“
“على كلّ مواطن السهر على حماية البيئة وتأمين حاجات الأجيال الحالية من دون المساس بحقوق الأجيال المقبلة”. هذه العبارة ليست مأخوذة من قصيدة شعرية، إنما هي تشكل المحتوى الحرفي للمادة 3 من قانون حماية البيئة 444/2002. والتدقيق في هذه المادة يعني ليس فقط أن للمواطن حق بالدفاع عن البيئة، ليس فقط أن عليه واجب القيام بذلك، بل أن عليه السهر على حماية البيئة، أي بذل جهد كبير لهذه الغاية. ونفهم من هذه المادة إذا أن المشرّع (القانون) أعطى البيئة أهمية كبرى إلى درجة تحوّل معها كل مواطن، حتى ولو لم يكن له أي صفة رسمية، إلى جندي مسخّر للدفاع عنها. ولا نبالغ إذا قلنا أن القانون أولى بذلك البيئة حماية استثنائية لا تتشاركها مع أي مصلحة اجتماعية أخرى.
كثيرون الذين صدقوا هذه المادة، وعملوا بموجبها. كثيرون الذين هتفوا لوضع حد للتعديات التي لم تعد توفّر اليوم لا البحر حيث المخالفات البحرية الكبرى على طول الساحل اللبناني (آخرها قضية الإيدن باي الشهيرة وقضية الميناء حيث تم سلب 30000 من الأملاك العامة بتواطؤ من وزارة الأشغال العامة، من دون أن ننسى شفط الرمول البحرية القائم على قدم وساق في أكثر من منطقة) ولا النهر (حيث وصل التلوّث إلى درجة بات معها قادراً على قتل الماء) ولا الجبل (حيث تتعدد الجماعات المناهضة للكسارات والمقالع) ولا المرج وآخر قضاياه مرج بسري الذي أسهبت حملة الدفاع عنه في شرح أهميته البيئية.
لكن لم يطل الوقت طويلا حتى اكتشف هؤلاء أن السلطات العامة اللبنانية تذهب في هذا الخصوص وبشكل منتظم، في اتجاه معاكس تماما أي في اتجاه ردع المواطن وثنيه عن الدفاع عن البيئة ونكران حقه بالقيام بذلك. وهذا ما تبيّنه مطالعة منسق حملة بسري رولان نصور في هذا المؤتمر حول الاعتداءات الحاصلة على الناشطين المعارضين لسد بسري. وهذا ما نستكشفه أيضا في العديد من القضايا البيئية التي تسنى لنا متابعتها، حيث ما فتئت الإدارات العامة تتعاطى مع الناشطين البيئيين بتشنج وسلطوية، مع اتجاه شبه منتظم منها نحو حجب المعلومات، وصولا إلى تفعيل آليات الملاحقة ضدّهم أو (وهذا أخطر) إلى حرمانهم من أي حماية إزاء الاعتداءات التي قد ترتكب ضدهم من أشخاص ثالثين. بمعنى أن النيابات العامة تكون أكثر اجتهادا ومثابرة في التحرك ضد الناشطين البيئيين على خلفية نشاطهم البيئي وتحديدا لجهة ما يقولونه أو يكتبونه أو يفعلونه، فيما قلما تحرك ساكنا ضد من يعتدي عليهم بطريقة أو بأخرى.
وعليه، أمكن القول من دون أي مبالغة أننا أمام باطنية فادحة: فمن جهة، ثمة قانون يوجب على كل مواطن السهر على حماية البيئة، ومن جهة أخرى، ثمة سلطات عامة ما فتئت تتعرض للمواطن الذي يقوم بهذا الواجب مُنكرةً عليه هذه الصفة.
وما يزيد من شدّة هذه الباطنية هو أنه بخلاف ما يحصل في العديد من الدول في القضايا البيئية، حيث ينحصر الجدل بين اعتبارات البيئة واعتبارات التنمية ولأيهما الأولوية في وضعية معينة، غالبا ما تترافق القضايا البيئية في لبنان مع شبهات فساد أو أقله مع اعتبارات ضعف السياسات العامة والخلل المنهجي في وضعها.
وهكذا شهدنا في مرات عديدة مواقف سريالية: مواطنون يدافعون عن الدولة ضد الدولة (ممثليها). مواطنون يدافعون عن الملك العام، يطالبون القضاء (مجلس شورى الدولة بشكل خاص) بحمايته وبصونه واسترداده، فيما أن ممثلي الدولة يتخلون عنه وينهرون المواطنين الذين يجرؤون على ذلك ويعملون بأيديهم وأرجلهم لإقناع القضاء (مجلس شورى الدولة) بردّ الدعوى لأن لا صفة للمواطنين للمداعاة أو التحرك.
وعليه، لم يحتجْ الأمر لكثير من الوقت ليفهم المواطنون (ونحن منهم) الحريصون على البيئة، أن واجب السهر على البيئة لا يتطلب منهم مؤازرة ومعاونة أجهزة الدولة ومساعدتها وربما التطوّع ضمنها للدفاع معها عنها، بل قبل كل شيء تجهيز العدّة لفضح سياساتها ومواجهتها، وربما الاستعداد للدعاوى التي قد تقيمها النيابات العامة ضدهم.
انطلاقا من ذلك،
والتزاما منا مرة أخرى بما يوجبه علينا قانون 444/2002،
وإذ ندعو جميع الناشطين في القضايا البيئية مجددا إلى التكاتف والتضامن معا حول القضايا البيئية، إثباتا لواجبنا ودورنا في حماية البيئة وبخاصة في ظلّ اختلال المؤسسات العامة وانغماس العديد منها في حماية مصالح خاصة في مواجهة مصالح الدولة،
فإننا ندعو القضاة الذين طلبوا في جمعيتهم العمومية في أيار 2019 من الشعب دعمهم في معركتي استقلاليته ومكافحة الفساد، أن يكونوا على الوعد في القضايا البيئية في أي هيئة قضائية كانوا.
ونخص بالذكر هنا مجلس شورى الدولة الذي ما زلنا ننتظر منه أن يقر صفة الجمعيات البيئية والمواطنين في الدفاع عن البيئة والملك العام سندا للمادة المذكورة. كما ونخص بالذكر أيضا النيابات العامة التي يتعين عليها أن تتحرك ضد كل من يخالف البيئة وينتهكها ويعتدي على المدافعين عنها لا ضد هؤلاء، كما يحصل حاليا في قضية ناشطي مرج بسري. وقد آن للنيابة العامة التمييزية أن تنشر تقريرا عن عمل المدعين العامين البيئيين وأن تفعّل مجمل القوانين التي تؤطر عملها، وبخاصة قانون النيابة العامة البيئية (2014).
كما نخص بالذكر جميع القضاة الذين يحاكم أمامهم ناشطون بيئيون بدعاوى القدح والذم، والذين ينتظر منهم تغليب اعتبارات المصلحة العامة على سمعة هذا الشخص أو ذاك عملا بمبدأ التناسب.
أملا أن نتوصل معا إلى بناء مؤسسات عامة أكثر مسؤولية والتزاما بالقانون والبيئة والصالح العام.
“