أصدرت محكمة الاستئناف العسكرية بتونس يوم 12-4-2014 احكامها في قضايا شهداء وجرحى الثورة التي تتعلق باقليم تونس الكبرى وولايات الشمال والساحل وتالة وتاجروين وصفاقس، والتي تشمل فعليا العدد الاكبر من ملفات شهداء وجرحى الثورة الذين اصيبوا قبل تاريخ 14 جانفي 2011. وانتهت المحكمة في حكمها النهائي الى اعادة التوصيف القانوني للوقائع التي نسبت للمتهمين من القيادات السياسية للنظام السابق المسؤولة عن الملف الامني والقيادات الامنية واعوان قوات الامن الداخلي. فاعتبرت ما تمت نسبته من جرائم قتل عمد من قبيل القتل على وجه الخطأ وقدرت ان الافعال المنسوبة للقيادات الامنية والسياسية تشكل جنحة الامتناع المحظور، لتنتهي الى تخفيف العقوبات التي قضت بها محاكم الدرجة الاولى في حق المتهمين. وقد أدى ذلك الى اعتبار العقوبات بالنسبة للقيادات الامنية التي احيلت بحالة ايقاف مساوية او تكاد لمدد الايقاف التي سبق لهم قضاؤها. كما اسعفت المحكمة عددا من المتهمين المحالين بحالة سراح بتأجيل تنفيذ العقاب البدني.
بادر جرحى الثورة وعائلات الشهداء بمجرد النطق بالحكم للتعبير عن رفضهم لمنطوقه دون التفات لقرار المحكمة مضاعفة الغرامات التعويضية التي قضي بها لفائدتهم، مما سبب اضطرابا في جلسة التصريح بالحكم. ورغم صدور الاحكام مع عطلة نهاية الأسبوع، فانها اثارت موجة من الانتقادات صدرت اساسا عن الشخصيات العامة والاحزاب السياسية التي عبرت عن صدمتها من تخفيف المحكمة للعقوبات. وقدرت ان ذلك يندرج في سياق تكريس ثقافة الافلات من العقاب ويتعارض مع قيم الثورة . فذكر الناطق الرسمي باسم رئيس الجمهورية في تصريح صحفي له "أن رئيس الجمهورية يعتبر الأحكام التي أصدرتها محكمة الاستئناف العسكرية غير منتظرة وصادمة للشعور العام". كما اعتبرت رئيسة لجنة شهداء وجرحى الثورة بالمجلس الوطني التأسيسي ان" صدور الاحكام بهذه الكيفية يثير نقطة استفهام " فيما ذهب سمير بالطيب الناطق الرسمي باسم حزب المسار الى "اعتبار الاحكام فضيحة من فضائح الثورة". واعتبر من جهته حزب التكتل الأحكام غير منصفة لقضايا شهداء الثورة وجرحاها ولا تقطع مع ظاهرة الإفلات من العقاب. أما حزب العمال فقد اعتبر في بيان له أن أحكام محكمة الاستئناف العسكرية بتونس مهزلة وخيانة لدماء الشهداء. وحمل الترويكا – اي ائتلاف الاحزاب الفائزة في انتخابات المجلس الوطني التاسيسي -مسؤولية عقد الصفقات مع رموز الديكتاتوريّة ورموز النظام القمعي المخلوع الذين أطلق سراحهم دون محاكمة فعليّة في صفقة مشبوهة؛ ودعا إلى سحب الملفّ من المحاكم العسكريّة وإحالته على مسار العدالة الانتقالية. وقد أكّد النائب بالمجلس الوطني التأسيسي عن حركة النهضة وليد البناني أن الأحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف العسكرية مثلت صدمة كبرى لأهالي الشهداء ولأنصار الثورة مُعتبرا هذه الاحكام غير منصفة ومخيبة لآمال عائلات الشهداء والجرحى ولا تتناسب مع خطورة الجرائم المنسوبة للمتهمين ولا تتلاءم مع حقيقة الافعال الثابتة في حق المتهمين وطالب بإحالة ملف شهداء وجرحى الثورة على دائرة خاصة لإعادة محاكمة المتهمين وكشف كل خفايا هذه الملف الوطني وإنصاف عائلات الشهداء والجرحى.
التفتت الاحزاب والشخصيات السياسية عن تزكيتها السابقة لتعهد القضاء العسكري بهذه القضايا وعادت لتطالب بسحب ملفات القضايا من القضاء العسكري واعادة الابحاث والمحاكمات في شانها. وكان الفصل 149 من الدستور الجديد قد نص صراحة على "تواصل تعهد المحاكم العسكرية بالقضايا التي تعهدت بها الى حين تنقيح قوانينها الاساسية". كما اعتبرت ذات الاحزاب والشخصيات السياسية ان الافراج عن القيادات الامنية يعد خيانة لمبادئ الثورة، وتجاهلت ان الجانب الاكبر من جرحى وشهداء الثورة يتشكل فعليا من شهداء وجرحى ما بعد 14 جانفي 2011 وان ذات المحاكم العسكرية قضت في حق العسكريين المتهمين في قضاياهم بعقوبات مخففة بعدما كيفت أفعالهم مثلما فعلت محكمة الاستئناف في القضية الحاضرة. وبذلك، بدا اعتراض اليوم على الاحكام المخففة تعبيرا عن موقف سياسي اكثر مما هو موقف مبدئي. كما تزامن ذات الاعتراض عن تخفيف الاحكام مع سعي طيف هام من المتمسكين بالمحاسبة لمصالحة سريعة مع الفاسدين من كبار رجال الاعمال لا اعتبار فيها لكشف الحقيقة او للمحاسبة كثقافة تمنع الافلات من العقاب.
وانتهى رفض احكام المحكمة العسكرية ليتركز حول ادانة " العقوبات المخففة " دون اعتبار لمعيار العدالة في التعاطي مع الحكم الصادر ودون التفات لحقيقة عجز كامل منظومة كشف الحقيقة بخصوص احداث الثورة عن التوصل لكشفها. وقد تكون الزوبعة التي اثارها حكم القضاء العسكري مناسبة لإعادة طرح السؤال حول السبيل لتحقيق العدالة التي تضمن المحاسبة اذا ما تم استخلاص الدروس منه. وهذا لا يتحقق ما لم يتجاوز مختلف الاطراف حالة السعي للتوظيف السياسي للحدث في اتجاه البحث عن الاسباب الحقيقية للفشل في تحقيق شعار المحاسبة.
الصورة منقولة عن موقع www.yanair.net
متوفر من خلال: