بورقيبة ورئيس الوزراء هادي نويرة خلال مؤتمر الحزب الدستوري الاشتراكي عام 1974
بدأت التفكير في مسألة النظام الريعي منذ ما يُقارب العشرين سنة. كنت أقيم آنذاك في مونبلييه، في فرنسا، وكان لديّ بعض الوقت الذي عملت على استغلاله بإطلاق برنامج بحث حول العولمة الرأسمالية في علاقاتها بدول العالم الثالث. حاولت أن أفهم لماذا تمكّنَت بعض البلدان في آسيا وأميركا اللاتينية، التي أُطلِقت عليها تسمية البلدان الصاعدة، من التطوّر والاستفادة من العولمة، بينما فشلت في ذلك بلدان أخرى معظمها عربية وأفريقية. ومنذ ذلك الحين، فرض عليّ مفهوم النظام الريعي نفسه وبدأت استخدمه في تحليلاتي.
لم أنشرْ قط نتائج هذا البحث (وقد أفعل ذلك يوماً ما)، لأنّني أوقفت بحثي بسبب “مفاجأة القدر”، الانتفاضة الشعبية في 2010-2011، التي أتاحت لي العودة إلى الوطن بعد أن أُجبرتُ على العيش ستّة عشر عامًا في المنفى. عدتُ إلى التفكير في النظام الريعي في سنة 2014، مُركِّزاً هذه المرّة على النموذج التونسي. وتوصّلت، في سنة 2015، إلى طرح مُسوّدة أولى في نحو 50 صفحة، كانت موضوع نقاش مستفيض بين مجموعة ضيّقة من الرفاق والأصدقاء. ثمّ أخذ ذلك الطرح الأوّلي شكله وتعمّق، أوّلاً في “وعد الربيع”(2016)، ثمّ في ”الطريق الآخر” (2019)، وأخيراً في “اليسار وحكايته الطويلة” الذي صدر مؤخّراً.
لم تُثر مقاربتي، في البداية، أيّ اهتمام أو فضول. ثمّ، وبطريقة أدهشتني أنا نفسي، بدأ مصطلح “النظام الريعي” ينتشر بسرعة، وتداوله العديد من وسائل الإعلام والفاعلين السياسيين الذين، غالباً، شوّهوا معناه ومرماه. وفي بعض الدوائر التي تحمل صبغة ليبرالية – وهي موجودة – أصبحت العبارة شائعة وعلى الموضة على نحو ماً؛ حتى أنّ بعضهم ادّعى أنّه صاحبها. وأسهم كلّ هذا في إضفاء مزيد من الغموض. وكنت أعزّي النفس بالقول إنّ الأمور تسير على هذا النحو عادةً عند تلقّي الأفكار الجديدة.
تتمحور مداخلتي حول ستّ نقاط. أبدأها بتحديد المصطلحات.
ا- مصطلحات تمهيدية
سوء الفهم الأوّل الذي ينبغي توضيحه ذو طبيعة دلالية، ذلك أنّني لا أعطي لكلمة ريع المعنى نفسه المُستعمَل في اللغة المتداوَلة. التعريف المألوف للريع كصنف اقتصادي هو: الدخل الناتج عن امتلاك مورد نادر. ويمكن أن يكون هذا المورد النادر مادّياً كالأراضي الزراعية، مثلاً، أو المناجم أو حقول البترول والغاز. ويكون الحديث هنا عن الريع العقاري أو الريع النفطي، أو ريع اليورانيوم أو الذهب أو الحديد، إلخ. غير أنّه يمكن أن يكون لا مادّياً أيضًا، مثلما هو الشأن في الابتكار التكنولوجي، عندما يحصل المرء على براءة اختراع الملكيّة الفكرية ويستغلّها، في شكل ريع (عائدات) متواصل طوال فترة براءة الاختراع.
ويختلف النظام الريعي الموجود في بلادنا كلّياً عن النظم الريعية من هذا النوع. فهو لا يقوم على أيّ ملكيّة مادّية، ولا يستند إلى أيّ اكتشاف علمي أو تقني. بل يقوم على منطق مختلف جذرياً، إنّ المكسب الذي يقوم عليه النظام الريعي التونسي هو المكسب السياسي، مكسب مرتبط بالقرب من السلطة السياسية والولاء لها.
إنّ التعريف الذي يصف هذه الحقيقة على الوجه الأفضل هو كما يلي: في نظامنا، الريع هو الدخل الناتج عن امتلاك مورد نادر هو القرب من السلطة السياسية. وفي نهاية المطاف، فإنّ هذه السلطة السياسية هي التي يعود لها تقدير مَن يمكنه الحصول على وضع صاحب الريع – والتمتّع بامتيازاته – ومَن لا يمكنه ذلك.
اا- كرونولوجيا
في تونس، لو توقّفنا عند المرحلة الحديثة فقط، فسنلاحظ أنّ سيرورة بنية النظام الريعي قد مرّت بمراحل عدّة:
شكّلت الستّينيّات المرحلة الأولى التمهيدية. وكان الميراث يشكّل أساس النظام الريعي، حيث تعتقد الجماعة الحاكمة أنّها المالكة، صاحبة السيادة على البلد الذي تحكمه. وهكذا عانَيْنا، خلال ستّينيّات القرن الماضي، ممّا يمكن أن نُسمّيه شكلاً وحشياً من النزعة التوريثية التجميعية. هاجمتْ النخبة الحاكمة المِلْكيّة الخاصّة، وسعتْ إلى وضع كامل النشاط الاقتصادي للبلاد تحت سيطرة الدولة، في نوع من الدافع الشمولي لدَوْلَنة الجسم الاجتماعي. ولمّا أُوقِفتْ هذه التجربة في وضع كارثي في سبتمبر 1969، كانت هذه المرحلة الأولى قد أدّت بوضوح إلى الإفلاس الدائم للفلّاحين، وتسبّبت في موجات متواصلة من النازحين من الريف الذين لجأوا إلى ما أصبح يُعرف في ما بعد بالقطاع “غير المنظَّم”.
ثمّ دخلنا مرحلة ثانية (1970-1985)، ظهرت خلالها النوى الريعية الأولى. وسّعت الجماعة الحاكمة، مع المحافظة على المكانة المركزية للقطاع العامّ، قاعدتها الاجتماعية بالتشجيع على ظهور قطاع خاصّ محميّ، في قطاع الصناعة بالأخصّ (في إطار استراتيجيّة ما يُسمّى بديل الواردات)، مع الحرص على الإبقاء عليه خاضعاً كلّياً. تمتّع الباعثون الجدد في القطاع الخاصّ – الذين اختير معظمهم من بين كوادر الحزب الواحد الحاكم حينها – بامتيازات اقتصادية كبيرة مقابل خضوعهم السياسي، مثل امتياز الحصول على القروض، واحتكار النشاط مع إمكانيّة بيع المنتوج بثمن أرفع بنسبة 30% من ثمن المنتجات المماثلة المُستورَدة سابقاً. وهكذا وُلد الريعيون الأوائل بعد الاستقلال.
أتاحت الآليّة الجديدة دفع عجلة النموّ لبضع سنوات، ثمّ تعطّلت الآلة مرّة أخرى نتيجة تدنّي الإنتاجيّة وضعف القدرة التنافسية. وهو ما استغلّه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سنة 1986 لفرض برنامج الإصلاح الهيكلي.
المرحلة الثالثة (1987-2010) وتشمل فترة حكم بن علي. إنّها لحظة التكثّف والتبلور، التي بقيتْ فيها اليد العليا للسلطة السياسية، في حين يشكّل أصحاب الريع أوليغارشيّة منفصلة كلّياً عن كتلة أرباب المؤسّسات الصغار والمتوسّطين في القطاع التنافسي.
كان الهدف من الإصلاح الهيكلي، على الورق، تحرير الاقتصاد، بتشجيع بعث المؤسّسات والقضاء على الاحتكار. لكنّ الأمور سارتْ، على أرض الواقع، في الاتّجاه المعاكس تماماً. لقد أدخلت جرعات من المنافسة على مستوى المؤسّسات بالغة الصغر والمؤسّسات الصغرى والمتوسّطة التي تشغّل أقلّ من 50 أجيراً. أمّا في ما يتعلّق بالمؤسّسات الكبرى، حيث يعشّش كبار الريعيين، فقد أدّى برنامج الإصلاح الهيكلي، على العكس من ذلك، إلى مزيد تثبيت الامتيازات الحمائية، بتركيزها على مستوى الأنشطة الأكثر ربحيّة، لا سيّما بعد خوصصة عشرات المؤسّسات العمومية. قبل برنامج الإصلاح الهيكلي، كان معظم أصحاب الأعمال الخواصّ الحاصلين على ترخيص من الإدارة يتمتّعون بالاحتكار والريْع الناتج عنه. أمّا بعد الإصلاح الهيكلي فقد أصبح وضع الريعي حكراً على أقلّيّة فقط، هم أصحاب الأعمال الأقرب إلى السلطة الذين يمكنهم الآن تنمية ثرواتهم بدون قيود.
هذا التمايز الذي حدث داخل صفوف أصحاب المؤسّسات مؤشّر على تحوّل إضافي في النظام الاقتصادي. وبعد سنة 1987، تحوّلت البلاد بسرعة إلى بنية ذات طبيعة أوليغارشية، بنية هيمنة تجمع بين بُعد ريعي وآخر مافيوي.
تحقّق هذا التحوّل في غضون سنوات قليلة. وقد استقوى أقارب الرئيس بجهاز الدولة الذي دعمهم في جني الريع لأنفسهم، من خلال بعث مؤسّساتهم الخاصّة أو بالاستيلاء، باستعمال التهديد، على مؤسّسات يملكها ريعيون أقلّ نفوذاً منهم. وتمكّنت عائلة الرئيس، بتوخّي ممارسات العصابات هذه، من التربّع على رأس إمبراطوريّة اقتصادية شاسعة: قوامها أكثر من 200 شركة في سنة 2010، تستحوذ على أكثر من 20% من إجمالي الأرباح التي حقّقها القطاع الخاصّ التونسي. وبدعم من القوّة المالية المتراكمة على هذا النحو، عمل أفراد الأسرة الرئاسية في الآن نفسه على إخضاع القطاع غير المنظَّم لسيطرتهم. وكان هذا القطاع قد توسّع بشكل كبير بعد دخول برنامج الإصلاح الهيكلي حيّز التنفيذ، وأتاح لأولئك الذين يهيمنون عليه فرصاً أكبر فأكبر للثراء. نظّم أفراد عائلتَيْ بن علي والطرابلسي أنفسهم لاختراق قنوات التوريد غير القانونية، وسرعان ما تبوّأوا موقع المزوّد الرئيسي للسوق الموازية في الموادّ الاستهلاكية الشعبية القادمة من الصين وإيطاليا وتركيا.
المرحلة الرابعة ابتدأت من سنة 2011، ولا تزال مستمرّة. وهي تتّسم بتصاعد هيمنيّ للأوليغارشيّة: ولم تعد هذه الأوليغارشيّة تعتمد حالياً على السلطة؛ بل أصبحت هي التي تشرف عليها وترعاها. لم تتمكّن الانتفاضة الشعبية من الحدّ من نفوذ الأوليغارشيّة في البلاد. من الأكيد أنّ بن علي قد أُقصيَ ومعه العديد من أفراد أسرته بعد 14 جانفي، ولكنّ المنظومة الاقتصادية التي اعتمدوا عليها لم تُفكَّك قط. اهتزّت الشبكات المافيوية والريعية لفترة قصيرة، ثمّ سرعان ما أعادت تنظيم صفوفها وتمكّنت من تحصين مواقعها مستفيدة من ضعف الدولة. ولعبت على تناقضات الفاعلين السياسيين المنخرطين في صراع شرس على السلطة بدون إيلاء أيّ اهتمام لأيّ شيء آخر.
وفي هذا السياق، لم يشهد الوضع أيّ تحسّن، بل ازداد سوءاً. ولم يقتصر التدهور على مجرّد تراجع بسيط. فقد شهدت السنوات الأخيرة حدوث تغيير حقيقي في طبيعة الأوضاع، أدّى إلى تحوّل عميق في مفاصل نظام الهيمنة وتراتبيّته الداخلية. قبل 14 جانفي، لم يكن بإمكان الأوليغارشيا أن تتوسّع وتنمو إلّا إذا حظيَت بدعم من المُمسكين بالسلطة. ولكنّها لم تعدْ اليوم في حاجة إلى هذه الحماية. لقد أصبحتْ الآن قادرة على الإمساك بزمام الأمور من خلال امتلاكها قنوات اتّصال مباشرة في الدوائر الإدارية الرئيسية، وكذلك في الجهاز القضائي والإعلام. وهي تمارس حالياً نفوذها في كلّ مكان، بما في ذلك داخل الأحزاب الحاكمة. لقد تحوّل ميزان القوى، في نهاية مساره التاريخي، وانقلب التنظيم الأبوي للسلطة، بطريقة ما، على نفسه. كان الريعيون سابقاً من عملاء البيروقراطيّة الحاكمة؛ أمّا الآن فقد أصبحت البيروقراطيّة هي عميلة الريعيين. وهكذا أصبح الخادم القديم هو السيّد الجديد والسيّد القديم هو الخادم الجديد.
رغم إقصاء بن علي فإن المنظومة الاقتصادية التي اعتمد عليها لم تُفكَّك قط.
تلخّص المراحل الثلاث الأخيرة كيفيّة تَشكُّل الطبقة الحاكمة الجديدة. في البداية، لم يكن لها وجود إلّا من خلال الأفراد والمجموعات العائلية المعزولة، ثمّ تماسكت كأوليغارشيّة إلى أن تحوّلت أخيراً إلى قوّة اجتماعية مهيمنة، قادرة على إعادة تشكيل الاقتصاد الوطني في مجمله طبقاً لمصالحها، على هذا النحو ظهر ما أسمّيه النظام الريعي.
قبل المواصلة أسوق ملاحظة أخيرة. إنّ النظام الريعي ليس وقفاً على تونس، إذ يوجد حاليا في عدد كبير من دول الجنوب، وأكرّر أنّه موجود بالأخصّ في المنطقة العربية وفي أفريقيا. وما قد يُميّز بلدنا في هذا الصدد هو أنّ هذه الظاهرة تبدو جليّة واضحة، لا تحجبها العوامل التي غالباً ما تخفيها في أماكن أخرى، مثل الريع البترولي في الجزائر والخليج، والصراعات الدينية أو العرقية في لبنان والعراق، إلخ. وعلى الرغم من هذه المصاعب الإضافية، فإنّ التفكير يتقدّم في كلّ مكان، ولكن يُلاحَظ أنّ الخطاب المناهض للريع يتردّد الآن حتّى في تظاهرات الشوارع، لا سيّما في لبنان والجزائر والأردن والعراق.
III- الرأسماليّة أو ما قبل الرأسماليّة، إشكاليّة الانتقال
ما هي طبيعة النظام الاقتصادي الذي وصفتُه، هل هو رأسمالي أم ما قبل رأسمالي؟ أفترض أنّه لا هذا ولا ذاك. ما هي طبيعته إذن؟ هذه المسألة لها أهمّيّة أساسية، ليس على المستوى النظري فقط، بل بالخصوص على المستوى السياسي العملي.
إذا لم تكن تونس رأسمالية ولا ما قبل رأسمالية، أو إنّها لم تعد تماماً هكذا أو لم تكن بالفعل كذلك، فذلك لأنّها تقع في منتصف الطريق بين النظامَيْن. إنّ بلدنا لا يزال يندرج ضمن سلسلة طويلة من التحوّلات التاريخية. في التصوّر الأمثل، ينبغي أن يفضي الانتقال من النظام ما قبل الرأسمالي القديم إلى النظام الرأسمالي الجديد. غير أنّ مسارات اللحاق بالركب ليست خطّية ولا تصاعدية، بل إنّها تبدو، على العكس، منغلقة على نفسها، بنفس درجة قوّة التوتّرات المتناقضة التي تشقّها.
إنّ إشكاليّة الانتقال هذه ليست خاصّة بتونس. والكلّ يعلم أنّها شملت العالم كلّه منذ قرون عدّة وأنّ القارة الأوروبية قد سبقت الآخرين في هذا المجال. ومن خلال دراسة تسلسل الأحداث بشكل ملموس، نلاحظ أنّ الانتقال يبدأ عندما تشعر الجماعات الحاكمة في النظام القديم، في هذا البلد أو ذاك، بالتهديد نتيجة مطامع دول مجاورة أقوى، وأنّها أصبحت أكثر قوّة بسبب انتصاب الرأسماليّة فيها، الأمر الذي يقلب موازين القوى القائم، لا على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على الصعيد العسكري أيضاً. وهكذا تجد هذه الجماعات الحاكمة نفسها مضطرّة، كي تواجه الخطر وتدافع عن وجودها، إلى الشروع في تحديث نظامها الاقتصادي على غرار نموذج البلدان الأكثر تقدّماً. ووفقاً لهذا المنوال العامّ، انطلقت المسألة في أوروبا الغربية. وفي وقت لاحق، لمّا انجذبت بلدان الجنوب إلى الآلية نفسها، لم تأتِ التهديدات من الجيران المباشرين بل من المطامع الإمبريالية للرأسماليّة الغربية.
العناصر الهيكلية التي يمكن استخلاصها من هذا الوصف المختصَر عديدة، وتتيح فهم الشروط الحقيقية الموضوعية والذاتية للمسار الانتقالي، كما تحقّقت في معظم الحالات. وسوف أبرز ثلاثة عناصر كانت لها آثار حاسمة.
1- لم يكن قرار التحديث، أو بعبارة أخرى دخول مرحلة انتقالية، ثمرة نضج داخلي بل كان، بالنسبة إلى أغلب البلدان، استجابةً لتحدٍّ خارجي. ومن هنا نشأ نوع من الفصام، من الرحيل خارج الذات. والتخلّي عن حركة الإبداع الأصيل، للوقوع في تقليد واقع من إنتاج آخرين نتجاهل المنطق الذي قام عليه.
2- لم يأتِ قرار التحديث من القاعدة (الطبقات الاجتماعية المنتجة) بل من فوق (من الدولة والدوائر الحاكمة). نتيجة ذلك، نبقى على الدوام أسرى الشكل القديم ما قبل الرأسمالي، حيث توجِّه السياسة الاقتصاد.
3- كان دافع الجماعات الحاكمة، لمّا اتّخذت قرار التحديث، حماية سلطتها قبل كلّ شيء. وكان هذا همّها الذي يحظى بالأولويّة على كلّ اعتبار آخر. لذلك، لا يمكن اعتبار التحديث غاية في حدّ ذاته، بل مجرّد وسيلة. ومن البداية وُظِّف مشروع التغيير واستُغِلّ لتحقيق غايات مغايرة. وحتىّ إن كان التحديث يفرض نفسه، باعتباره ضرورة حيوية للقيادات السياسية، فقد وُضِع في المرتبة الثانية بعد المطلب الأساسي المتمثّل في الحفاظ على موقعها المهيمن.
هنا ندرك، في الأساس، التناقض الجوهري لمسارات الانتقال كما عرفتْها تاريخياً معظم البلدان، على الرغم من خصوصيّات كلّ منها. كان على المجموعات الحاكمة أن تضغط من أجل التغيير لكن كان عليها، أيضاً، أن تحافظ على موقعها. غير أنّ هاتَيْن الأولويَّتَيْن غير متلائمتَيْن إلى حدّ كبير. فالتحوّل الرأسمالي يستوجب تحرير قوى الإنتاج الداخلية، وهذا يتوقّف مباشرة على تحرُّر المجتمع المدني، الأمر الذي يفترض نهاية الاستبداد والتعسّف وامتيازات النظام القديم. إذ حتماً، يُستتبَع التغيير في القاعدة بحدوث تغيير في الأعلى، إلّا أنّ هذا كان مرفوضاً مبدئياً من قِبل هؤلاء.
على هذه الأسس، انطلقت عمليّات التحديث واللحاق بالركب. وبدأ الإصلاح، ولكن للتمديد في حياة المجتمع القديم، من خلال تمويهه بزيّ المجتمع الجديد، باستعارة هذا الجزء أو ذاك من مؤسّساته وأدواته، مع إفراغها من محتواها.
وهكذا شرّعت النخب الحاكمة، على سبيل المثال، دساتير ليبرالية نسبياً مدركة مسبقاً أنّها لن تحترم بنودها، بل وتعلّق العمل بها إن لزم الأمر. اعترفتْ بحرّيّة بعْث المؤسّسات الاقتصادية ولكن مع الاستمرار في تسيير الاقتصاد بطريقة تقليدية. وأرست الفصل بين السلط مع الاستمرار في السيطرة على السلط الثلاث. ووصلتْ حدّ استبدال النظام الملكي بالجمهوريّة، هنا وهناك، لكنّها واصلت تسيير الجمهوريّة كما لو أنّها مِلْكيّة خاصّة…
في رواية “الفهد”، وهي من روائع الأدب العالمي، يقول مؤلّفها دي لامبيدوزا على لسان إحدى الشخصيّات – أرستقراطي في منتصف القرن التاسع عشر، يحاصره القلق من التحوّلات الكبرى التي كانت تشهدها إيطاليا في ذلك الحين والمعروفة بـ Risorgimento – ما يلي: “ينبغي أن يتغيّر كلّ شيء كي لا يتغيّر أيّ شيء”. هذه الجملة هي أفضل صيغة ممكنة لتحديد بنية اللحظة التاريخية التي ندرسها. إنها تلخّص ما يشكّل عقدة متناقضاتها: 1) يجب أن يتغيّر كلّ شيء. 2) حتّى لا يتغيّر أيّ شيء.
* * *
بعد هذا الاستطراد السريع، لنعد إلى تونس ومشاكلها. مقارنة بالدول العربية أو الأفريقية الأخرى، دخلت بلادنا مرحلة انتقالية في وقت مبكر نسبياً، في نهاية القرن الثامن عشر، في عهد حمّودة باشا (1782-1814). ثم تكرّرت بعد ذلك حقب تقدّمية عدّة على غرار فترة حكم أحمد باي بين عامَيْ 1837 و1855؛ ومع محمّد باي بين عامَيْ 1855 و1869؛ ثمّ مع رئيس الوزراء خير الدين باشا بين سنتَيْ 1873 و1877. ثم انقطعتْ الدورة في ظلّ الاستعمار الفرنسي (1881-1956)، قبل أن تُستَأنف مع انتهاء الاحتلال الأجنبي ووصول الحبيب بورقيبة إلى السلطة (1956-1987).
بين هؤلاء الرجال المذكورين اختلافات كثيرة، خصوصاً في ما يتعلّق بالمنشأ الاجتماعي والتعليم والمؤهّلات. ومع ذلك تجمع بينهم سمة أساسية واحدة هي نموذج “الاستبداد المستنير”، وهو منهج نشأ في أوروبا، في نهاية القرن السابع عشر.
من بين هؤلاء، كان الحبيب بورقيبة، بلا منازع، هو مَن دفع جهود التحديث إلى أقصى مداه. ولئن تطوّرت تونس كثيراً في عهده، فإنّها لم تنجح أبداً في إنجاز التحوّلات التي لا رجعة عنها، والتي تتطلّبها العصور الحديثة. عندما انتهى عمله كمصلح مستبدّ (انتهت حقبة الإصلاح في عهده عملياً سنة 1969 وليس سنة 1987 عند عزله)، ترك بلداً قد تغيّر إلى حدّ كبير، لكنّه ظلّ يُحكَم وفق قواعد تقليدية موروثة من النظام البايوي القديم. كان هذا ثمن التحوّلات المفروضة من الأعلى التي كانت تجري كذلك في سياق تبعيّة كاملة للخارج.
IV- كيف يُقتطَع الفائض الاجتماعي؟
يمكن التمييز بين الأنظمة الاقتصادية وفقاً للطريقة التي يُقتطَع بها الفائض الاجتماعي. وبعبارة أخرى حسب الطريقة التي يُحوَّل بها جزء من الثروة الإجمالية التي يخلقها المنتجون المباشرون لصالح الطبقات الحاكمة والدولة التي تمثّلهم.
في النظام الإقطاعي، بتنوّعاته المختلفة الأوروبية والشرقية، يتأتّى الفائض أساساً من استغلال عمل الفلّاحين، بما أنّ الطبقة الأرستقراطية الحاكمة هي التي تملك معظم الأراضي. أمّا في النظام الرأسمالي، ونعني هنا الرأسماليّة الصناعية، وليس رأسماليّة المضاربات المنتشرة حالياً عبر المراكز المالية الدولية، فينتج الفائض من ناتج العمل الذي لا يُدفَع للأجراء ويتحوّل إلى ربح لأصحاب رأس المال.
وفي علاقة بهذَيْن النموذجَيْن المعياريَّيْن، أين يقع النظام الريعي؟ يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى الرأسمالية. لكن، في الحقيقة العكس هو الصحيح. ولفهم ما يميّز النظام الرأسمالي عن النظام الريعي بشكل أفضل، ينبغي الرجوع إلى الظروف الموضوعية التي يتحرّك فيها الفاعلون. لقد أشرْنا إلى أنّ صاحب رأس المال يقتطع أرباحاً. يحدث هذا الاقتطاع في سياق اقتصاد المنافسة المفتوحة. وهذا يعني أنّ كلّ صاحب أعمال يخضع باستمرار لمنافسة أصحاب أعمال آخرين، محلّيين و/أو أجانب. ولكي يحافظ على هامش ربحه، وربّما توسيعه، يكون مُجبَراً على أداء عمله على نحوٍ أفضل من منافسيه. ويجب أن يسعى باستمرار إلى تحقيق مكاسب في الإنتاجيّة وترشيد التصرّف وتحسين نسبة الجودة إلى السعر في منتوجه. باختصار، يجب أن يسعى باستمرار إلى الابتكار والتطوّر على المستوى التقني، حتّى لا يتخلّف عن الركب ويتلاشى تحت هجمات منافسيه.
أمّا في النظام الريعي، فإن المناخ مُختلف تمامًا. هنا، يعمل كبار الأعراف في اقتصاد مُوصَد ومُغلَق. وتتمتّع مؤسّساتهم بوضع الاحتكار أو شبه الاحتكار. ووضع الحماية هذا هو الذي يسمح لهم باقتطاع الدخل الريعي. وفي نهاية المطاف، لا شيء يشجّعهم على الاجتهاد مثل صاحب الأعمال الرأسمالي من أجل الإنتاجيّة أو المنافسة أو التصرّف أو الابتكار. وإذا كان عليهم أن يبذلوا جهداً في مجال ما، فهو في اتّجاه السلطة السياسية التي يدينون لها بثرواتهم. ولن يمكنهم الاستمرار في التمتّع بحمايتها إلّا إذا استمرّ رضاها عنهم، وهكذا يستمرّون في الحصول على الريع الذي تمنحهم إيّاه مقابل ولائهم.
أساساً، يمكن القول إنّ صاحب الأعمال يطوّر من أعماله عبر المجازفة، بينما تزدهر أعمال الريعي بدون أن يقدم على المخاطرة مطلقاً. الأمر الذي يخلق سلوكيّات متعارضة تماماً، بما في ذلك على الصعيدَيْن النفسي والثقافي.
في ضوء هذه المقارنة السريعة يمكننا بالفعل تحديد نوعَيْن من الاختلافات الهيكلية بين النظامَيْن. الاختلاف الأوّل، الذي سبق أن تعرّضنا له، يتعلّق بطريقة اقتطاع الفائض الاجتماعي، فيكون ربحاً في النوع الأوّل وعائدات ريعية في الأخرى. ويتعلّق الاختلاف الثاني بدور السلطة السياسية في عمليّة الاقتطاع: فهو دور مركزي في النظام الريعي، ويكاد ينعدم في النظام الرأسمالي التنافسي حيث يتمّ تحديد الضوابط والأساسيات ضمن الدائرة الاقتصادية. هذه الاختلافات الأساسية تتيح لنا تأكيد أنّ النموذج الريعي – على أرض الواقع – أقرب إلى النموذج ما قبل الرأسمالي منه إلى النموذج الرأسمالي.
كما يوجد أيضاً فرق ثالث بين النمط الرأسمالي والنمط الريعي، وهو اختلاف حاسم لما له من نتائج اقتصادية واجتماعية. يمتلك النظام الرأسمالي، بسبب المنافسة، طاقة دفع ذاتية – بحثاً عن الربح – من أجل نموّ القوى المُنتِجة وتطوّرها؛ بينما لا يمتلك النظام الريعي ديناميّة تُذكر، بالإضافة إلى أنّ طاقته الإنتاجية محدودة. كمؤشّر لتوضيح الفجوة، نذكر معدّل التأطير في المؤسّسات، أي نسبة الأُجَراء المختصّين (من مهندسين وفنّيين سامين، إلخ) من بين عدد الأجراء الإجمالي. فهذه النسبة تتراوح في المتوسّط بين 15% و20% في البلدان الرأسمالية الصاعدة، وأقلّ من 5% في تونس.
V- الأوليغارشيّة والفئات الاجتماعية الأخرى
أشرتُ إلى أنّ النظام الريعي محدود الإنتاج وهي عبارة مُلَطَّفة. في الحقيقة، كلّما نمَتْ الأوليغارشيّة وصعدتْ طغَتْ طبيعتها الطفيلية والمفترسة، فالريعيون لم ينهضوا بالاقتصاد الوطني بل سحبوه إلى الأسفل. وفي الآن نفسه، لم يدعموا النسيج الاجتماعي للبلاد بل أسهموا عملياً في تفكيكه وتدميره.
ويمكن وصف عمليّة تفكيك الاقتصاد والمجتمع بشكل ملموس على أساس نتائجها المتعدّدة التي لم تسلم منها أيّ فئة من الشعب.
العلاقات بالشباب
لنعد إلى مسألة معدّل التأطير المنخفضة بشكل يبعث على السخرية في المؤسّسات. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الريعيين لا ينتدبون سوى مستخدَمين من محدودي الكفاءة ومن غير المختصّين. والنتيجة الحتمية تنامي البطالة بشكل هائل بين أصحاب الشهادات الشبّان. وهذه البطالة تنتشر مثل السرطان منذ سنوات طويلة، وقد ارتفع العدد الآن بما يقارب ثلث إجمالي عدد العاطلين. ففي النظام الريعي يُلقى بالشباب خارج النظام ويُحرَم من المستقبل.
مع العمّال والأُجراء عامّة
حُدِّدت الأجور عند مستويات متدنّية للغاية لدينا، فالأجر الأدنى في تونس أقلّ من نصف الأجر الأدنى في المغرب تقريباً، على سبيل المثال. بالنسبة إلى الريعيين – الذين يمكنهم الاعتماد على تواطؤ الدولة والنقابات في هذا المجال – يُعتبَر هذا نعمة، لأنّه يُنمّي دخلهم. لكن هذا كارثيّ بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني. إنّ الأجور المنخفضة تحدّ من القدرة الشرائية، وهذا يؤدّي إلى ضمور السوق المحلّية ويعيق النموّ.
مع الفلّاحين
تؤثّر سياسة الأجور المنخفضة في المدينة سلباً وبشكل مباشر على الوضع في الريف. فالأجور المنخفضة تستوجب سياسة أسعار منخفضة للمنتوجات الزراعية الغذائية، وبخاصّة الحبوب التي تشكّل الغذاء الأساسي للسكّان. وهذه الأسعار الزراعية المتدنّية التي تُحدّدها الدولة بشكل فوقي في بداية الموسم، عند مستويات تقلّ بوضوح عن تكاليف الإنتاج، تُضعِف الاقتصاد الريفي والقدرة الشرائية للفلّاحين. ويؤدّي هذا إلى تقلّص السوق الداخلية وآفاق التنمية كذلك. يشارك الريعيون بطريقة أخرى في خنق الزراعة الغذائية: بالاستيلاء على مساحات متزايدة باستمرار من الضيعات الدولية، التي ينحرفون بها عن دورها الأساسي في إنتاج الموادّ الغذائية الأساسية إلى الإنتاج الموجَّه للأسواق الخارجية بالاعتماد على تقنيّات الريّ المكثَّفة، في بلد يعاني في الواقع عجزاً مائياً، ينذر بالخطر (تجدر الإشارة كذلك إلى أنّ الهياكل المسؤولة عن تصدير المنتجات الزراعية تخضع جميعها لهيمنة الجماعات الريعية).
مع جماهير القطاع غير المنظّم
يؤدّي تدهور الأوضاع المعيشية في الريف إلى النزوح الجماعي، ثمّ إلى الاقتصاد غير المنظّم. وهو خارج النظام، بالطبع، ولكنّه، مع ذلك، يشكّل فرصة أخرى للريعيين، من خلال التعاون (والنزاع) الذي أُرسي مع بارونات القطاع غير المنظّم ومافيا المستوردين غير النظاميين للسلع الاستهلاكية. هذه الواردات غير القانونية مدمِّرة للمنتجين المحلّيين، لكنّ هذا لا يزعج الريعيين، طالما لم تتأثّر مصالحهم.
مع البرجوازيّة الحضرية الصغيرة والمتوسّطة
تتّسم علاقات الأوليغارشيّة مع أصحاب المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة في الاقتصاد التنافسي باختلال شديد. ففي حين تحظى الأوليغارشيّة بجميع الامتيازات (الإدارية والقانونية والمالية والضريبية، إلخ)؛ يواجه أصحاب المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة جميع العوائق التي تجبر معظمهم على خوض الصراع في ظلّ ظروف صعبة من أجل البقاء. ويمكن القول باختصار إنّ الريعيين يسلّطون عليهم ضغوطا بطريقتَيْن مختلفتَيْن، من أعلى ومن أسفل. من أعلى بالاستيلاء على نحو ثلث إجمالي الأرباح المحقَّقة في القطاع المنظّم؛ ومن الأسفل بإخضاعِهم لمنافسة غير عادلة بالواردات المهرّبة.
يوضّح هذا العرض المختصَر، كيف تتمفصل علاقات الاستغلال والنهب والإقصاء التي تربط الأوليغارشيّة الريعية بالطبقات والفئات الاجتماعية المتدخّلة في الاقتصاد، وكذلك بأصحاب الشهادات الشبّان المعطَّلين عن العمل. نلاحظ أنّ هذا يرسم صورة دقيقة للقوى الرئيسية التي تحرّكت خلال الانتفاضة الشعبية 2010-2011. لقد انطلقت هذه الانتفاضة، بالفعل، من المناطق الريفية الداخلية، قبل أن تمتدّ إلى المدن الساحلية، من خلال الفئات المهمَّشة في الأحياء الشعبية أوّلاً، ثمّ شملت فئة الأجراء (العمّال والموظّفون وأعوان الوظيفة العمومية) وفي آخر المطاف، البرجوازية الصغيرة والمتوسّطة في المدن. وقد كان لأصحاب الشهادات الشبّان المعطَّلين عن العمل دور طليعي في كلّ مرحلة من هذه المراحل.
إنّه الدليل، إذا كان ضرورياً، على صحّة مفهوم النظام الريعي، والدليل على أنّه ليس مجرّد صيغة وصفية، بل هو مفهوم مؤسّس نظرياً نابع عن دراسة متأنّية للواقع. مفهوم تحليلي وعملي، لأنّه يحدّد الإطار الموضوعي الذي تمارس فيه الأوليغارشيّة هيمنتها على البلاد، وفي الوقت نفسه يحدّد الأوساط الاجتماعية التي تتطلّب مصالحها إنهاء هذه الهيمنة.
VI- الريع والتبعيّة والنظام المالي
يُشكّل الدين الخارجي أحد العوامل الأساسية لتبعيّة البلاد. في الختام، علينا إذن أن نتطرّق إلى طبيعة العلاقات التي تربط الآن الأوليغارشيّة الريعية بهذا الدين الخارجي.
في تونس عدد مرتفع نسبياً من البنوك الخاصّة. وإذا وضعنا جانباً الأسهم الأجنبية، فإنّ معظم رؤوس أموال هذه البنوك ملك للجماعات الريعية الرئيسية في البلاد: عائلة المبروك في بنك تونس العربي الدولي، وعائلة بن يدر في بنك الأمان، وعائلة المزابي في الاتّحاد الدولي للبنوك، وعائلة الحرشاني في بنك تونس العربي الدولي وبنك الأمان والتجاري بنك وشركة تونس للإيجار المالي وبنك الإسكان.
وبما أنّ هذه البنوك تشتغل كاتّحاد احتكاري (كارتيل) فهي تعمل، بطبيعة الحال، على مواءمة أسعار خدماتها المختلفة في ما بينها، ممّا يجعل منها مضخّة أموال حقيقية. الأدهى من هذا، أنّ مجلس نوّاب الشعب اعتمد سنة 2016، بناءً على طلب من صندوق النقد الدولي، قانونًا يُعدّل النظام الأساسي للبنك المركزي. وطبقاً لهذا التشريع الجديد، أصبح البنك المركزي التونسي مستقلّاً تماماً عن الدولة: ولم يعد بإمكان الدولة اللجوء إليه للحصول على أيّ قرض أو سحب بدون ضمان. وللحصول على تمويل، البديل الوحيد المتاح لها هو اللجوء إلى البنوك الخاصّة التونسية أو الأجنبية.
في ظلّ هذه الظروف، لم تعدْ القروض الخارجية تُدفَع مباشرة إلى الدولة، بل تتجاوزها. إذ تُحوَّل الاعتمادات إلى البنك المركزي التونسي الذي يقرضها إلى البنوك الخاصّة بسعر فائدة منخفض نسبياً، ثمّ تتولّى البنوك الخاصّة – التي يملكها الريعيون – تقديمها قروضاً للدولة، مع زيادة، بالطبع، في سعر الفائدة.
ولئن كانت الدولة هي الخاسر الأكبر من قانون 2016 فإنّ الأوليغارشيّة هي المستفيد الأكبر. لقد أصبحت مصالحها مرتبطة الآن ارتباطاً مباشراً بالديون. وكلّما زاد الدين زاد ثراؤها. وهكذا أصبح الدين الخارجي بالنسبة لها مصدراً جديداً للنموّ حيث يمكن لها كسب أقصى قدر من المال بأقلّ جهد ممكن.
منذ عام 2016، ارتفع عبء الدين 20 نقطة إضافية من الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن لنا أن نتخيّل مسبقاً أنّ الأوليغارشيّة لن تتوقّف عند هذا الحدّ، بل سوف تدفع للرفع من ديون البلاد أكثر من أيّ وقت مضى. لقد وقعنا، من الآن فصاعداً، في دوّامة الانتحار نفسها التي وقع فيها لبنان، مع فارق زمني بسيط. والأمر الأكثر إثارة هو أنّ الحكومة لا تبدو واعية لخطورة الوضع على الرغم من التحذيرات التي يطلقها الكثير منّا. على الرغم من كلّ شيء، هل يمكن أن نأمل في عودة الوعي؟ يبدو هذا غير مرجَّح على المدى المنظور.
حاشية
كُتبت هذه الصفحات في الفترة ما بين ماي وجوان 2021. بعد فترة وجيزة، أعلن رئيس الجمهوريّة، يوم 25 جويلية، حالة الطوارئ وأقال الحكومة وعلّق نشاط البرلمان ومنح نفسه كامل الصلاحيّات. لقد كانت هزّة على نحو ما. ولكن بعد مرور ما يقارب الخمسة أشهر منذ ذلك التاريخ، لم يتغيّر شيء يُذكر على المستوى الاقتصادي العامّ، ولم تشهد القواعد الأساسية تغييراً. لكنّ البلاد عالقة الآن في ديناميّة تدفع إلى التغيير. من هذا المنظور، يُرجَّح أن تكون السنة الجديدة القادمة حاسمة. وسوف نعود إلى هذا الموضوع لاحقاً.
1 La Promesse du printemps (2016)
2 L’Autre chemin (2019)
3 La Gauche et son grand récit
4 “الفهد” (Il Gattopardo) هي الرواية الوحيدة للكاتب الإيطالي جوزيبه تومازي دي لامبيدوزا (Giuseppe Tomasi di Lampedusa)، صدرت سنة 1958 بعد وفاة مؤلّفها ونالت شهرة عالمية. نقلها إلى العربية الكاتب المعروف عيسى الناعوري. صدرت في طبعة أولى سنة 2017 عن دار المتوسّط – إيطاليا. (المترجم)
5 توحيد إيطاليا (بالإيطالية: il Risorgimento) هي حركة اجتماعية سياسية ثورية، انتشرت في إيطاليا خلال القرن التاسع عشر منادية بتوحيد الممالك والكونتات الإيطالية وإنهاء الحكم النمساوي والنابليوني في إيطاليا.
6 نسبة إلى نظام الحكم القديم/ ورأسه الذي يُسمّى الباي.
7 عمادة المهندسين التونسيين – ديسمبر 2020.
8 المعهد الوطني للإحصاء.
9 الحدّ الأدنى للأجور في تونس لمختلف المهن في القطاعات غير الفلاحية 429.31 ديناراً – وزارة الشؤون الاجتماعية في تونس.
10 الحدّ الأدنى للأجور في المغرب لمختلف المهن في القطاعات غير الفلاحية هو 795.25 ديناراً تونسياً – المصدر الموقع الرسمي للضمان الاجتماعي في المغرب.
11 الإدارة العامّة للسدود والأشغال المائية الكبرى.
12 القانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرَّخ في 25 أفريل 2016 والمتعلّق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي.
13 راجع النشريّات الشهرية لدَين الدولة – وزارة المالية التونسية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.