ربما تعبّر عبارة “الرمال المتحرّكة” حاليًا عن الوضع السائد في لبنان عامّة، ومحافظة عكار خاصة، إثر سقوط نظام الأسد في سورية في 8 كانون الأول 2024: ففي ظلّ ترقّب وتيرة عودة اللاجئين السوريين إلى لبنان مع اندلاع الأزمة السورية في 2011، جاءت أحداث الساحل السوري الدموية التي تأججت في 5 آذار الجاري، وتحديدًا في ريفي اللاذقية وطرطوس، لتجد عكار، جارة سورية، نفسها أمام موجة لجوء جديدة إلى القرى والبلدات العلوية في سهل عكار ومنطقة الدريب الأوسط، وصولًا إلى جبل محسن في طرابلس. ويشكل علويّو الساحل السوري، وبعض اللبنانيين العلويين من سكان سورية، الغالبية العظمى من اللاجئين الجدد، مع قلة مسيحية تمثلت بنحو أكثر من 20 عائلة مسيحية ممّن تمكّن أفرادها من مغادرة المنطقة.
قبل النزوح من الساحل السوري نحو عكار، استقبلت محافظة بعلبك الهرمل في الأيام الأولى التي تلت سقوط النظام، 130 ألف لاجئ من الشيعة السوريين، ولبنانيين شيعة يسكنون ضيع سورية منذ تقسيم المنطقة بين البلدين في 1920، وفق أرقام غرفة إدارة الكوارث في بعلبك الهرمل، إضافة إلى 2500 عائلة لبنانية مهجًرة من سورية قصد أفرادها بيروت وجبل لبنان. أتى هؤلاء من حمص والقصير وريفهما ومن منطقة السيدة زينب في دمشق العاصمة، وقلة من نبل والزهراء في ريف حلب.
بالنتيجة نحن أمام خارطة لجوء متشعّبة باتّجاهات أربعة: نحو مليوني لاجئ سوري بدءًا من العام 2011، مصنّفين في خانة معارضة نظام الأسد، وغالبيتهم من الطائفة السنيّة، 130 ألف لاجئ ومهجّر شيعي ولبناني من سورية، نحو 50 ألف لاجئ جديد من العلويين سوريين ومهجّرين لبنانيين من سورية توزّعوا على 19 بلدة علوية في عكار. ومع هؤلاء، ما زالت القرى اللبنانية الحدودية وتحديدًا القصر وحوش السيّد علي في قضاء الهرمل تشهد نزوحًا داخليًا للعائلات وتحديدًا النساء والأطفال والمسنّين فيما “بقي الرجال للدفاع عن مناطقهم خلف الجيش اللبناني”، كما أكد أكثر من مواطن لـ “المفكرة”. كما نزح معهم أيضًا اللاجئون السوريون الذين يستضيفونهم منذ 8 كانون الأول الماضي. نتج النزوح عن القصف العنيف الذي تعرضت له المنطقة إثر مقتل ثلاثة عناصر من حرس الحدود السوري أو أحد الأجهزة العسكرية السورية، فيما ترك سكان الحوش نتيجة استهداف بلدتهم، لتدخلها قوى أمنية سورية يقول التلفزيون السوري في أحد تقاريره إنّهم من الجيش السوري.
في هذه المرحلة الدقيقة من تدهور الوضع على الحدود السورية اللبنانية والتغييرات الدراماتيكية التي ما زلنا نعيشها، وحدها عكار لا تتغيّر: المحافظة التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين الذين هجّرهم النظام السابق والذين لامس عددهم ما بين مسجلين مع المفوضية وغير مسجلين حدود الـ 300 ألف نازح. وعكار التي فتحت بيوتها وقاعات دور العبادة والبلديات لنازحي العدوان الإسرائيلي على لبنان، أتوها من الجنوب والضاحية والبقاع، وما أن عاد هؤلاء إلى مناطقهم، حتى بدأت موجة اللجوء الجديد من سورية، وإليها دائمًا، إلى بيوت أهلها وإلى دور العبادة وقاعات البلديات، وتلك المخصصة للأفراح والأتراح والمناسبات. والأهمّ أن أهلها، أهل عكار، مثلها، تبقى أبواب بيوتهم مشرّعة كما قلوبهم، يتقاسمون رغيف خبزهم مع الهاربين إليها، على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ومناطقهم.
لكن هذه الصورة التضامنية الجميلة عن عكار حاضنة اللاجئين، لا يجب أن تنسينا أو تجعلنا نغفل عن حقيقة الواقع على الأرض الذي جعل غالبية اللاجئين الأوائل (منذ 2011) يتركزون في البلدات العكارية السنية، فيما انحسر اللجوء العلوي السوري، ومعهم المهجّرين العلويين اللبنانيين من سورية اليوم، في القرى والبلدات العلوية فقط. وتبعا لنفاد قدرة البيوت على استقبال المزيد، وامتلاء قاعات المساجد والبلديات والمناسبات، توزعت بعض العائلات اللاجئة الجديدة على بيوت مُستأجرة في بعض القرى المسيحيّة في الكورة ومناطق جبل لبنان وقلّة نحو مناطق الشوف.
تخصّص “المفكرة” هذا التحقيق لـ”عكار بين لجوءين” للمحافظة عامّة، وسهلها خاصّة، في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات رسميّة وحزبيّة لبنانيّة مثل الكتائب والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر (الذي سبق وتقدم باقتراح قانون لترحيل السوريين في 2024) تطالب بإعادة السوريين إلى سورية، لـ”انتفاء أسباب لجوئهم بعد سقوط نظام الأسد”، كما يرون، فيما تشهد عكار موجة لجوء جديدة إليها.
وتحاول “المفكرة” تقصّي واقع اللاجئين الجدد وظروفهم الصعبة، كما تتتبّع في الوقت عينه وتيرة عودة لاجئي 2011 إلى مناطقهم في سورية، وتوثق ظروف عودتهم وبيوتهم وأرزاقهم وما يتصل بمتطلبات العيش. مع العلم أنّ المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين تتحدّث عن عودة “خجولة” لقدامى اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلادهم، إذ تقدر، ردًا على أسئلة المفكرة، عدد العائدين من لبنان إلى سورية منذ سقوط النظام قبل 110 أيام ولغاية اليوم بـ “300 ألف لاجئ فقط من كل لبنان”. في مقابل لجوء جديد عماده 130 ألف لاجئ شيعي سوري ومهجّر لبناني من سورية إلى بعلبك الهرمل، و2500 عائلة لبنانية من قاطني سورية توزعوا على بيروت وجبل لبنان، ونحو 50 ألف لاجئ علوي إلى عكار وجبل محسن وعدد قليل نسبيا إلى الكورة.
العائلات السورية تعبر النهر مشيًا
موجات اللجوء وروايات الوجع المتقاطعة
قُيّد لي أن أعايش في 2011، وبحكم عملي الصحافي الميداني في جريدة السفير قبل إقفالها نهاية العام 2016، اللجوء السوري عبر الحدود إلى لبنان ومن ضمنه عكار. يومها لاقيت الهاربين من جحيم التقاتل في سورية على الحدود في وادي خالد وجبل أكروم والعبّودية في عكار، ومشاريع القاع وعرسال في البقاع الشمالي.
ومع سقوط النظام قبل 110 أيام، أجريتُ تحقيقًا مشتركًا مع الزميلة المتعاونة مع “المفكرة” فاتن علام عن اللاجئين السوريين واللبنانيين من السيّدة زينب وحمص والقصير وريفهما إلى قضاء الهرمل.
وفي آذار الجاري، قضيت ثلاثة أيام (في 7 و8 و9 آذار) مع اللاجئين من الساحل السوري، وتحديدًا على النهر الكبير الشمالي. لم يُتح لهؤلاء عبور المعابر الرسمية كما فعل بعض اللاجئين أقرانهم في 2011 وما بعدها، وتحديدًا عبر معبريّ جسر أقمار (البقيعة) في وادي خالد والدبوسية (العبودية) في عكار. لم يجد لاجئو الساحل اليوم، ومعظمهم من ريف طرطوس ومن بعده ريف اللاذقية وقلّة من ريف حمص، سوى النهر الكبير الذي يتاخم بعض قراهم في ريف طرطوس ليلاقي بلدات المسعودية وحكر الضاهري وتلبيرة وتل عباس شرقي وتلحميرة والسماقية في سهل عكار، وسكانها من العلويين أيضًا. ومع استمرار إقفال معبر العريضة الرسمي عند الحدود اللبنانية السورية لناحية الساحل (طرطوس واللاذقية)، تجنّب هؤلاء العبور في المناطق السنية، خوفًا من أيّ حساسيات أو إشكالات هم بغنى عنها، كما لم يتح لهم بالطبع سلوك طريق الشام نحو معبر المصنع لاعتبارات الخطر نفسها. أما اللاجئون إلى الهرمل فلم يجدوا سوى نهر العاصي يخوضون مجرى مياهه في عبورهم، حيث كانت إسرائيل قد دمّرت كل الجسور والعبارات التي تسمح للآليات والمشاة العبور عليها.
من روايات اللاجئين إلى الهرمل قبل 3 أشهر و10 أيام، إلى الهاربين من جحيم أحداث الساحل السوري على النهر الكبير وفي مجراه، عادتني كل الشهادات التي وثقتها في لجوء 2011. وحدها أسماء المناطق تغيّرت ومعها طائفة اللاجئين، لكنّ العبارات التوصيفية تكرّرت: “تطهير عرقي، وقتل على الهوية”، والكثير شهادات شهود وشاهدات على القتل والناجين منه، والهروب بـ “التياب ل علينا”، وأمهات، الكثير من الأمهات اللواتي لم يتسنّ لهنّ دفن فلذات أكبادهنّ، وزوجات هاربات بأطفالهنّ بعد قتل أو فقدان أزواجهنّ. وكما 2011 كما اليوم، خاض اللاجئون النهر الكبير حيث تحوّلت، في المرتين، ضفته الجنوبية اللبنانية ملاذًا آمنًا لهم، كما الضفة اللبنانية لنهر العاصي حيث استقبل قضاء الهرمل آلاف اللاجئين في 2011 وما زالوا في بلداته لغاية اليوم.
يقول أحد اللاجئين الجدد إلى الهرمل من ريف حمص إنّ مأساة أهل الساحل السوري على كلّ وجعها، أكّدت للرأي العام التصفيات والإعدامات التي حصلت في سورية منذ سقوط النظام، وهو ما لم يحصل عند لجوء الدفعة الأولى من اللاجئين الشيعة من سورية والذين تعامل معهم كـ “فلول نظام”. ويقول إنّهم شعروا كلاجئين بالتمييز بينهم وبين اللاجئين منذ 2011، وكأنّ هناك تصنيفات للاجئين درجة أولى وآخرين درجة ثانية أو غير معترف بما تعرضوا له، حتى إعلاميًا.، وكذلك عبر المساعدات التي كانت وما زالت خجولة لا تفي بالحاجة. وجاء اللجوء من الساحل السوريّ على وقع مجازر “التطهير العرقيّ والقتل على الهوية لعائلات بأكملها”، ليحرّك الرأي العام، كما يرى، ويكشف عن بعض ما يحصل فعليًا في بعض المناطق السورية “خصوصًا أنّ العديد من هذه الجرائم توثّقت بالصوت والصورة، وكانت خيالية في إجرامها”.
ينشرون ملابسهم بين القبور..
تحدث عابرو النهر الهاربون من المجازر والانتقام عن قوى مسلّحة من إدلب سورية، عن استهداف الأحياء العلوية تحديدًا، والعائلات في منازلها، وكذلك في الطرقات وبناء على هوياتهم ولهجتهم. ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير نشره أمس الثلاثاء مقتل 6316 شخصًا في سورية، من ضمنهم 4711 مدنيًا فقط مقسّمون على 4172 رجلًا وشابًا، و345 سيّدة، و194 طفلًا، خلال الفترة الممتدة من 8 كانون الأول وحتى 18 من آذار. قتل هؤلاء جميعًا، وفق المرصد، في ظروف مختلفة ومناطق متفرقة في سورية. من بين هؤلاء 2237 شخصًا موزعين، وفق المرصد، على 1703 مدنيين من الرجال (1506 رجال) والنساء (132 امرأة) والأطفال (65 طفلًا وطفلة)، منذ اندلاع الأحداث في آذار ولغاية 16 منه. يُلاحَظ أن الأرقام الأخيرة الموثقة تعني الساحل السوري لتزامنها مع الأحداث الدامية التي وقعت هناك، رغم أنّ الأرقام التي تحدث عنها الناجون الذين لجأوا إلى سهل عكار تفوق هذا الرقم إلى أكثر من خمسة آلاف ضحية، من دون أن نتمكن من التثبت من صحتها.
بعض وقائع القتل الجماعي منه والفردي رواها الهاربون والهاربات عبر النهر الكبير حيث واكبتهم “المفكرة” لثلاثة أيام. فقالت لنا المرأة الهاربة ببناتها من بانياس ظهر السبت 8 آذار: “من لم يمت أمس الجمعة في بانياس مات اليوم”، وهي منهارة تبكي من دون توقف.
ومساء الجمعة 7 آذار، كان رجل خمسيني، قد وصل قاطعًا النهر من بلدة الرنسيّة في ريف طرطوس للتو، يركض ذهابًا وإيابًا بلا هدف على حافة ضفة النهر الكبير من الناحية اللبنانية، ويبدو عليه اضطراب واضح فيما تتحرّك يداه في الهواء، ويقول كمن يحدّث نفسه “ما قدرت أوصل ع البيت لطلع مرتي واولادي وجيبهن معي”.
مع هؤلاء، وعبر النهر الكبير عينه، ولكن من نقاط حدودية خارج السهل، وصلت عائلات سورية مسيحية، تأكدت “المفكرة” من لجوء عشرة من بينها إلى لبنان على الأقل، فيما قال الواصلون إنّ هناك عائلات أخرى قد غادرت من قرى أخرى. وإذ نتحفظ عن ذكر هذه القرى لأنّ أهلها لم يتحدثوا عن استهداف مباشر للمسيحيين كما العلويين، ولكنهم نزحوا بعدما فقدوا الإحساس بالأمان “وما منعرف أمتى رح يجينا الدور”، خصوصًا مع مقتل ستة مواطنين سوريين مسيحيين في بانياس. ولم يعتبر المغادرون من المسيحيين، أو الذين ما زالوا في سورية، ممن تمكنت “المفكرة” من الحديث معهم، أنهم مستهدفون كمسيحيين “عم يستهدفوا العلويين حاليًا، واللي قتلوا ببانياس قتلوا بالغلط، حتى في بعض الأشخاص السُنّة قتلوا بالغلط كمان”. ولكنهم يعيشون في خوف كبير، اضمحلّ معه الأمل في تمكنهم من متابعة العيش في سورية في ظل ما يحدث. وقالت سيدة تعيش في بلدة مسيحية قريبة من طرطوس لـ “المفكرة” أنّ السكان لا يجرؤون على الخروج من منازلهم، كما العلويين “إلا إلى دكانة الحي للإتيان بالحاجات الضرورية عندما تنفد”. يحصل هذا فيما عممت عليهم الكنيسة عدم التدخل في ما يحصل والتزام الصمت ومنازلهم ريثما تتوضح الأمور وما ستؤول إليه الأوضاع.
وقال أحد السكان لـ “المفكرة” إنّ بعض سكان القرى المسيحية تركوا منازلهم البعيدة عن مركز القرية ونزحوا داخليًا ليكونوا قرب التجمع الرئيسي في بلداتهم. وتجمعت بعض العائلات في بيت واحد لتكون قرب بعضها البعض في حال حدوث أيّ مكروه. وأشار الرجل الذي نتحفظ عن ذكر اسم قريته أو اسمه أن المسيحيين ورغم عدم استهدافهم مباشرة، باتوا لا يشعرون بالأمان الذي فقدوه نتيجة ما شهدوا عليه. وأضاف الرجل بأسف كبير “خلال أحداث 2011 غادر جميع أخوتي إلى الخارج وأنا لم أقبل مرافقتهم، لم أرد أن أعيش إلا في وطني سورية، لكنني اليوم سألحق بهم في حال تمكنت من الخروج من هنا”. ويرى الرجل نفسه أنّ الخوف مما قد يحصل في طريق المغادرة، كما فكرة المغادرة عبر النهر وقطع الحدود من دون أن يعرفوا خريطة واضحة للأماكن الآمنة تحول دون تجرئهم على الرحيل.
يحصل اللجوء الجديد إلى لبنان في ظلّ استمرار توقف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن تسجيل أي لاجئين جدد منذ 2015 بناء على طلب الدولة اللبنانية، فيما أوضحت مصادر متابعة للموضوع أنّ محادثات تجري بين المديرية العامة للأمن العام والمفوضية للبحث في إمكانية العودة إلى تسجيل اللاجئين الجدد، ولكن لا قرار قد صدر لغاية اللحظة. وعدم امتلاك اللاجئين الجدد لأي وثيقة تشرعن وجودهم في لبنان يضعهم في وضع هش يحدّ من قدرتهم على التحرك، ويعرّضهم للتوقيف وربما الترحيل، مع العلم أنّ السلطات الأمنية لم تمنع عبورهم النهر.
.. وعلى البوابات
الجفاف في خدمة اللاجئين.. وكذلك أهالي سهل عكار
يحلّ اللجوء الدموي الثاني في القرى والبلدات العلوية في عكار، بينما رفعت بلدات عكارية عدة ومخيمات للاجئين السوريين في السهل صور رئيس المرحلة المؤقتة في سورية أحمد الشرع، محتفلة بسقوط نظام الأسد، وبعضها يغدق عليه توصيف “أسد لبنان وسورية”. بعض هذه الصور رفعت على الحدود مع بلدات تحتضن اللجوء العلوي الجديد في خطوة تعيدنا بالذاكرة إلى صور ثلاثية كانت مرفوعة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونجله الراحل باسل الأسد والرئيس السابق بشار الأسد، في بلدات عكارية، تستضيف اللجوء السوري الجديد. وهي صور استبدلت مؤخرًا، إثر سقوط نظام الأسد، بشعار الجيش اللبناني مذيلًا بكلمات “شرف تضحية وفاء”.
بدأ اللاجئون من الساحل السوري يتوافدون إلى سهل عكار عبر النهر الكبير بأعداد قليلة نسبيًا بداية منذ 6 آذار الجاري مع بدء الاشتباكات في الساحل السوري، وتحديدا إثر إعلان السلطات السورية تعرّض دورية للأمن الداخلي لإطلاق نار في قرية بيت عانا في ريف جبلة في محافظة اللاذقية، ثم مقتل 13 عنصرًا من الشرطة في كمين مسلح لأتباع النظام السابق في الريف نفسه. ومساء السادس من آذار، في اليوم عينه، خرجت تظاهرات في كل من حمص وإدلب ودمشق وحماة داعية إلى حمل السلاح والانتقام، فيما بُثّت فيديوهات لعشائر سورية تطالب السلطة بتسليحها. وسرعان ما تحولت العمليات العسكرية إلى عمليات انتقاميّة استهدفت العلويين في ريف اللاذقية وطرطوس تزامنًا مع إعلان النفير العام.
وساهم الجفاف الحادّ الذي يشهده لبنان هذا العام في تسهيل عبور اللاجئين سيرًا عبر النهر، فيما حمل المتطوعون، أبناء البلدات المتاخمة للنهر في سهل عكار الأطفال والمسنين على ظهورهم.
وفيما أكد رئيس بلدية المسعودية علي العلي ومختار حكر الضاهري علي عزيز العلي لـ “المفكرة” أن توافد اللاجئين من الساحل السوري ما زال كثيفًا حيث يصل يوميًا إلى المسعودية 50 عائلة جديدة على الأقل، ومثلها إلى حكر الضاهري، والبلدات الأخرى التي تستقبل اللاجئين في سهل عكار. وقدّر رؤساء بلديات المسعودية والحيصة وتلبيرة ومختار حكر الضاهري أعداد اللاجئين الذين تستضيفهم 10 بلدات في سهل عكار بأكثر من 5000 عائلة، أي نحو 25 ألف نسمة، إذ اعتبروا أن المعدل الوسطي للعائلة لا يقل عن خمسة أفراد. وتتوزع البلدات العشر المضيفة على بلدات علوية كالمسعودية وحكر الضاهري وتلبيرة والحيصة وأخرى مختلطة بين سنية وعلوية مثل السماقية وتلحميرة وتلعباس شرقي، وقنبر والعبودية والحوشب. كما وصل إلى القرى العلوية في الدريب أكثر من 300 عائلة (أكثر من 1500 فردًا) وفق أرقام غرفة الكوراث في عكار، سكنوا في بيوت أهالي قرى وبلدات عين الزيت والبربارة والدغلة والريحانية وهيتلا وصيدنايا والشيخلار (أقلية علوية) ورماح (أقلية أيضًا). ومن السهل، أكملت نحو 5000 عائلة لاجئة نحو جبل محسن، أي 25 ألف نسمة، وفق ما أكد مدير مكتب رئيس المجلس الإسلامي العلوي الشيخ أحمد العاصي لـ “المفكرة”. مع هؤلاء وصل إلى ضهور الهوا، القرية العلوية الوحيدة في الكورة، 70 عائلة لاجئة من الساحل السوري، فيما استأجرت عشرات العائلات الأخرى في بلدتي بصرما وبطرام، جارات ضهور الهوا، وفق مختار القرية ابراهيم العلي.
في المقابل، تشير أرقام غرفة إدارة الكوارث أيضًا في تقريرها الصادر في 16 آذار الجاري إلى وصول 2699 عائلة لاجئة جديدة إلى 21 بلدة عكارية. ومن خريطة اللجوء يمكن التكهن بعدد تقريبي للعائلات المسيحية اللاجئة، حيث تفيد الأرقام نفسها لجوء 8 عائلات (37 فردًا) إلى منجز المارونية في الدريب الأوسط و7 عائلات (27 فردًا) إلى شقيقتها عندقت، و8 عائلات (39 فردًا) إلى العوينات (أرثوذكس)، و13 عائلة (46 نسمة) إلى الشيخلار (نطاق عيدمون) وهي قرية مختلطة يسكنها سنة وأرثوذكس وقلة علوية.
عبروا حفاة
ومع اللاجئين من ريف اللاذقية وبانياس وريف طرطوس، هرب من أحداث الساحل علويّو قرى وبلدات الرنسية والبصيصة والزاهد وكرتو والدبوسية السورية والجماسة وهبرون وبني إنعام وشوس وخربة الأكراد والبقار وحترة، وهي قرى متاخمة للنهر مباشرة. مع هؤلاء لجأ إلى السهل لبنانيون يسكنون هذه القرى وأبرزهم من البقار التي يسكنها غالبية أهالي بلدة تلبيبة في سهل عكار بعدما تهجّروا من قريتهم الصغيرة خلال الحرب الأهلية، وتحديدًا في 1976. تهجّر أهالي تلبيبة يومها قبل أن تأتي ثورة الفلاحين ثمارها في التأثير على تغيّر الملكية في السهل. كانوا ما زالوا فلاحين عند الباكاوات، لا يملكون بيوتًا وحتى أراضي، وبالتالي جاؤوا كما تهجروا سابقًا ب”التياب ل عليهم”، يسكنون بيوت جيرانهم وأهلهم في بلدات السهل. معهم لجأ من سورية أهالي حترة، وهي الجزء السوري من قرية حكر الضاهري اللبنانية التي يملك سكانها، وبسندات ملكية، 375 هكتارًا في سورية على ضفة النهر الكبير المقابلة لضيعتهم في لبنان، فيما تقتصر مساحة الأخيرة في عكار على 25 هكتارًا. اختار هؤلاء العيش في الجزء السوري بعدما بنوا بيوتًا في أراضيها، خسروها اليوم مع مصادر رزقهم ويسكنون عند أقاربهم في الحكر اللبنانية.
سكن كل هؤلاء في منازل أهالي البلدات التي استضافتهم، ولم تُفتح قاعات المساجد والبلديات وتلك المخصصة للمناسبات وبعض المدارس غير المستعملة، ولم تُبن غرف حجر البناء (اللبن) كما في المسعودية، أو الحديد والتنك كما في ضهور الهوا، إلّا عندما امتلأت بيوت مضيفيهم. ولكن مع استمرار توافد اللاجئين بوتيرة عالية دفع بعض رؤساء البلديات إلى طلب خيم متينة وآمنة لنصبها، في ظل انعدام إمكانيات اللاجئين الذين تركوا كل شيء ونجوا بأنفسهم ب”التياب ل عليهم”، كما وصفوهم وكما شهدنا على قدومهم وكيفيته.
ولم يتقاسم أهالي بلدات السهل المضيفة لقمة العيش مع ضيوفهم من اللاجئين وحسب، بل برزت نخوتهم ولهفتهم لنجدتهم من طريقة استقبالهم على النهر مباشرة. هناك انتشر فتية وشبّان ورجال القرى المحاذية للنهر لملاقاة اللاجئين المتعبين المستغيثين، يلاقونهم حتى على الضفة السورية عند مجرى المياه ليحملوا أطفالهم بين أذرعهم، ومسنّيهم ومسنّاتهم على ظهورهم ويقطعوا بهم النهر إلى أعلى الضفة اللبنانية. عجّت طرقات بلداتهم نحو النهر بمختلف وسائل النقل من دراجات نارية إلى سيارات الرابيد المستعملة في الزراعة إلى التراكتورات الزراعية إلى السيارات والحافلات الصغيرة (الفان)، يملأونها بما تتسع من القادمين، ينقلونهم إلى قراهم ليتوزعوا سواء عند الأقارب أو المعارف إن وجدوا وإلّا عند عائلات لا يعرفونها. وعندما امتلأت البيوت صاروا ينقلونهم إلى الأماكن المحددة من بلدية أو مخترة المنطقة. أتى بعض الفتية بقوارير مياه معدنية أيضًا يعرضونها على اللاجئين لحظة وصولهم. كانوا جميعهم يعلمون أن الاهتمام حتى بالتفاصيل الصغيرة يبلسم بعضًا من الجراح التي حملوها معهم وفي لحظة وصولهم بالذات كناجين.
وعلى عكس الأيام الأولى لوصول اللاجئين إلى الهرمل حيث تأخرت المساعدات فيما فُتحت لهم منازل الأهالي ومعها قاعات المساجد والحسينيات والبلديات وتلك الخاصة بالمناسبات أيضًا، ولكنهم انتظروا بعض الوقت وصول بعض المساعدات التي ما زالت دون الأساسيّات وخصوصًا التدفئة في عزّ البرد والاحتياجات الأساسية. أما في عكار، ورغم أن العائلات المضيفة ما زالت تشاركهم لقمة العيش، إلّا أن بعض المساعدات من مفوضية اللاجئين والمنظمات الشريكة والصليب الأحمر وكاريتاس قد بدأت بالوصول، رغم أن الحاجة أكبر بكثير أيضًا من المتوفر. ويشكو اللاجئون إلى قرى وبلدات الدريب الأوسط وعددهم نحو 2000 لاجئ جديد من ندرة المساعدات، حيث جمع أهالي البلدات تبرعات، مثل عين الزيت، خصصوها للاحتياجات، خصوصًا أنّ من قصدوها لم يسكنوا في قاعات أو مساجد بل في بيوت أهلها. ويساهم أحد مغتربي الدغلة في تحمل كلفة جزء من احتياجات اللاجئين إليها، فيما استغاث سكان الريحانية والبربارة بمغتربيهم الذين يرسلون تبرعات لتأمين بعض الاحتياجات وهي كثيرة أيضًا.
حين وصل اللاجئون إلى الهرمل بعد أيام من سقوط النظام السوري
لجوء 2011 وما بعده والعودة الخجولة
تستقبل عكار اللجوء السوري الجديد بينما ما زالت تتربع في صدارة المحافظات الحاضنة للعدد الأكبر من لجوء 2011 وما بعده. وفيما تؤكد مفوضية اللاجئين عودة 300 ألف لاجئ من كل لبنان منذ سقوط نظام الأسد ولغاية اليوم، ليس لديها رقم عن العائدين من عكار وحدها.
في المقابل، يؤكد رئيس بلدية ببنين محمود جوهر، وهي من أكبر البلدات العكارية الحاضنة لجوء 2011 وما بعده، أن نحو 40 إلى 45% من اللاجئين في ببنين قد عادوا إلى سورية منذ سقوط النظام ولغاية اليوم. ويشير جوهر إلى أن رجوع نحو 8 إلى 10 آلاف لاجئ سوري من ببنين، انعكس على بدلات الإيجار في البلدة التي كانت تحتضن نحو 22 ألف لاجئ سوري. صارت البيوت الفارغة متاحة بسعر 200 دولار للشقة التي كانت مؤجرة ب 300 دولار، كما تدنى سعر المحل الذي كان يستعمله السوريون للسكن من 150 دولارًا إلى 75 دولارًا. وأشار عنصر من شركة بلدية ببنين المفكرة إلى انخفاض إنتاج النفايات في ببنين نحو 40%، ليربط ذلك بمغادرة اللاجئين. ولفت إلى تحسن فرص العمل بالنسبة لأبناء ببنين مع تقلّص عديد اللاجئين فيها “مثلًا الفران ببنين تحسن شغله لمن صاحب الفرن السوري رجع ع بلدته، كما أن عمال البناء في البلدة أضحوا يجدون فرص عمل حيث كان مقاولو البناء يفضلون العامل السوري الذي يدفعون له 10 دولارات في اليوم بينما لا تقل يومية ابن ببنين عن 15 إلى 20 دولارًا”.
لكن أهالي ببنين يخشون توقّف تمويل مستوصف البلدية الذي أنشئ مع قدوم اللاجئين ويخدم المجتمع اللاجئ والمضيف في الآنعينه، حيث تم إبلاغهم بتجديد تمويل المستوصف لثلاثة أشهر “بس ما منعرف إذا رح يستمر لأنه إجا مع اللجوء”، وفق الشرطي نفسه.
وتفيد مسؤولة في جمعية تقدم الخدمات والمساعدة لقدامى اللاجئين بوجود عوامل تؤجل أو تؤخر هذه العودة أو تمنعها حاليًا، ومنها انخراط السوريين في النشاط الزراعي في عكار ليس كعمال مياومين فقط، بل كشركاء ب”الحصة”، وهو ما أكده الرئيس جوهر أيضًا. وتلفت ممثلة الجمعية إلى أن بعض العائلات السورية اللاجئة تنتظر انتهاء العام الدراسي لتعود إلى بلدها، فيما قصد آخرون مناطقهم في سورية ثم عادوا بسبب الدمار الكبير الذي وجدوه مع انعدام المقوّمات الأساسية للحياة.
وفيما تفقدت “المفكرة” مخيم الريحانية الذي يُعتبر أحد أكبر المخيمات السورية في بلدة بحنين لتجد الأرض التي كانت مؤجرة إلى جمعية “URDA” خالية من أي خيم للاجئين. وكان مخيم الريحانية يضم 195 خيمة تعيش فيها 195 عائلة سورية لاجئة، تدفع بدلات إيجارهم جمعية “أوردا” إلى صاحب الأرض. ومع سقوط نظام الأسد، أبلغت الجمعية لاجئي المخيم بتوقف تمويل دفع بدلات الإيجار، سائلة إياهم عن نواياهم بشأن وضعهم. وعليه قررت 135 عائلة العودة إلى بلداتها في ريف القصير وتحديدًا في البويضا الشرقية وعرجون، وهكذا كان. استأجرت الجمعية آليات “بيك آب” وقامت بنقلهم مع خيمهم وأثاثها إلى سورية عبر معبر جوسيه في القاع، وفق ما أكد أحد مسؤولي الجمعية عدنان تلاوي لـ “المفكرة”. وأكد تلاوي أن الجمعية أبلغت المفوضية بمغادرة العائلات لشطبها من سجلها، وهذا ما أكده بعض من تواصلت معهم المفكرة في بلدتهم البويضة في سورية بعد عودتهم.
في المقابل، رصدت “المفكرة” بعض العائلات التي عاد جزء منها إلى سورية وبقي رب الأسرة هنا أو الأم والأولاد ممن هم في المدارس، فيما عادت عائلات أخرى ومن دون أن تبلّغ عن عودتها، وما زالت تقبض الإعانة الشهرية من المفوضية والمساعدات الغذائية كون فرص العمل ما زالت نادرة في سورية، كما أفادت إحدى اللاجئات المفكرة.
ومع ببنين ومخيم الريحانية، أفاد رئيس بلدية المحمرة عبد المنعم عثمان “المفكرة” عن عودة نحو 10 إلى 15% من اللاجئين إلى بلدته. ورأى أن عدم وجود فرص عمل اليوم كافية في سورية، ودمار البيوت وعدم امتلاك الجيل الجديد الذي تزوج في لبنان بيوتًا في سورية، وكذلك تضرر البنى التحتية للمياه والكهرباء والاتصالات تشكل عائقاً أمام العودة. وكما ببنين انخفضت بدلات إيجار الشقق والمحلات بنسبة 30 إلى 50% في البلدة، وصار أبناء المحمرة يجدون منزلًا خاليًا في حال أرادوا استئجار بيت يسكنونه.
حال ببنين وبحنين والمحمرة في الساحل عكار عند مدخل العبدة لناحية عودة السورين إلى بلادهم، لا ينسحب على حال سهل عكار. ففي استطلاع المفكرة واقع الحال في 104 مخيما لللاجئين السوريين في منطقتي قعبرين والمقيطع في السهل، أكد أكثر من شاويش يتولّى إدارة مخيمه عدم عودة أي من سكان مخيمه أو المخيمات من حوله إلى سورية بسبب فرص العمل والدمار وشبه انعدام الخدمات ولأنهم منتظمون في أعمال تساعدهم في تحمل أعباء عائلاتهم، إضافة إلى المساعدات التي يتلقونها من المفوضية. وتحدث هؤلاء عن تفقدهم بلداتهم وتأكدهم من صعوبة العودة حاليًا إليها “بكرا بس تستقر سورية ويبدو يعمروها منرجع، بيصير في شغل”.
تفكيك مخيّم الريحانية
من البويضة الشرقية: ما أحلى من العيش بكرامة
وصلت العائلات العائدة من مخيم الريحانية في بحنين في عكار إلى البويضة الشرقية في ريف القصير في قافلة نظمتها ودعمتها جمعية “أوردا”. من على ركام منزله في البويضة، يتحدث أحمد عن أهمية العودة إلى سورية “عالقليلة منام وما منخاف تنزل علينا شي مداهمة أمنية بالليل لأنه انسرق موتوسيكل لي بطرابلس ونحن ساكنين بعكار”. لا ينفي أحمد صعوبة العيش في البلدة التي وجد أهلها الغالبية العظمى من منازلها مدمرة، وينتظر أهالي البلدة بائع الخبز يوميًا ليأتيهم بحاجتهم منه، والكهرباء تأتي ساعة واحدة في الـ 24 ساعة، فيما لا إشكال مع مياه الدولة التي يحصلون عليها يوميًا لوقت محدود. ولكنه سعيد أن لا يسمع أي مواقف رافضة لوجود لاجئين سوريين في لبنان “كل الوقت كنا نحس ونسمع إنه مش مرغوب فينا”. لم يجد أحمد أيًا من بيوت عائلته سليمًا “حتى غرفة ما في لنرممها ونقعد فيها”، نصب وأخوته الأربعة خيمهم، التي أتوا بها من لبنان، قرب بيوتهم وسكنوا فيها. في اليوم التالي لعودته إلى سورية أرسل أولاده إلى مدرسة الشهيد أحمد بكار الذي استشهد في حرب 1973 ضد إسرائيل “ونحن بالضيعة منفتخر فيه بطلًا”.
يقول أحمد إنّ بعض الموظفين في الجيش والإدارات الرسمية عادوا إلى وظائفهم. تأتي حافلة عامة يوميًا إلى البلدة وتأخذهم إلى عملهم في حمص وتعود بهم بعد الدوام، لافتًا إلى عودة نحو 500 عائلة إلى البويضة من لبنان وتركيا والأردن ومن شمال سورية “يعني بتحسي في حياة وإن صعبة بالضيعة”. ويسجل أحمد عودة عائلات أيضًا إلى قرى الدمانة الغربية والسلومية والسومرية جارات قريته “وحالهم متل حالنا عايشين بالخيم”.
أما بالنسبة للعلاقة مع السلطة الحالية، فقد أقتصرت، وفق الأهالي العائدين إلى ريف القصير، على تعيين شخص في كل بلدة وقرية لإحصاء العائدين وتسليم الأرقام إلى دائرة وزارة الشؤون والعمل في المنطقة. كما جال محافظ حمص على المنطقة متفقدًا الدمار، من دون تقديم أي مساعدات أو تسجيل مطالب وجاجات العائدين.
تفتح أم محمد اتصالا فيديو لتريني بأم العين وضع قريتها عرجون والركام الذي يملأ أحياءها وطرقاتها في ريف القصير. وجدت بيتها مدمرًا باستثناء المطبخ في الطابق الأول حيث كان يسكن ابنها، والصالون في الطابق الثاني حيث تسكن مع أبو محمد وابنتهما. رممت العائلة أعمدة البيت عبر تدعيمها بالحديد خوفًا من انهياره. أقفلت النوافذ المخلعة بالنايلون وقررت أن تفرح “رغم كل شيء” بالعودة إلى ديارها بعد 11 عامًا على تركها: “كنت مشتاقة إرجع ع بلدي وأرضي وأنا شجعت الأولاد وأبو محمد لنرجع، لبيموت بلبنان ما بلاقي قبر ليدفنوه فيه”. بعد عودة العائلة استعاد أبو محمد راتبه كمتقاعد في الجيش “كان معارض للنظام وترك وهربنا ع لبنان، بس بعد رجوعنا رجعوا له معاشه، عم يسعفنا شوي بس في غلا معيشة كتير وما بيقضينا”. كانت تأمل أم محمد أن تجد بستان اللوز الذي كان يشكل مصدر دخل للأسرة “بس ما في ولا شجرة بالبستان كلو مقطوع بعد ما تهجرنا من جذوعه متل كل بساتين الضيعة”. نالت الأسرة إعانة غذائية من جمعية “أوردا” عند عودتها إلى عرجون، ومساعدة أخرى من جمعية من إدلب مع حلول شهر رمضان “وغير هيك ما شفنا أي مساعدات”. كانت المساعدة المالية التي تتلقاها من المفوضية في لبنان تؤمن لها الاحتياجات الضرورية “طلبنا من المفوضية ينقلولنا المساعدة ع سورية ما قبلوا، قال ما بيقدروا”، تقول لتسأل نفسها “ليش؟ مع إنه بيساعد العائلات ترجع ع بيوتها لأنه ما في شغلة ولا عملة”.
تعاني أم محمد من انقطاع الكهرباء لفترات طويلة “بتجي الكهربا شي ساعة ساعة ونص بس، والمي كمان”، لكنها رغم ذلك تشعر براحة كبيرة “ما حدا بيعيش بكرامته إلا ببلده، في أحلا إنك ما تسمعي حكي وغنه ليش ما بتفلو شو بعد عم تعملوا عنا” كما كانت تسمع في لبنان. جارة أم احمد سميرة، والتي كانت قد نزحت مع عائلتها إلى إدلب، عادت معها إلى عرجون “بس ما قدرت تبقى هون، قالت بإدلب في حياة بدي إرجع فلّ يا أم محمد”، وهكذا كان. تمسك أم محمد بيد حفيدها ابن الستّ سنوات وتمشي معه في طرقات الضيعة لتعرفه إليها “خلق بلبنان وما بيعرفها” لكنها في كل مرة تتلعثم في الإجابة على أسئلته عن عدم وجود سيارات وحافلات للنقل ليتمكن من الذهاب إلى القصير لزيارة عمته التي عادت من لبنان وعمته الثانية التي عادت إلى بابا عمرو في حمص “عنا موتوسيكل بس كيف بدنا نروح مسافة 22 كيلومتر عليه لنوصل ع حمص؟”، تقول.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.