“عمائمُ حمراء”: زَيْتُونِيُون لكنّهم ماركسيون


2025-02-08    |   

“عمائمُ حمراء”: زَيْتُونِيُون لكنّهم ماركسيون

لم أكن قد اكتشفتُ أعمال بندلي صليبا الجُوزي بَعدُ، حين بدأت قراءة العمل الموسوعي الضّخم للمفكّر اللبناني الرّاحل حسين مروّة الذي عَنونَه بـ“النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، لذلك كنتُ أعتبرهُ إحدى أهم المُساهمات التأسيسيّة وأبرزها، وأسبقها أيضًا، في تطبيق المناهج الماديّة التاريخيّة في قراءة التّراث العربي الإسلامي. لكن تبيّن بعد ذلك أنّ السّبق الفعلي و”التأسيسي” كان لبندلي الجُوزي، عبر كتابه الأهم الذي يحمل عنوان “من تاريخ الحركات الفكريّة في الإسلام” والذي نشرته سلسلة إحياء التّراث الفلسطيني في الثمانينات، بتقديم من حسين مروّة نفسه. ولئن كان الأخير مُعترفًا للأوّل بالسّبق في هذا المضمار -الفكري والتطبيقي- وأسماه “الرائد في حقل الدراسات التّراثيّة”، فإنّه لا يُمكن بأي حالٍ مُقارنة ما قدّمه الرّجلان في هذا الميدان من حيث الغزارة ولا حتى من ناحية القيمة العلميّة. فأعمال حسين مروّة تبدو أكثر نُضجًا وأكثر تخمّرًا وأقرب إلى الموضوعيّة العلميّة وأعمق على جميع المستويات المنهجيّة والنظريّة وحتى على صعيد المعرفة التاريخيّة نفسها. في كتابه المذكور ومنذ البداية، يُقدّمُ الجُوزي قراءةً ماديّة، مدرسيّة جدًا، لظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة بربطها -مُباشرة- بتفسيرٍ اقتصادي بسيط واختزالي. لذلك يبدو لي حسين مروّة أكثر “رياديةً” في هذا المجال وأكثر اتساعًا معرفيًا وأهمَّ قيمةً علمية.

غير أنّ استثنائيّة حسين مروّة، لا تُقيمها فقط هذه الرياديّة العلميّة، ولا فقط موقعه في الثقافة العربيّة كأبرز من قَاربَ التراث الدّيني الإسلامي بمجاهر الماديّة التاريخيّة، بل هي أيضًا -مع كلّ هذا- تتحقّقُ من خلال قصّته الشّخصيّة كرجلٍ أُريدَ له أن يكونَ شيخًا مُعمّمًا لكنّه صار فيلسوفًا ومناضلاً يساريًا وأحد أهم الكتّاب والمفكّرين الماركسيين العرب، وأثقلهم إسهامًا وأرجحهم معرفةً وأكثرهم تأثيرًا. فمن النّجف، حين كان يُزاول تعليمه الدّيني ليعود إلى لبنان كشيخٍ ومرجعٍ شيعي كما كانت تشاءُ عائلته، ومن داخل الحوزة الدّينيّة نفسها تسرّبت إليه الماركسيّة كما صاغ عنوان مقاله الشّهير “من النّجف دخل حياتي ماركس”

لكن قصّة الحسين المروّة وتجربته الفكريّة هذه في تحوّلاتها من الفكر الدّيني إلى الماركسيّة، لا تتوّقف عنده وحده، بل هي تتكرّر في تجارب أخرى كثيرة (سابقة ولاحقة)، مع شخصياتٍ عربيّة وإسلامية درَستْ في مؤسسات دينيّة عريقة، لكنّها خرجت منها نحو الماركسيّة والفكر المادي الجدلي، ومارست لاحقًا نقدًا على التراث وعلى المجتمع وانخرطتْ بأشكال أو بأخرى، في مشاريع سياسية وثقافيّة يساريّة، وخاضت تجارب حزبيّة ونضاليّة وساهمت في الثقافة العربيّة المُعاصرة من مستويات ومواقع مختلفة. 

في الأزهر، مثلاً، الذي يُعتبر إحدى أهم مؤسسات التعليم الدّيني الإسلامي السنّي، وأشدّها تأثيرًا في التاريخ الحديث، يُمكن رصد العديد من الحالات الشبيهة بقصّة حسين مروّة، شيوخٌ مُعمّمون تخرّجوا من أسواره نحو الماركسيّة والشيوعيّة والفكر اليساري. أسماء مشهورة مثل الشيّخ سعاد جلال الذي كان يُلقّب بالشّيخ الأحمر، وآخرون كثيرون كانوا ناشطين في الحركة الشيوعيّة، خاصّةً في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وعلى رأسهم الشّيخ صفوان أبو الفتوح الذي يكشف رفعت السعيد (مؤرّخ اليسار المصري) أنّ هذا الشّيخ الرّفيق الذي كانوا يُطلقون عليه لقب “مولانا”، كان من مؤسسي الحزب الاشتراكي المصري (أوّل حزب شيوعي في مصر) وأنّه “استطاع أن يصوغ للحزب فكراً ماركسياً مطعماً بالرؤية الدينية المستنيرة”. 

نشر الباحثُ السّعودي علي العميم، وهو كاتب ذو إطّلاع واسع على الثقافة المصريّة الحديثة وخاصةً على تاريخ الجماعات الإسلاميّة، مقالاً طويلاً ومُفصّلاً حول هؤلاء الشيوخ الماركسيين في مجلّة “المجلّة” عنونه “أزاهرة شيوعيون”، استعرض فيه عددًا من هؤلاء المشايخ وقِصصهم مع الحركة الشيوعيّة. وأشار فيه، بملاحظة نبيهة، إلى أنّه لم يكن يُعتَبرُ في المنتصف الأول من القرن العشرين “وجود أزهريين في التنظيمات الشيوعية أمراً مستنكراً إلا عند من يحكم على روح تلك الفترة بمقاييس عقود تالية”.

في تونس أيضًا، حيثُ تُمثّل الزيتونة واحدة من أعرق الحواضر الدّينية على الإطلاق في العالم الإسلامي -على الأقل حتى منتصف القرن الماضي- كان هناك كثيرون عَبَرُوا بدورهم من هذه المؤسسة نحو الماركسيّة والشيوعيّة واليسار. وفي الحقيقة، كانت الزيتونة، خاصة منذ بدايات القرن العشرين حتى منتصفه، ساحة لتفاعلات فكريّة كبيرة، وشهدت حراكًا ثقافيًا وفكريًا ثريًا، وبرزت فيها مشاريع وتيارات وتظاهرات ذات نزعات إصلاحيّة وحتى ثوريّة. ومن هذه المؤسسة أيضًا تخرجت رموز كبيرة في التّحديث والنّضال الاجتماعي، لعل أبرزهم الشيخ سالم بن حميدة “فيلسوف السّاحل”، والطّاهر الحدّاد ورفيق دربه أحمد الدّرعي. والأخيران كان لهما انخراط فعلي في النّضال الاجتماعي و”الاشتراكي” من خلال قضايا حريّة المرأة والعدالة الاجتماعيّة والنقابيّة. لا يُمكن القول بأن أحمد الدّرعي والطاهر الحدّاد كانا شيوعيين، بل بالعكس كان الأخير في دفاعه على مشروع محمّد علي الحامي وعن شخصه في مواجهة الدعاية الفرنسيّة والدّستوريّة مستميتًا في دفع “تهمة الشيوعيّة” عن رفيقه وابن بلدته الحامة (ولاية قابس). لكن الطاهر الحدّاد وأحمد الدّرعي كانا يساريين بذلك المعنى الواسع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. لكن الزيتونة، مع هذا كانت مرحلة في حياة الكثيرين الذين مرّوا عبرها وانتهوا إلى الشيوعية والماركسية، وخرجوا منها وعلى رؤوسهم “عمائم حمراء”.

 “عمائمُ حمراء”: من الزيتونة إلى الماركسيّة

يُعتبر علي جراد أحد أبرز هؤلاء، باعتباره أوّل أمين عام تونسي للحزب الشيوعي، الحزب الذي كان في الأساس فرعًا للحزب الشيوعي الفرنسي. وقد قاد علي جراد منذ العام 1939 مسار “تونسة” الحزب. وبحسب مؤرّخ اليسار التّونسي الدّكتور عبد الجليل بُوقرّة  فقد انطلق “الحزب الشيوعي التونسي” فعلياً في عام 1936 حين أصدر الشيوعيون التونسيون المنشقّون عن الحزب الشيوعي الفرنسي بقيادة علي جراد جريدة “الطليعة” ثم عقدوا مؤتمراً تأسيسياً سنة 1939. وهو المؤتمر الذي أفرزه أمينًا عامًا للحزب. ويُعتبر علي جراد أحد أهمّ المؤثرين في تاريخ الحزب الشيوعي التّونسي وفي تحوّلاته نحو المُطالبة بالاستقلال والانخراط في حركة الكفاح الوطني وحتى دعم النّضال المسلّح في الخمسينات. وعلي جراد الذي ينحدرُ من المطوية (ولاية قابس جنوب شرق البلاد) هو أحد أهم الرموز الشيوعيّة في تاريخ تونس، وينتسبُ إلى رعيل تأسيسي في اليسار التّونسي. وهذا الرّجل الذي يلتصق اسمه -حرفيًا- مع تاريخ الشيوعيّة في تونس هو في الأصل طالبٌ في جامع الزّيتونة، وتكوينه العلمي تكوين ديني بالأساس، وحين أُلقِيَ عليه القبض في نشاط مناهض للاستعمار في العام 1922 تعرّف على الأفكار الشيوعيّة داخل السّجن وحين خرج التحق بالحزب الشيوعي الوليد حينها بداية العشرينات.

 أيضًا يُعتبرُ المُناضل محمّد بن جنات، وهو أحد رموز مجموعة برسبكتيف اليساريّة، نموذجًا بارزًا لهؤلاء الزيتونيين الماركسيين. كان بن جنّات مناضلاً شيوعيًا عقائديًا وصلبًا. يكشف النّاقد الرّاحل محمد صالح بن عمر، وهو أحد رموز “حركة الطليعة الأدبية” (1968-1972)، في شهادة له عن نقاشٍ جرى بينهم وبين محمّد بن جنّات حول هذه الحركة الأدبيّة ومشاريعها ونصوصها، وهي شهادة تكشف عن عمق القناعات الماركسيّة التي تُكيّفُ نظرة هذا الأخير وتحليله للأدب والثقافة والفنون والمجتمع. كان محمّد بن جنّات، الذي وصفه الشّاعر نور الدّين صمّود -ابن مدينته قليبية الساحلية- بأنّه “الرّجلُ الذي تسلّق الجبل برجلٍ واحدة”، قد أصيب بلغم في ساقه صغيرًا أواخر زمن الاستعمار، لكنّ الأمر لم يكن عائقًا أمامه في سبيل الكفاح من أجل القيم والمبادئ التي يؤمن بها. وهو من قاد الاحتجاجات أمام السفارة البريطانية على خلفية حرب الأيّام الستّة في جوان من العام 1967 ما كلّفهُ الاعتقال وحكمًا قاسيًا بعشرين سنة من السّجن. 

محمّد بن جنّات، كما رفيقه في برسبكتيف وصهره أيضا الهاشمي الطرودي، كلاهما درسَا في الزيتونة، وتكوينهما العلمي تكوين ديني بالأساس. وهذا الأخير يُطلق عليه رفاقه لقب “الشيخ”. وهذا الزيتوني المتخصص في الفقه والأصول، هو الذي كان وراء فكرة ترجمة البيان الشيوعي إلى العاميّة التّونسيّة كما نقرأُ في نص مقدّمة الترجمة التي نشرتها مؤسسة روزا لوكسمبورغ بمناسبة 200 عام على ميلاد كارل ماركس. وفي كل كتابته يُمكن تلمّس عُمق الثقافة الدّينيّة ومتانة التكوين الدّيني، وما يصبغ  لغته السياسية وتحاليله من روحٍ تفتقدها معظم الكتابات اليساريّة (التونسية والعربية) المتأثرة في معظمها بالثقافة الغربيّة. غير أنّ “الشيخ” -الفقيه والأصولي الماركسي- الهاشمي الطرودي بتجربته الصحافيّة الكبيرة وكتاباته الحضارية والفكريّة، هو أقربُ ما يكون -في مرحلته الأخيرة خاصةً- إلى الثقافة والفكر منه إلى السياسة بمعناها “التّقني” والحركي والحزبي والتنظيمي.  

وقد كانت الساحة الثقافيّة بدورها مجالاً برزت فيه “عمائمُ حمراء” كثيرة. وعلى رأسهم الروائي الجزائري الكبير الطّاهر وطّار، الذي درس في الزيتونة وقبلها في معهد تابع لجمعية العلماء المسلمين. ومن الزيتونة إلى الثورة الجزائريّة مأخوذًا بالماركسيّة والشيوعيّة التي صبغَت مشروعه الروائي والثقافي وصنعت كيانه الأدبي والفكري، وصبغها هو -في المُقابل- بنكهة عربيّة قطعت باليساريّة الجزائريّة عن فرنكوفونيتها السائدة والمُهيمنة. 

في روايته الشّهيرة “اللاز” التي صدرت في العام 1974، وهي ثاني رواية جزائريّة باللغة العربية بعد “ريح الجنوب” لعبد الحميد بن هدّوقة التي صدرت في العام 1971، نعيش أجواء الثّورة الجزائريّة وصراعات أجنحتها. قصّة “سي زيدان” التي تمت تصفيته لأنّه شُيوعي “أحمر”. تعتبرُ الرواية واحدةٍ من أهم أعمال الأدب السياسي والثوري العربي على الإطلاق، وجودتها لا تتحدّد فقط من طرافة موضوعها ولا عمق مقاربتها لجزء من تاريخ الثّورة الجزائريّة، بل أيضًا من خلال قيمتها الفنيّة وأسلوبها ولغتها التي تعبّر عن تكوين لغوي وثقافي عربي متين، كانت الزيتونة نفسها أحد أهم روافده ومنابعه.  

على الصعيد الثقافي أيضًا، يظهر الكاتب أنس الشابي كواحد من أبرز هذه النماذج التي عبرت من الزيتونة إلى الماركسيّة. درس الشابي في معهد ابن شرف، وهو الذي تحوّل من مبيت للطلبة الزيتونيين ثمّ إلى معهد ثانوي، ودرس على أساتذة من بينهم مؤسس الحركة الإسلامية في تونس راشد الغنوشي. بعد الباكالوريا التحقَ الشابي بكلية الشريعة وأصول الدين (الزيتونة) حيثُ أنهى دراسته الجامعية في العام 1977. وفي “الزيتونة” عاش الشابي انتقاله الفكري إلى الماركسيّة، تحت تأثير قراءات متنوعّة يذكر من بينها كتاب حسين مروّة المذكور سابقًا. وفي العام 1981 انتمى لمدّة أربع سنواتٍ إلى الحزب الشيوعي التونسي. يُعرفُ الشابي، في الأوساط الثقافيّة، بدوره الذي اضطلع به سنوات حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في رقابة الكتاب. وهي تجربة وثّقها في كتاب، كأوّل رقيب للكتاب في العالم العربي ينشر مذكراتٍ عن مسيرته المهنيّة في مراقبة المنشورات والكتب. في تلك الشهادة/المذكّرات، يتوسّع الشابي في جوانب من هذه المسيرة وهذا الانتقال ويذكر الروافد والكتابات والمفكّرين الذين ساهموا في اعتناقه للماركسيّة، ومن بينهم الكاتب والمفكّر التّونسي العفيف لخضر. 

وينتمي العفيف لخضر بدوره إلى هذه “العمائم الحمراء”. وربّما هو أبرزها على الإطلاق وأحدُ أبرز أمثلتها وأشدّها تميّزًا. درس العفيف لخضر في جامع الزيتونة قبل الاستقلال، وتشبّع بتعليم ديني تقليدي، قبل أن يُغلَق الجامع ويتحوّل إلى جامعَةٍ عصريّة ضمن رؤية الدّولة الوليدة حينها لمسألة توحيد المناهج وإلغاء التعليم الدّيني. يَذكرُ العفيف لخضر في شهادته على أعمدة صحيفة إيلاف الإلكترونيّة، والتي كانت أهم منبر لمقالاته على الإطلاق، فُصولاً من تلك المرحلة المُبكرة التي عاشها في أروقة جامع الزيتونة وبين حلقاته العلميّة. حيثُ يكشفُ عن تعلّقٍ مُبكّر وتأثّرٍ كبير بالشّيخ الفاضل بن عاشور وإصراره على حضور حلقاته، رغم فارق المرحلة الدّراسيّة بينه وبين حلقة شيخه المُفضّل. ويروي كيف أصبح بعد ذلك مُقرّبًا من ذلك الشّيخ الذي يُعتبر أحد رموز للزيتونة المتأخرين. 

عاش العفيف لخضر تحوّلاتٍ فكريّة كثيرةٍ في حياته. وعلى غرار الحسين مروّة الذي نعرفُ مصدر التأثيرات التي شكّلت تحوّله الفكري من مشروعِ شيخٍ مُعمّمٍ إلى أحد أهم الفلاسفة العرب وأهم المُساهمين في قراءة التّراث العربي-الإسلامي بمجاهر ومناهج الماديّة، فإنّ العفيف لخضر يحكي عن تأثّره بطه حسين “حدّ الذوبان”، لدرجة أنّه كان يعصبُ عينيه ليعيش مثلهُ حالة “العمى”. 

يُمثّل طه حسين، شخصيّة فارقة في الثقافة العربيّة المُعاصرة، وشديدة التأثير. ذلك الطّالب الأزهري الضّرير الذي تمرّد على المؤسّسة الدّينيّة وشيوخها، وأعاد بناء تحصيله العلمي في الجامعات “الحديثة”، ثمّ ألقى أحجارًا ثقيلة في ساحات النقاشات الفكري العربي وهزّ مسلماتها الرّاسخة بقوّة وعنف. لذلك يبدو من الطّبيعي أن يكون أوّل وأهمّ مصادر “القلق الفكري” عند العفيف لخضر في تلك المرحلة (الخمسينات)، ونموذجًا للتأثّر والإتباع والتقليد.  

أُحبُّ دومًا أن أصفَ مسيرة العفيف لخضر الفكريّة بأنّها “مسيرة القلق”. أي تلك الحالة من التساؤل الدّائم الذي يجعل المرء قلقًا وباحثًا عن أجوبة لا نهائية ومتناسلة. قلقٌ شُجاع، وهدّامٌ أيضًا. قلقٌ جعل العفيف لخضر يتنقّل من مدارس فكريّة إلى أخرى ومن النّقيض إلى النّقيض، في قفزات حادة أحيانًا. 

يزعمُ العفيف لخضر، أنّه كان متحمسًا لإلغاء الدّيني وإغلاق الزيتونة عندما جاء الاستقلال، وأنّه حين كان لازال طالبًا كتب مقالات في جريدة “العمل” لسان الحزب الدّستوري، يدعو فيها إلى توحيد التعليم وإغلاق الزيتونة، وهو ما فعله بورقيبة بعد ذلك بأشهر! تبدو مثل هذه القصص كميزة في مسيرة العفيف لخضر، وجزءا من سردياته الخاصة المُفعمة غالبًا بالإثارة وشيء من المُبالغة في الوصف. فمثلاً حين ترجم البيان الشيوعي إلى العربيّة كتب عليه “أوّل نسخة عربية غير مُزوّرة للبيان الشيوعي”. 

صار العفيف لخضر، لاحقًا، بعد الزيتونة، واحدًا من أهم المُساهمين في النّقاش الماركسي العربي. رجلٌ ذو ثقافة واسعة وتكوينٍ علمي ثري بين الدّيني والقانوني، ومعارف لغويّة جيّدة، جعلت منهُ واحدًا من أبرز المثقفين العرب منذ الستينات. كما صار العفيف لخضر أيضًا من أشدّ الناقدين للتّعليم الدّيني. وفي مدوّنته على موقع الحوار المتمدّن يمكنك أن تقرأ الكثير من المقالات التي تُعالج هذه القضيّة، وعن علاقة التعليم الدّيني ومناهجه بما يعتبره إعاقة دخول العرب والمسلمين إلى الحداثة. في كتبه الكثيرة ومقالاته الغزيرة والمتناثرة تجد دومًا صدى لهذه الفكرة، التي هي جزء من مشروعه الكبير الذي يعتبرهُ قائمًا على العلمنة والتنوير والتحديث والعقلانيّة. 

لم يبق العفيف لخضر ماركسيًا حتى النهاية، ومنذ الحرب الأهليّة اللبنانيّة، بدأ في مراجعات حادة اتّجاه اليسار بسبب مواقف تياراته اللبنانية والعربيّة من تلك الحرب. قبلَهَا رافق الزعيم الثوري الجزائري أحمد بن بلّة وكان صديقًا مُقرّبًا منه زمن قيادته للجزائر المُستقلّة. وبعد انقلاب الهوّاري بومدين طار إلى بيروت التي كانت عاصمةً حقيقيّة للثقافة العربيّة ومطبخها الفكري والجدلي الأوسع. ثمّ مع بداية الحرب الأهلية في السبعينات طار مرّة أخرى إلى باريس حاملاً معه أفكارًا جديدة، بدأت تبتعدُ به عن الماركسيّة واليسار وتدخلهُ مُرحلةً أخرى من مراحل حياته الفكريّة الثريّة ومراحل تحوّلاته المُشوّقة والمثيرة والممتعة ومراحل مسيرته المليئة بالمعارك والقلق. 

في مقال علي العميم المذكور، عن الشيوعيين الأزاهرة، ثمّة ملاحظةٌ تستحقُّ التوقّف حيثُ يُشير إلى أنّه “لم تكن في مصر ولا بقية البلاد العربية إذا استثنينا السعودية، فوبيا الشيوعية. فهذه الفوبيا انتقلت إلى العالم العربي من أمريكا في أواخر السبعينيات، وتضخمت في سنوات الثمانينيات”. ويبدو هذا الأمر صحيحًا بدرجة معقولة. فهذا ما يُفسّر مثلاً كيف كان أوّل أمين عام تونسي للحزب الشيوعي زيتونيًا، وهذا ما يُفسّر أيضًا تلك العلاقة الوطيدة التي ربطت بين الشيخ العلاّمة الطّاهر بن عاشور والشّاعر الشّيوعي عبد الرحمان الكافي، وهي علاقة وصلت حدّ “المُصاهرة” بين الزيتوني والشيوعي. حيث زوّج بن عاشور خادمته للكافي ومنحه بيتًا من بيوته ليسكن فيه. والكافي نفسهُ، لو كنّا نملك التأكيد الحاسم على أنّه درس في الزيتونة برغم كثرة المؤشرات، لكان أبرز مثالٍ على هذه “العمائم الحمراء” وأيقونتها الفعليّة، لكنّ في نصّه الشّعري الشيوعي هناك فعلاً كثيرٌ من الأثر الدّيني. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني