، أو أيضًا اعتراض عام 2017 على مشروع سلسلة الرتب والرواتب الجديدة، أو اعتكاف آذار 2018 على أثر مشروع الموازنة العامّة لتلك السنة وخفّض تقديمات صندوق تعاضد القضاة.[9] ولن ننسى إنشاء مجموعة “واتساب” في نيسان 2017 أصبحت تؤدّي دورًا مهمًّا في التواصل بين القضاة وبناء وعيهم الجماعي كما سنرى لاحقًا، والتي حاول مجلس القضاء الأعلى إغلاقها، وقد وثّقنا كيفية نشوئها ومواجهة أعضائها لاعتراضات المجلس. مجموعة تواريخ ومناسبات تحرّك فيها القضاة في العقود الأخيرة، تذكّرنا بها لجنة المتابعة التي نشأت خلال أزمتنا هذه.

“لماذا أُنشئت اللجنة القضائية؟ لأنّ الطبيعة تكره الفراغ، وإن عمل مجلس القضاء الأعلى كان فراغًا في السنتين الماضيتين. فهم لم يقوموا بشيء لتحسين أوضاع القضاة. طبعًا هم يقولون إنّهم لا ينامون الليل، إلّا أنّنا لم نر أي نتيجة حتى الآن. وكان من الطبيعي أن ينهض قضاة آخرون من خارج مجلس القضاء ليملأوا هذا الفراغ ويقوموا بشيء ما لأنّ الوضع لم يعد يحتمل”.[10]

طال انتظار القضاة من دون أن يلتفت أحد لأوضاعهم، بحيث دام سنتين ونصف تقريبًا، من نهاية 2019 إلى ربيع وصيف 2022. وقد تدلّ هذه الفترة الطويلة نسبيًا، والتي كان خلالها القضاة يفتقدون تدريجيًا إلى أبسط مقوّمات الحياة الكريمة والعمل المنتج، على مدى أهمّية رصيد المشروعية التي ما زالت تتمتّع به الهيئات المنظِّمة القضائية، وبالتالي المدّة الضرورية لكي يفقد القضاة تدريجيًا ثقتهم وأملهم في أن تقوم هذه الهيئات “بشيء ما”. كما قد تشير إلى استكبار القضاة لحجم الأزمة وشعورهم بالعجز أمامها، إلى أنْ قرع الجوع أبوابهم عام 2022 فتحرّكوا. وبقدر ما يحتاجه رصيد الثقة هذا إلى الوقت من أجل أن يفقده القضاة (أنظر الورقة السابقة)، فإنّه بحاجة إلى وقت طويل مماثل، وربّما أطول، ليعاد بناؤه مستقبلًا، وليتمّ ترميم العلاقة بين القضاة وهيئاتهم المنظِّمة.

وأدّت مجموعة الـ “واتساب” التي تجمع معظم قضاة لبنان دورًا مهمًّا في تكوين الوعي الجماعي عندهم، أي الوعي بأنّ الوضع لم يعد يحتمل. عبره، ينتقل القاضي من الوعي الشخصي بأنّ وضعه المادي سيّئ، إلى الوعي الجماعي بأنّ معظم زملائه يعانون من المشاكل نفسها، ويعتبرون مثله أنّ وضعهم غير مقبول، وهو شرط ضروري لتنطلق التحرّكات الجماعية وتنجح. ففي التجارب الجماعية السابقة لقضاة لبنان، لا سيّما قبل عام 2010 أو حتى 2015 مثلًا، لم يكن لهم مساحة للتفاعل بشكل مستمرّ ومباشر، سوى من خلال الجمعيّات العمومية التي كانت تجمع مئات القضاة في مكان واحد وزمان واحد، وتطرح بالتالي تحدّيات لوجستية مهمّة، بخاصة بالنسبة للقضاة الآتين من مناطق بعيدة. لذلك كان اللجوء إليها استثنائيًا ونادرًا، كما يدلّ تاريخ الجمعيات العمومية في القضاء اللبناني في السنوات الثلاثين الأخيرة. إلّا أنّه مع تطوّر مجموعات “واتساب” في القضاء، ولا سيّما المجموعة التي باتت تجمع معظم القضاة أي ما يشكّل أضعاف أعضاء النادي مثلًا (وهو دليل آخر على الدور الفريد الذي تؤدّيه مجموعة الـ “واتساب”)، ظهرت مساحة مشتركة جديدة يمكن لأيّ قاض عليها أن يعبّر فيها عن مشاكله وانتقاداته ومطالبه. فيصبح لجميع القضاة القدرة على متابعة تراكم الشكاوى والأفكار أمامهم مباشرة، ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم. وفي حين أنّ هذه الورقة ليست المكان المناسب لدراسة آثار التطوّرات التكنولوجية على سبل تحرّك القضاة وقدراتهم الجماعية، إلّا أنّه في حالة اللجنة التي تهمّنا هنا بالذات، أدّت مجموعة الـ “واتساب” دورًا مفصليًا إذ تراكمت عليها في بداية وخلال صيف 2022 كمّية هائلة من شهادات القضاة المؤلمة واليائسة. وبدأ قسم كبير من القضاة يتخطّون الحشمة التي تمنعهم عادة من مشاركة مصاعب حياتهم الشخصية وحاجاتهم المادية، ليعبّروا أمام جميع قضاة لبنان (زملائهم) عن الوضع المادي المزري والخطير الذي وصلوا إليه.

“وبالفعل في أوائل الصيف، بدأ يظهر تململ في صفوف كلّ الذين لم يعتكفوا من قبل، وأصبح البعض يقول علنًا للقضاة، على مجموعة الـ ‘واتساب’، أنّ الوضع لم يعد يحتمل، وأنّه لا يمكن للقضاة أن ينتظروا إلى الأبد لكي يفعل مجلس القضاء شيئًا، وأنّ على القضاة أن يتحرّكوا بمفردهم”.[11]

لذلك، تقرّر على مجموعة الـ “واتساب” إنشاء لجنة متابعة، هدفها الاهتمام بشؤون القضاة المادّية الطارئة، لمحاولة إيجاد الحلول السريعة لها قبل أن ينهار الجسم القضائي بأكمله. فتشكّلت اللجنة من قضاة تمّ اختيار أسمائهم عبر المجموعة، من دون الحاجة إلى تنظيم جمعيّات عمومية كبيرة بين القضاة. ومن الواضح، من خلال هذه الوسائل البراغماتية والواقعية لإنشاء اللجنة واختيار أعضائها، أنّ الأولويّة لم تكن أبدًا في صيف 2022 لبناء تيّار إصلاحي وتغييري داخل القضاء آنذاك، إنّما لإيجاد حلول مادّية عملية بأسرع وقت ممكن وبكل الوسائل المتاحة، بغض النظر عن قنوات أو حتى لغة المطالبة التقليدية والمؤسّساتية. المهمّة واضحة ومحدّدة: القيام بالاتصالات اللازمة مع الجهات الرسمية والخاصّة لتأمين بعض الأساسيات للقضاة والاستفادة من علاقات القضاة الشخصية.[12] إنّ “لجنة المتابعة القضائية” هي وليدة “الواقع والضرورة”[13]، بعيدًا عن أيّ طموح على المدى الطويل. حصّلت اللجنة بعض المنافع المادية (قسائم شراء محروقات لكلّ قاضٍ، تخفيضات على فاتورة الاتصالات، إلخ..)، ما أكسبها ثقة القضاة نظرًا إلى فعاليّتها، علمًا أنّها تتمتّع بشرعية عالية لأنّها “تمثّل كلّ القضاة” من خلال مجموعة الـ “واتساب”.

“لو عمل الوزير الشغل، ما كان في داعي للجنة. نحن طلبنا من الجهات الرسمية تحكي بإسمنا ولكن ما حدا حكي، صاروا يكبّوها على بعض”.[14]

لا شكّ أنّ اللجنة، وبشهادة القضاة، قامت بدور الجهات الرسمية. وقد أصرّ بعض القضاة على إبراز تقصير هذه الجهات مقارنة مع عمل اللجنة: فعندما طلبت اللجنة من وزارة الاتصالات منح القضاة تخفيضات على فواتير الهاتف أسوة بالعسكريين، كان جواب الوزارة أنّه لم يطلب ذلك أحد من قبل، “فلماذا تشتكون وأنتم لم تطلبوا؟”.[15] وأضاف القضاة هذه الحادثة إلى لائحة الحوادث الطويلة التي تثبت لهم أنّ لا أحد يكترث لأوضاعهم في الأزمة، بما أنّ هذه اللجنة القضائية التي أوجدوها عفويًا على “واتساب” كانت السبّاقة في المطالبة ببعض الأمور البديهية التي تخفّف عليهم الأعباء المادية، فيما لم تقم الهيئات المنظِّمة بأيّ شيء. وبالإضافة للحصول على بعض العروض والتقديمات، باشرت اللجنة بشكل فعّال في صيف 2022 مفاوضات مباشرة مع المصرف المركزي والجهات المالية من أجل تأمين تحسينات معيّنة على راتبهم، كأنْ يقبضوه على سعر صرف 8000 ليرة لبنانية مثلًا، وهو ما عُرف “بآلية تمّوز”. إلّا أنّ هذه الآلية لم تسرِ سوى لمرة واحدة، بما أنّه تمّ تعطيلها بسبب بعض المناكفات بين جهات قضائية ووزارية، ومع تحرّك الموظفين في الإدارة العامّة الذين أصبحوا يطالبون حينذاك بتقديمات مماثلة. ويعتبر بعض القضاة أنّه تمّ تحريك الموظفين ضدّ القضاة من قبل بعض الجهات التي لم تكن راضية عن عمل اللجنة، ما عطّل الأمر بكامله. وقد أدّى هذا التعثر إلى الاعتكاف القضائي الكبير في أيلول 2022، عندما اعتكف أكثر من 400 قاضٍ في العدلية، وهو رقم كبير يمثّل أكثر من ثلثي القضاة، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة في نهاية ذلك العام للتحرّك لتأمين مبالغ تدفع للقضاة بالدولار الأميركي عبر صندوق التعاضد، وهو الحلّ الذي ما زال يعتمد حتى العام 2024.

“كل هذا كان إثباتًا أنّنا صرنا نرقّع ترقيع، ما في سلطة أساسية بالقضاء تقرّر. بمجرّد أنّ الحل لم يأت عن طريق المجلس بالتعاون مع وزير العدل، دليل أنّنا عم نرقّع.”[16]

تراجع دور لجنة المتابعة القضائية بعدما قامت بما كان قد طُلب منها. وتبقى هذه الآلية طبعًا غير كافية، إذ أنّها كناية عن مساعدات غير واضحة المصدر والقيمة والمصير، يتلقّاها القضاة كلّ شهر من دون أن تصبح جزءًا رسميًا من راتبهم، ومن دون أن يعلموا إن كانوا سيتلقّونها على المدى المنظور وإلى متى. إلّا أنّ تأمين الدولارات عالج الأمور الطارئة، وهو ما كان قد افتقده القضاة في السنتين السابقتين، عندما كانت رواتبهم بالليرة اللبنانية التي خسرت خلال تلك الفترة أكثر من 90% من قيمتها. لا شكّ أنّ اللجنة هي من المبادرات التي تكلّمنا عنها في المقدّمة، والتي لم تذهب مأسستها بعيدًا، إذ وُجِدَت لسدّ فراغ سببه عجز الهيئات المنظِّمة، وللتعاطي مع حالة الطوارئ المادية التي فرضت نفسها على العدلية، ثمّ تراجعت عندما انتهت الحالة الطارئة هذه، واقتُرِحت بعض الحلول المقبولة مرحليًا، والتي أبعدت كأس البؤس عن القضاة ولو مؤقّتًا وإن بآليات ملتبسة.

وإذا قارنّا بشكل سريع لجنة المتابعة هذه مع سابقاتها من تحرّكات ولجان رأت النور في العقود السابقة، خلال الحرب الأهلية أو بعدها، نلاحظ فوارق عدّة مثيرة للاهتمام. أوّلًا، لم تعبّر لجنة 2022 عن مطالبها بلغة الحقوق، أي حقوق القضاة، إنّما دخلت في مفاوضات براغماتية واقعية مع مختلف المؤسّسات الرسمية والخاصّة، والقوى السياسية، من أجل إيجاد حلول سريعة ومباشرة تؤمّن للقضاة حاجاتهم المادية الأساسية، من دون المرور عبر وساطة “الحق”، واللغة المطلبية التقليدية. بكلمات أخرى، تمّ التفاوض على تخفيض فاتورة الاتصالات أو الوقود من دون الحاجة إلى الإشارة خطابيًا إلى حقوق القضاة بالاستقلالية الماديّة مثلًا. ثانيًا، غابت المسائل المعنوية كلّيًا عن مطالب وجهود اللجنة هذه، بعكس معظم الحراكات السابقة في تاريخ العدلية، حيث كانت المطالب المعنوية، أي المتّصلة باستقلال القضاء وبالإصلاحات التشريعية، تحتلّ مكانًا في واجهة المطالب القديمة، وإن حصل ذلك أحيانًا بهدف إضفاء شرعيّة ما على المطالب المادّية التي كانت ترافقها أو تعقبها مباشرة. إلّا أنّه في حال لجنة 2022، لا نجد أيّ أثر للمطالبات المعنوية التي تركت المجال بشكل كامل ليس فقط للمطالب المادّية العامّة التي كان يطالب القضاة بها تقليديًا، مثل تحسين الرواتب أو تقديمات صندوق تعاضد القضاة، بل بشكل خاص هذه المرّة لمطالب مادّية مباشرة لم نعتد قراءتها في لائحة المطالب القضائية، مثل التقديمات العينية التي ذكرناها، إضافة طبعًا إلى المطالبة بمبالغ شهرية بالدولار. ولا شكّ أنّ انحلال البعد الحقوقي والمعنوي، ليس فقط في عمل اللجنة إنّما في مجموع مطالبات القضاة في سنوات الأزمة، ليس إلّا دليل آخر على عمق الأزمة المادّية التي أصابت معظم قضاة لبنان، لا سيّما هؤلاء غير المدعومين من ثروات عائلية، ما همّش كليًا مسائل كانت قد احتلّت واجهة المطالبات القضائية لعقدين من الزمن. ومن اللافت للانتباه هنا أيضًا أنّه عندما ركّز نادي القضاة على هذه المسائل المعنوية الحقوقية المتراجعة، فقد شيئًا من زخمه في السنتين الأخيرتين، نظرًا لانهيار قيمة الإشكاليّات المعنويّة في عالم القضاة، في موازاة انهيار قيمة الرواتب.

أمّا الميزة الثالثة التي طبعت عمل لجنة المتابعة الأخيرة، فهي اعتماد عمل اللجنة على علاقات القضاة الشخصية بشكل رئيسي وعلني، إذ كانت فكرة إنشاء اللجنة تعتمد منذ البداية على الاستفادة من علاقات بعض القضاة مع مسؤولين رسميين أو بعض الشركات الخاصّة، لتأمين بعض ما يحتاجون إليه في الأزمة. ودفعت هذه العلاقات الشخصية القضاة نحو القطاع العامّ (وزارات، المصرف المركزي…) إنّما أيضًا القطاع الخاص، بحثًا عمّا لم تكن الهيئات المنظِّمة القضائية قادرة على تأمينه. وهو ما لم نعتد عليه مع المبادرات والتحرّكات السابقة، حيث كان القضاة يتوجّهون عبر الأطر المؤسّساتية، وبشكل رئيسي إلى الهيئات المتمثلة بمجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل، أو مجلسَي الوزراء والنوّاب بأقسى حدود. ولا شكّ أنّ الابتعاد اليوم عن الأطر المؤسّساتية، كما عن الحلول الرسمية والمؤسّسات العامّة، هو من عوارض انهيار مؤسّسات الدولة بمعظم مقوّماتها، ما جعل القاضيات يهجرن وسائل عملهنّ التقليدية للاستفادة من علاقاتهنّ الشخصية، في ظلّ صمت الهيئات المسؤولة.

بروز أدوار قضائية هجينة

وإلى جانب هذه المحاولة الجماعية التي خفّ وهجها في السنة الماضية، كان دور آخر للقاضي علي إبراهيم، وهو رئيس صندوق تعاضد القضاة بالإضافة إلى كونه مدعيًا عامًا ماليًا وعضوًا في لجنة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان، والذي قام هو أيضًا من جهته بمبادرات عدّة لتأمين بعض المداخيل الإضافية للقضاة. واللافت في تحرّكاته هذه هو طابعها الهجين، إذ أنّها كانت تمزج دائمًا بين موقع إبراهيم الرسمي على رأس صندوق التعاضد وعلاقاته الشخصية التي تجعل منه من أكثر القضاة النافذين في العدلية. كما كانت تمزج بين ما يدخل مباشرة ورسميًا ضمن مهام وصلاحيات الصندوق وما يشكّل مداخيل قد يستغرب المراقب تأمينها بهذه الطريقة التي بدت وكأنّها ارتجالية أو عشوائية. وأدّى القاضي إبراهيم هذا الدور طوال فترة التخبّطات القضائية ابتداء من نهاية 2021، إذ “شارك في التفاوض” مثلًا مع المصرف المركزي من أجل تأمين مداخيل إضافية للقضاة،[17] كما كان موجودًا في محطّات أخرى خلال الأزمة.

وأعطى وجود رئيس صندوق تعاضد القضاة إلى جانب لجنة المتابعة مشروعية أكبر لتحرّكاتها (إذ أنّ الصندوق جهة رسمية ومن صلاحيّاتها هذه الأمور)، وثقة أكبر في التفاوض، كما أكسب إبراهيم شرعيّة تمثيلية معيّنة لم يرتح لها جميع القضاة. فقد ابتكر حلولًا “بسيطة وسريعة”، وإنّ لم تكن دائمًا قانونية (لكن لم يعد الكثيرون في العدلية يسألون عن قانونية المبادرات في الأيام الصعبة تلك)، بحثًا عن مصادر دخل تغذّي الصندوق الذي كان يمرّ بمرحلة دقيقة بحيث تضاءلت بشكل كبير تغطيته لنفقات القضاة الصحّية والمدرسية. كان أبرز هذه الوسائل الغريبة لتأمين الأموال فرض طابع قيمته مئة ألف ليرة مثلًا، بدلًا من خمسين ألف سابقًا، على كلّ المعاملات القضائية، فيجبيها الصندوق لتحقيق مداخيل أكبر من السابق. وتمّت هنا طبعًا الاستفادة من حاجة المتقاضين والمحامين لإتمام معاملاتهم القضائية بأسرع وقت، كما من فقدان بعض الطوابع ذات القيمة الصغيرة، من أجل فرض استعمال الطوابع هذه، ما دفع البعض إلى وصفها بـ “خوّة قضائية لتمويل صندوق التعاضد”.[18] ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة من قبل الصندوق، أو حتى من قبل الوزارة (عبر سياسة الطوابع أيضًا، هذه المرّة على تحرّك الدعوى الجزائية)، من أجل ابتكار وسائل تمويل جديدة، بغضّ النظر أحيانًا عن قانونيّتها. كما تمّ استعمال موقف السيارات العائد لقصر العدل في بيروت لصالح الصندوق، عبر فرض رسم قيمته خمسون ألف ليرة على ركن السيارة[2] [3] ، تذهب هنا أيضًا إلى الصندوق.

وكان قضاة ومحامون عدّة قد عبّروا أمامنا عن دهشتهم أمام هكذا حلول ظرفية وعفوية وحتى غير قانونية (وهي معدية بشكل كبير، إذ ألهمت المساعدين القضائيين الذين اعتمدوا حلولًا مماثلة كما سنرى لاحقًا). إلّا أنّ هذه الممارسات تدلّ مرة أخرى على تداعي الأصول القانونية والرسمية، تاركة المجال لاجتهاد القضاة من جهة عبر تحرّكاتهم ولجنتهم، كما عبر صندوق التعاضد ورئيسه من جهة أخرى، من خلال مبادراته البعيدة أحيانًا عن النصوص، إنّما القريبة إلى قلوب القضاة الجائعين. ويستدعي فعلًا مشهد العدلية في السنوات تلك تعجّبنا، حيث نرى قضاة من جميع الدرجات والمراكز يتحرّكون فرديًا وجماعيًا في كلّ الاتجاهات، ونحو كلّ من له يد في تحسين أوضاعهم ولو لشهر أو أسبوع، وعبر كلّ الوسائل المتاحة بغضّ النظر عمّا تقوله نصوص لم يعد أحد يأخذها على محمل الجدّ. خلطت الأزمة بالفعل كلّ أوراق العدلية، بين المراكز والصلاحيات والأصول، وعبر الحدود بين ما يسمح به القانون وما يمنعه، والتي أصبح الجميع يجتازها كلّ يوم من دون تعليق يذكر، ومن دون أن يتجرّأ المراقب على إصدار أيّ رأي أخلاقي أو قانوني حول هذا الموضوع. إنّ انهيار الأصول والقواعد في قلب المؤسّسة المخوّلة تطبيق القانون وفرضه، له رمزية قلّ نظيرها في السنوات الأخيرة. هي تشير إلى ما آلت إليه الأوضاع في القضاء والمجتمع اللبناني بشكل عام، من انحلال تدريجي، ولكن أكيد، للفواصل والحدود بين القطاعات والمهن، إنّما أيضًا بين ما هو مقبول وغير مقبول في فضاء القضاة.

عندما تدفع الأزمة المساعدين القضائيين نحو التنظيم

شكّل المساعدون القضائيون “لجنة تنسيق المساعدين القضائيين” عند بداية الأزمة وبفعل تراجع أوضاعهم المادية مثل القضاة، وذلك من ضمن التحرّكات والمبادرات التي أنتجها الانهيار الاقتصادي. ويلحظ هنا أيضًا أنّها لم تكن المرّة الأولى التي يتحرّك فيها هؤلاء في العقد الأخير. بحيث بدأت تجربة المساعدين القضائيين المعاصرة في العمل الجماعي سنة 2017، عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب. وقد أتى تحرّكهم آنذاك على شكل إصدار بيانات، وحتى إعلان إضرابات عن العمل (مع استثناء الحالات التي فيها مهل، والملفّات التي تتعلّق بموقوفين)، من دون أن يأخذ شكل “التنظيم”.[19] ويعتبر الموظّفون أنّ هذا الحراك شكّل تجربة أوّلية في التحرّك كمساعدين قضائيين، وحجر أساس لترسيخ فكرة الحقّ في جهاز تمثيلي ينقل صوتهم ومعاناتهم. علمًا أنّ المساعدين القضائيين لم يكن لديهم جسم كهذا من قبل. فالصندوق التعاوني للمساعدين القضائيين يرأسه قاضٍ، وهو غير مهيّأ لأداء هذا الدور التمثيلي. وفي العلاقة بين التجربتين، التي يشدّد عليها المساعدون، فرصة للتمعّن في مفاعيل التعلّم الزمني بين التجارب المختلفة بالنسبة للقضاة والمحامين والموظفين. فإنّ كلّ تجربة جماعية أو مطلبية اليوم، وحتى لو لم تكن ناجحة أو لم تصل إلى أهدافها، تشكّل مدماكًا لبناء تحرّكات مستقبلية أكثر نجاحًا، من خلال دروس التجارب الأولى التي يتناقلها المهنيّون بين بعضهم وبين أجيالهم. هذا هو مفعول التعلّم الحراكي الذي تعرفه جيّدًا العلوم الاجتماعية، والذي هو بمثابة بارقة أمل لكلّ الذين أحبطهم فشل محاولاتهم في الأمس واليوم.

فرضت الأزمة على المساعدين وضع تحرّكهم في إطار تنظيمي لكي يتمكّنوا من مواجهة الهموم المعيشية التي أتى بها الانهيار الاقتصادي، ومن بعده جائحة كورونا ومعها إقفال المحاكم، وصولًا إلى محطّات الأزمة الأخرى. فالعمل الفردي أو غير المنظّم الذي كان ممكنًا ربما قبل 2019 لم يعد كذلك اليوم، أمام قساوة الأزمة التي فرضت تنظيمًا ومثابرة غير مسبوقين. فبينما كان بعض المساعدين يتابعون تطوّر الأمور عن قرب في بداية الحراك، قرروا تنظيم بانتخابات للبناء على “الظرف الثوري” وما يتيحه. شارك في الانتخابات حوالي مائتي مساعد قضائي في قصر عدل بيروت، ليتمّ تشكيل لجنة من خمسة أعضاء كانوا قد أعلنوا ترشّحهم (وصل عددهم إلى ثلاثة بعد أن ترك اثنان منهم الوظيفة في مرحلة ما لاحقًا). انتقلت من بعدها التجربة إلى قصور العدل الأخرى، فأصبح في كلّ منطقة لجنة منتخبة تمثّل المساعدين القضائيين فيها، وإن حافظت لجنة بيروت على مركزيّة معيّنة سمحت لها بأداء دور أساسي لاحقًا. هنا أيضًا نرى كيف أنّ الأزمة لا تدمّر فقط الحواجز بين المهن والقطاعات، إنّما بين المناطق أيضًا، إذ أنّ تجربة جماعية تمّ بناؤها خلال اللحظة الثورية في العاصمة، سرعان ما انتشرت في المناطق الأخرى من خلال عدوى تنظيمية ومطلبية استثنائية في زمن الاضطرابات.

أجرت اللجان سريعًا اتصالاتها لمحاولة تحصيل مكتسبات مادّية للمساعدين القضائيين، بالتعاون مع رئيس الصندوق التعاوني القاضي جوزف تامر الذي بدا أنّه يحظى بثقة جزء كبير منهم، لا سيّما خلال أيام الأزمة الصعبة. كما أتت محاولات من قبل وزير العدل ورئيس صندوق تعاضد القضاة (هنا أيضًا)، القاضي علي إبراهيم، والتي نجح بعضها، والبعض الآخر باء بالفشل. توصّلت اللجان في خطوة أولى، بالتنسيق مع الرئيس تامر ووزير العدل، إلى رفع قيمة الرسم المالي الذي يعود للصندوق التعاوني الخاص بهم، إلى مئة ألف ليرة، واقتطاعه بموجب “أمر قبض” مباشرةً من دون أن يدخل في خزينة الدولة. وشرح لنا مساعد قضائي في مقابلتنا معه أنّ ذلك يسمح بالاستفادة من هذه المبالغ فورًا، بدل من أن تدخل إلى الخزينة ومن ثمّ يستردّونها كما كانت عليه الحال سابقًا، ومن ثم يعود رئيس الصندوق ويوزّع المبالغ التي تمّت جبايتها على المساعدين القضائيين. وقد علمنا من خلال المقابلات أنّ وزارة المالية لم تدفع هذه المستحقات خلال السنتين السابقتين لاعتماد الحلّ الجديد، أي أنّها لم ترسل إلى صندوق المساعدين أيّ مبلغ من قيمة الرسم المالي العائد له. وعلمنا أنّ طباعة دفاتر “الوصل” أو “أمر القبض” الذي أصبح يستخدمه المساعدون القضائيون لاقتطاع الرسم المستجدّ، تمّ تمويله من قبل جهة خاصّة لم نتمكّن من تحديد هويّتها، ما يطرح مجدّدًا أسئلة عديدة حول طبيعة هذه الحلول الهجينة ومخاطرها، الضائعة بين ما هو قانوني وما هو ليس كذلك، وبين العام والخاصّ. وقد حصل هذا “التقدّم” بعد لقاء ممثلي اللجان مع وزير العدل ونقيب المحامين، وبعد موافقة كلّ منهما عليه، من باب مساعدة الموظفين على الاستمرار في تأدية الوظيفة.

وتداخلت طبعًا مصلحة المحامين في تسيير أعمالهم مع مصلحة المساعدين القضائيين في تغذية صندوقهم لإنتاج هذا الحلّ، ما جعل النقاش هنا أيضًا حول قانونية هكذا اجراءات أمرًا ثانويًا، لم تلتفت إليه أيّ جهة حينذاك. ومن اللافت أنْ تعترف بعض الجهات المسؤولة لدى المساعدين بالإشكاليّات القانونية التي تطرحها حلول كهذه ابتُكِرَت في طوارئ الأزمة، إلّا أنّها تعتبر أنّ حل “الرسم غير الرسمي” هذا مؤقّت، وهو ليس إلّا تمهيدًا لفرض طابع لصندوق المساعدين القضائيين بشكل قانوني، “عندما يكون هناك إمكانية لتشريعه”. نرى إذًا، العوارض ذاتها التي وثّقناها عند القضاة: انحلال تدريجي للضوابط القانونية والتنظيمية التي أصبحت هدفًا ساميًا يطمح الفاعلون القانونيون الأكثر تمسّكًا بالأصول، إلى الوصول إليه يومًا ما، عندما تسمح السياسة بذلك. بمعنى آخر، تسمح طوارئ الأزمة باعتماد الحلول التي تنتجها السياسة، بانتظار مشيئة السياسة نفسها بقوننة هذه الحلول متى يحلو لها، وهي حلول سارية منذ الآن في جميع الأحوال: هذه هي معادلة العدلية في زمن الأزمة. عندما تتوقف المؤسّسات الدستورية عن العمل، أو عندما تسخّر قدراتها لأهداف غير التي أنشئت من أجلها، يتحرّر الفاعلون الإداريون كما القضائيون لابتكار الحلول التي تبدو لهم منطقية وعادلة. ولكلّ فاعل ومهنة منطقه الخاص وعدالته الخاصّة، ما يؤدّي إلى الصورة المهيمنة منذ أربع سنوات: غابة من الحلول الظرفية، المبعثرة وأحيانًا المتناقضة، المبنيّة كلّها على مفهوم خاص وطارئ للعدالة، بينما تخلّت المؤسّسات الرسمية ومعها الدولة عن أيّ طموح لتحديد مضمون مشترك للعدالة هذه، لتستعيد القوانين التي تحملها شيئًا من مشروعيّتها.

بالإضافة إلى هذه الحلول المالية الضبابية، حاولت اللجان تخفيف أعباء الأزمة على المساعدين من خلال إيجاد مداخيل أخرى تغذّي الصندوق، كما من خلال تنظيم الحضور إلى المحكمة بشكل يتماشى مع الأزمة، حيث يحصر الموظف مهامه وينهيها بعدد قليل من الأيام، تخفيفًا لمصاريف الحضور إلى العمل.

“بدل ما يجي الموظف ثلاث أيام بالأسبوع، بيجي يومين، بدلًا من أن يكفينا المعاش أسبوع، يكفينا أسبوعين”.[20]

تثير هذه النقطة مسألة التفاعل والتعاون بين المساعدين القضائيين وموظّفي الإدارة العامّة الذين لديهم أوضاع صعبة مشابهة، وكان لهم تحرّكات وإجراءات عديدة في السنوات الأخيرة للتعامل مع الأزمة. وفيما تنجح لجان المساعدين بالتنسيق بين بعضها البعض في المناطق، تصطدم في المقابل بعراقيل مهمّة عند محاولة التنسيق مع باقي الموظّفين في الإدارات الأخرى. وإذ يعتبر المساعدون أنّ التعاون مع لجان الموظّفين الأخرى أمر ضروري للطرفين، إلّا أنّهم عبّروا لنا عن حرصهم على استقلاليّتهم ضمن حراكات الوظيفة العامّة مؤخرًا. فهم يعتبرون أنّ لوضعهم في القضاء خصوصية مقارنة بالموظّفين عمومًا، بما أنّ عملهم يتعلّق بحقوق الأفراد وبالمهل التي تحدّد مصير هذه الحقوق، كما بالموقوفين وحرّيتهم، وكلّها مسائل يعتبرونها خطيرة ومختلفة عن الإشكاليّات التي على الموظّفين الآخرين التعامل معها. لديهم شعور بمسؤولية خاصّة وفريدة تميّزهم عن سائر مساحات الإدارات العامّة، ولديهم واجبات لا يعرفها الموظّفون الآخرون. ونتيجة ذلك أنّهم يشدّدون على عدم قدرتهم على مجاراة الموظفين دائمًا في الإضرابات.

ويلومهم، في المقابل، الموظّفون الآخرون لهذه الناحية، ويتّهمونهم بأنّهم “تحت وصاية” القضاة وليسوا أصحاب قرارهم، بفعل عدم قدرتهم على الالتزام بالحراكات، ممّا يولّد حساسيات متكرّرة بين الجسمين. ويسمح لنا هذا التشنّج المهني حول وسائل التحرّك، بإلقاء نظرة ما زالت نادرة داخل الهويّة المهنيّة للمساعدين القضائيين. ويبدو عالمهم المهني مقسومًا بين القضاء من جهة، والإدارة العامّة من جهة أخرى، مع ما يستتبعه ذلك أحيانًا من تناقض في الهويّة المهنيّة، وفي نظرتهم إلى وظيفتهم وإلى أنفسهم. ويؤثر ذلك بدوره على قدرتهم على التحرّك، وعلى وسائل تحرّكهم بشكل عام، التي تبقى مختلفة عن سائر الموظّفين كما عن القضاة. كما أوحى لنا أكثر من فاعل قضائي التقيناه خلال بحثنا، أنّ عدم حماسة المساعدين القضائيين على الإضراب العام والتام والطويل مرتبطة أيضًا بالواقع الذي كان موجودًا قبل الأزمة، إلّا أنّه تعاظم بعدها، وهو أنّ جزءًا مهمًّا من مدخول بعض المساعدين يأتي من خارج الراتب، من خلال المعاملات والملفات التي يعالجونها في عملهم كلّ يوم، فيأتي الإضراب التام الذي يريده سائر الموظفين ليعاقبهم مادّيًا بشكلٍ قاسٍ، في زمن لم يعد لراتبهم فيه أيّ قيمة.

“ما فينا نسكّر جمعتين ثلاثة، لأنّ مسائبة إنّ نحن بإدارة عندها حجم وتأثير وموقع كبير. ما فيك تخلّي الموقوف موقوف”.[21]

وما أثار انتباهنا أيضًا هو أنّ تحسين الأوضاع المادّية لم يكن أولويّة اللجان التمثيلية الوحيدة خلال الأزمة. حاولت اللجان إرساء فكرة أهمّية المساعدين القضائيين في القضاء، كعنصر أساسي في سير العدالة في لبنان، وأنّ القضاء لا يُختصر بالقضاة. بالتالي، فإنّ التحسينات التي طرأت على مداخيل القضاة لا تعني أنّ القضاء بخير، تبعًا لأهمّية دور المساعد القضائي الذي ما زال وضعه صعبًا، حسب الممّثلين الذين قابلناهم. وكانت هذه نقطة حسّاسة جدًا بالنسبة للمساعدين الذين عبّروا عن قهرهم القديم أمام تغييب المساعدين في الخطاب الإصلاحي والإعلامي حول القضاء. شددّوا على أهمّية إعطاء أوضاع المساعدين أولويّة من أجل النهوض بالعدلية، ليس فقط من الناحية المادّية، إنّما أيضًا المعنويّة. وقد بدت هذه المسائل المعنويّة المتعلّقة بالعلاقة مع القضاء والقضاة أكبر حجمًا في خطاب المساعدين في الأزمة ممّا هي عليه في خطاب القضاة، الذي هيمن عليه الهمّ المادي بشكل كامل كما سبق ورأينا. فيبقى أحد أكبر أهداف اللجان، على الأقل حسب أحد أعضائها، وضع مبادئ تنظّم علاقة القاضي بالمساعد القضائي وعمليًا إعادة الاعتبار لمهنة هذا الأخير، إذ يشتكي المساعدون من تعامل بعض القضاة معهم بفوقية، وكأنّ “المساعد القضائي موظّف عند القاضي”.

“القاضي يدخل، يسلّم على الكلّ إلّا على الموظّف”.[22]

وسمعنا شكاوى من قبل المساعدين حول عدم اهتمام الكثير من القضاة بالتعاون معهم، من أجل التحرّك لتحسين أوضاع العدلية في الأزمة. شعروا أنّ القضاة قد يرحّبون بتحرّك المساعدين، طالما يبقى بعيدًا عن تحرّكهم، وطالما لا يبدو التحرّكان مرتبطين ببعضهما البعض، أو يتشاركان الأهداف أو الوسائل نفسها. ولم تغب هذه الرغبة في الحفاظ على مسافة ما بين المهنتين عن بعض المساعدين، الذين أسفوا أمامنا أن تكون أصعب أيام الأزمة غير كافية لمدّ الجسور بين القضاة والمساعدين. والسبب بالنسبة لهم يعود إلى ما قبل الأزمة بسنوات وعقود، وإلى التنشئة المهنيّة للقضاة والمساعدين، إذ تعلّم الطرفان أنّهما غير متساويين، وأنّهما لا ينتميان إلى العالم القضائي نفسه الذي يُنتَهَك مادّيًا ومعنويًا بجميع مكوّناته كلّ يوم في السنوات الأخيرة من دون أن يغيّر ذلك هذا الواقع. نجد إذًا هنا حدودًا لم تتمكّن الأزمة و”ميوعتها”، التي وثقتها العلوم الاجتماعية، من كسرها أو زحزحتها، فبقيت صامدة تفصل بين المهن القضائية وتعرقل تضامنها، إذ تظهره وكأنّه مخالف للطبيعة القضائية، فيتجنّبه القضاة فيما لا يجرؤ المساعدون على المطالبة به بعد. وغياب التضامن هنا له مفاعيل سلبية على نجاح الحراكات القضائية، إذ أنّ الفئتين مستضعفتان اليوم، وقد يكون حتى استضعاف القضاة غير المسيّسين أكبر من استضعاف المساعدين القضائيين، لأسباب متعلّقة بالاقتصاد السياسي للمهن القضائية في لبنان، لا مجال للغوص فيها هنا. وستكون هذه المسألة الحسّاسة، بالنسبة للموظفين والقضاة معًا، أولويّة من أولويّات المستقبل التي تنتظر المساعدين القضائيين، في حال تمكن تنظيمهم من تخطّي الأزمة التي سمحت بإنشائه، والتطوّر بعدها لحمل مطالبهم وتطلّعاتهم.

يبدو إذًا أنّ لقاء الأزمة مع العدليّة خلّف أولادًا كثيرين. بعضهم ولد في غرفة الطوارئ ولم يعش طويلًا بعد أن خفّ وهج الحراك عام 2020. بعضهم نشأ ليعالج مطالب مادّية آنية، واختفى ما إن تحقّق جزء منها. وبعضهم أخيرًا يحمل وعودًا بتنظيمات وحراكات مستقبلية تتخطّى الأزمة ونتائجها، لتعالج إشكاليات أساسية في عمل القضاء والمحاماة والوظيفة العامّة. وعلى الهيئات القضائية والنقابية التقليدية، من مجلس القضاء الأعلى إلى وزارة العدل إلى نقابة المحامين في بيروت، أن تتعلّم من تجارب هذه المبادرات التي نشأت حولها، واصطدمت أحيانًا بها، حتى ولو لم تدم طويلًا، وأن تأخذ العبر من عواقب تقصير الهيئات الرسمية في أوقات كان القضاة والموظفون والمحامون بأمسّ الحاجة إليها. ومع إنهاء رسم خارطة القوى التقليدية والجديدة في عالم القضاء اللبناني، يبدو واضحًا أنّ الهيئات التقليدية غير قادرة على انتشال القضاء اليوم من محنته المادّية والمعنوية، بسبب ترهّلها وتلوّثها أحيانًا بأمراض النظام السياسي. كما أنّ المبادرات الجديدة غير قادرة على ذلك، إذ أنّها ما زالت متواضعة وضعيفة، في حال بقيت موجودة. وإذا لم يتمكّن أيّ فاعل قضائي من القيام بهذه المهمّة المصيرية، وبوضع أسس الخروج من الأزمة، نخاف أن يأتي مرة أخرى فاعل من خارج القضاء، إن كان سياسيًا أو أمنيًا أو حتى خارجيًا، ليدّعي إنقاذه وبناء قضاء جديد سيشبه حتمًا القضاء القديم، ويضعه مجددًا تحت وصاية أخرى، لا شكّ أنّها ستكون أيضًا شبيهة بكلّ الوصايات التي وُضِعت على القضاء اللبناني منذ الاستقلال. على المهن القضائية بمكوّناتها الرسمية والجديدة أن تتحرّك، بالتعاون مع القوى المجتمعية الأخرى، من أجل رسم طريق المستقبل القضائي، قبل أن يرسمها لهم آخرون ليس القضاء بالنسبة لهم سوى وسيلة، من بين وسائل أخرى، للهيمنة على المجتمع اللبناني.


[1]  هل يجيز القانون اللبناني جلسات المحاكمة الافتراضية؟، ألين طانليان فاضل، المفكرة القانونية، 24 كانون الثاني 2021.

[2]  مقابلة مع قاضية، شباط 2023.

[3]  مقابلة مع محامية، أيار 2023.

[4]  مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[5] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[6] مقابلة مع قاضية، شباط 2023.

[7] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[8] حين تجمّع القضاة في لبنان، المفكرة القانونية، 2018.

[9] المرجع نفسه. أنظر أيضًا: القضاء العادي بجميع محطاته: رسم بلون الماء، المفكرة القانونية، 2018، ص. 216 وبعدها.

[10] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[11] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[12] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[13] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[14] مقابلة مع قاضٍ، حزيران 2023.

[15] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[16] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[17] المصدر السابق.

[18] “خوّة” قضائية لتمويل صندوق التعاضد، آمال خليل، الأخبار، 2 شباط 2023.

[19] مقابلة مع مساعد قضائي وأحد مؤسسي اللجنة، تموز 2023.

[20] المصدر السابق.

[21] مقابلة مع مساعد قضائي، تموز 2023.

[22] المصدر السابق.


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني