“
“ندعو القضاء إلى ممارسة سلطة كاملة وفق الأصول الدستورية والقانونية وبعيداً عن تدخل السياسيين. فعليكم أيها القضاة تقع مسؤولية مواجهة الهدر والفساد وتجاوز القوانين من قبل أركان السلطة”. هذا ما تضمنه البند الثالث من الدعوة التي وجهها “تحالف وطني” إلى التظاهر الأحد في 6 تشرين الأول في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، بعيدا عن انقسام سياسي بين 8 و14 آذار يقفز عنه فرقاؤه في توافقهم على المواطنين وقضاياهم، وخصوصا خلال تقاسم غنائم هذه البلاد وانتهاك أبسط حقوق ناسها.
وإذ يعتبر التحالف ضمناً أن كفّ يد السياسيين عن القضاء شرط لممارسة الأخير سلطته وفق الأصول الدستورية والقانونية، يضع البند الثالث القضاة أمام مسؤوليتهم في مواجهة الهدر والفساد وتجاوز القوانين من قبل أركان السلطة، وبالتالي تصدر القضاء لمهمة حماية المواطنين وضمانتهم.
ويحلّ التحرك أيضاً في ظلّ النقاش الدائر حول صلاحيّات القضاء والنيابة العامّة الماليّة بمحاسبة المسؤولين عن الهدر الماليّ من السلطة التنفيذيّة، وعلى وقع رفض وزير الاتصالات محمّد شقير المثول أمام النائب العامّ الماليّ في قضيّة الهدر في وزارة الاتّصالات، وفي حين ما زال يمثل أمام القضاء، حتّى الآن، ناشطون شاركوا في تحرّكات مطلبيّة في العام 2015. وتطالب الدعوة إلى التظاهر أيضاً “بعدم المسّ بالقدرة الشرائية لدخل المواطنين وعدم تحميلهم أية ضرائب جديدة أو حسومات، وكذلك لإقفال كل صناديق الهدر من مجلس الإنماء والإعمار إلى الهيئة العليا للإغاثة فوزارة المهجرين مروراً بمجلس الجنوب وصولاً إلى اليسار، الصناديق نفسها المحسوبة على الأطراف السياسية المشاركة في السلطة، وعلى قاعدة 6 و6 مكرر.
لكل هذا، شهدت ساحتا الشهداء ورياض الصلح في بيروت، في 6 تشرين الأوّل 2019، تظاهرة دعا إليه تجمّع “تحالف وطنيّ”. رفع المتظاهرون لافتات وردّدوا هتافات تندّد بسياسة الدولة الماليّة وحاكم مصرف لبنان، وتطالب باستقلاليّة القضاء (عبر إثارة قضيّة شقير الأخيرة)، عارضين مطالبهم ومأساة حياتهم اليوميّة في ظلّ الوضع الاقتصاديّ المتأزّم مؤخّرا.
التظاهرة في رياض الصلح
وبرغم تحديد عناوين عريضة للتظاهر، إلاّ أن تأزم الوضع في لبنان على الصعد كافة فرض تشعبا كبيرا وعفويا في مطالب المشاركين ممن لبوا الدعوة.
وعلى أصوات صراخ امرأة ركضت من ساحة الشهداء لتحرق نفسها وأولادها أمام السرايا الحكومية بعدما طردوا أولادها من المدرسة، انتقل المتظاهرون إلى رياض الصلح لتهدئة المرأة وأولادها، وتحوّل بذلك التحرّك من مركزه المعلن عنه مسبقا، إلى جانب المرأة التي ما زالت تحضر كلّ يوم إلى المكان نفسه (مقابل مقر الحكومة) منذ أسبوع للمطالبة بتأمين أقساط أولادها.
وأعلت أيادي المتظاهرين لافتات تنتقد السلطة السياسيّة وأخرى تعبّر عن مطالب مختلفة: كفى حكومات وحدة نهب وطنيّة/ شطف الدرج ببلّش من فوق/ العدالة الاجتماعيّة مش فكرة وبس، هي حقّ للناس/ما بقى بدنا مزاريب هدر/ حاميها حراميها/ لا وطن مزدهر بدون قضاء مستقلّ.
وبالرغم من تركيز المتظاهرين على نقد سياسة مصرف لبنان في هتافاتهم إلّا أنّها طالت جميع أجهزة الحكم أيضا، داعية الشعب للنزول إلى الشارع: “عرفنا عرفنا باللي صار، هيدي الليرة عم تنهار، وفليسقط حكم الدولار”
“انزل عالشارع يا شعبي/عن حقّك دافع/صرخة أطفال بتهدّ جبال/حتّى النظام عيونو ما تنام”
“يا عسكر عَ شو ممترس، الحراميّي بالمجلس”
“عالحراميّي ثورة/عالمحسوبية ثورة/على الحكام/على المصارف/على الحيتان”،
“حلّك يا شعبي حلّك والسرايا محلّك/وحلّك يا شعبي حلّك هيدا الشارع محلّك”،
“يا للعار ويا للعار حكّام بلادي تجّار”، “لاقْينا الحلّ، الحرامية تفلّ”.
كذلك تحدّث كثيرون، في الساحة وأمام الإعلام، عن حوادث متفرّقة حصلت مع عائلاتهم نتيجة وضعهم المعيشيّ المتأزّم رافعين شعارات مثل: “الأطفال بتصير أموات، على بواب المستشفيات”. كما ذكر بعض المتظاهرين المشاكل البيئيّة التي يعاني منها لبنان، مركّزين على نسب السرطان العالية نتيجة تلوّث الأنهر والبحر بسبب غياب نظام مجاري صحيّة وعدم ضبط المخلفات الصناعية والطبية. ومن اللافت أن متقاعدا في الأمن العام خاطب بصورة منفردة القوى الأمنيّة لدعم المتظاهرين، كونه يقف في صفوف التحرّك للدفاع عن حقوق العاملين والمتقاعدين في الأجهزة الأمنيّة.
وبرغم حضور إعلاميّ كبير لتغطية التحرّك، كان عدد من المتظاهرين يطلبون من الإعلام- المحطات التلفزيونيّة تحديدا- الوقوف إلى جانب الشعب، ونقل معاناته بدلا من العمل ك”بوق للسلطة السياسيّة ومموّليهم”.
كانت “دعوة القضاء إلى ممارسة سلطته كاملة وفق الأصول الدستوريّة والقانونيّة وبعيداً من تدخل السياسيّين” أحد المطالب الأساسيّة التي دعا على أساسها “تحالف وطني” إلى التظاهر في 6 تشرين الأوّل. ولذلك، ظهرت لافتات تذكّر برفض الوزيرين محمّد شقير وجمال الجرّاح المثول أمام القضاء (النيابة العامّة الماليّة): “مش رح إنزل عالجلسة إذا ما نزل محمّد شقير”. ونادى بعض المتظاهرين الآخرون بقضاء نزيه. وكان هدف المظاهرات الجديدة هو تغيير الاستراتيجيّة بحيث لا يتحرّك المتظاهرون لمطلب واحد فقط حتّى “يصل وجع الناس بكلّ العناوين”.
وعبّر المحامي حسن بزّي أحد منظّمي التحرّك عن أهميّة رفع يد الحكومة عن تعيين القضاة وخاصّة النيابة العامّة الماليّة ومجلس القضاء الأعلى بحيث “يجب انتخاب هذا المجلس من هيئة عامّة تتألّف من قضاة فقط، فيكون لديه صلاحيّات التعيين والتدريج والترقية ويخضغ لماليّة خاصّة بصندوق تابع للقضاء”.
وتحدّث بزّي عن العمل الذي يقام من أجل تحقيق هذا المطلب مشيرا إلى اقتراح قانون، كانت المفكّرة قد أعدته مع خبراء لبنانيّين وعرب وأوروبيّين وقدّمته في العام 2018، “حول استقلال القضاء العدليّ وشفافيّته”. كما أشار إلى موضوع سحب الحصانة عن النوّاب والوزراء إفساحا في المجال أمام مساءلة القضاء لهم عن أفعالهم خلال فترة استلامهم المهام النيابيّة أو الوزرايّة.
هذا وأثار دخول النائبة بولا يعقوبيان إلى ساحة المظاهرة نقاشا حول أحقّيتها في المشاركة وهي عضوة في إحدى هيئات السلطة السياسيّة التي يقف المتظاهرون ضدّها. وانقسم المشاركون بين مؤيّد ومعارض. اعتبر البعض أنّ نزول يعقوبيان إلى الشارع هدفه “قطف” المظاهرة مطالبين باستقالتها قبل المشاركة في أيّ تحرّك مع الشعب، أمّا هي فاعتبرته “تقوية” للمتظاهرين، كونها الوحيدة التي تدافع عنهم في مجلس النوّاب، فضلا عن أنها ترشحت أصلا ضد السلطة الحاكمة. وبعد المطالبة برحيلها من قبل البعض مع هتافات “كلّن يعني كلّن” و”كلّ المجلس حرامي” ومعارضة آخرين لذلك، خرجت من رياض الصلح رافضة “أن تكون سببا في انقسام الشارع”.
شعارات وأهازيج ضد مصرف لبنان
ناقش المنظمّون في ما بينهم كيفيّة البناء على المظاهرتين الأخيرتين في التحرّكات المقبلة، مركّزين على التعلّم من أخطائهما حتّى يستطيعوا حشد عددٍ أكبر وأكثر تنظيما لمواجهة فشل الدولة في إدارة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة الحاليّة. ويجنح المنظمّون إلى مواجهة الدولة، ليس فقط في عاصمتها المركزيّة بيروت، إنّما عبر تحرّكات تشمل كافّة المناطق، ناظرين إلى تحرّكات قد يجريها العاملون في الإدارات العامّة، وأصحاب بعض المهن ردّا على الوضع الاقتصاديّ وعلى الإقتراحات التي من شأنها زيادة الضرائب على المذكورين.
وبعد التجمّع في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، اندفع المتظاهرون إلى جمعيّة المصارف في منطقة الصيفيّ مردّدين هتافات تطالب بإسقاط حكم المصرف، ومنها انتقلوا إلى مصرف لبنان في منطقة الحمرا، مارّين بأسواق بيروت وقاطعين الطرقات أمام السيارات لفترات قصيرة، قبل أن يعودوا إلى ساحة رياض الصلح. وفي كافّة تحرّكات هذه المظاهرة التي طالت لأكثر من أربع ساعات، نال مصرف لبنان المركزيّ وحاكمه رياض سلامة وزملاؤه المشاركون في الوضع الحاليّ هتافات كثيرة، وذلك بسبب سياسات رفع سعر صرف الدولار الأميركيّ بالنسبة لليرة اللبنانيّة وما يتبعها من أفعال. من هذه الهتافات: “قولوا لحاكم المال عنّا الوطن للعمّال/شبعنا شبعنا استغلال رح منسّقط رأس المال/المصارف للزوال، عملوا علينا احتلال”، “يسقط يسقط حكم المصرف”، “يا للعار ويا للعار باعونا بربع دولار”، “مصرف لبنان حرامي، ملك الحيتان حرامي”، و”سوليدير وسخة وسخة الحكومة عنّها نسخة/ سوليدير وسخة وسخة والمجلس عنّها نسخة”. ومقارنة بشعار الثورة المصريّة وانطلاقا من أزمة الطحين المتداول بها وإمكانيّة توقّف الأفران عن العمل وبالتالي حرمان الناس من الخبز أي “العيش” في اللهجة المصريّة، ردّد المتظاهرون: “عيش، حريّة، عدالة اجتماعيّة”.
وبالرغم من قلّة عدد الحاضرين في تظاهرة 6 تشرين الأوّل مقارنة بحجم الدعوة، إلّا أنّ اندفاع المتظاهرين طيلة التحرّك وعمل المنظّمين ينذر بتحرّكات قادمة ذات عدد أكبر وفي مناطق متعدّدة قد تتكرّر أسبوعيّا، إضافة إلى كلّ التحرّكات المطلبيّة والمظاهرات التي ستدعو إليها فئات العمّال المتضرّرين جرّاء سياسات الدولة الماليّة.
“