عقاب جماعي لمشتركي الخلوي: نموذج جديد عن سوء إدارة الشأن العام


2022-03-10    |   

عقاب جماعي لمشتركي الخلوي: نموذج جديد عن سوء إدارة الشأن العام

الأزمة المالية والنقدية تخطى عمرها السنتين. منذ ذلك الحين وحتى اليوم لم يتوقف الحديث عن قرب زيادة تعرفة الاتصالات. مؤخراً بدأ هذا الحديث يأخذ منحًى أكثر جدية. وزير الاتصالات الحالي جوني القرم يُكرّر أنه أمر لا بد منه لاستمرارية القطاع وإن كان مقدار الزيادة يخضع للكثير من الاعتبارات. وتؤكد مصادر معنية أن اقتراحاً متكاملاً صار جاهزاً للعرض على مجلس الوزراء، إلا أن الارتباك لا يزال يتعلق بسعر الصرف وبالتالي نسبة الزيادة في الأسعار، التي يمكن أن تتراوح ما بين 4 أضعاف و5.3 أضعاف. لكن للوصول إلى هذه الخلاصة، تقرر السير في طريق متعرجة حسابياً، بحيث يتم تخفيض سعر الدقائق والداتا بالدولار، بما بين 66 و70%، لكن على أن يتمّ تسعير الدولار حسب سعر منصة صيرفة. وعلى سبيل المثال، فإن ثمن الدقيقة في الخطوط مسبقة الدفع يبلغ حالياً 25 سنتاً، أي ما يساوي 375 ليرة، لكن بحسب الاقتراح الجديد سينخفض سعر الدقيقة إلى 0.83 سنتاً (66.6%)، لكنه بالليرة سيرتفع إلى 1700 ليرة على سعر 20 ألفاً للدولار، وإلى ألفيْ ليرة على سعر 24 ألف للدولار. وهذا يعني أن السعر سيكون متحرّكاً عندما يدفع المشترك فاتورته بالليرة تبعاً لتغيّر سعر الصرف. 

قطاع بلا رؤية

بالرغم من أنه يتبين من الاقتراحات المطروحة أن الأسعار لا تُبنى على رؤية واضحة للقطاع ولمصيره، إنما على عمليات حسابية تسعى لزيادة المداخيل فقط، من دون النظر إلى تأثير هذه الزيادة على الاقتصاد وعلى القدرة الشرائية للمشتركين، فإنّ الوزارة وجدت أنه لا بد بالتوازي مع ذلك من معالجة مسألة تراكم الأرصدة مسبقة الدفع المتراكم في السوق، والذي يقدر ب450 مليون دولار. فأي زيادة على الأسعار ستعني، من منظار وزارة الاتصالات، أنّه لن يكون بالإمكان الاستفادة منها مباشرة، إذ أنّ ثمّة شريحة من المستهلكين أو التجار ستستفيد من تخزين دولارات الاتصالات في هواتفها أو في بطاقات مسبقة الدفع سبق أن دُفع سعرها على سعر 1500 ليرة للدولار، لاستعمالها بعد رفع السعر بالنسبة للأفراد أو لبيعها بعد فكّ ارتباط دولار الاتصالات بالسعر الرسمي بالنسبة للتجار. ولذلك، عمدتْ الوزارة إلى استشارة هيئة الاستشارات والتشريع في إمكانية اقتطاع 70% من الرصيد المتوفر لدى جميع المستهلكين أو تقليص صلاحيات البطاقات. وإذ أعطتْ الهيئة رأياً سلبياً في هذا الخصوص، إلا أنها وافقت على خيار تحويل الرصيد من الدولار إلى الليرة على سعر 1500 ليرة. يعتبر قرم أن ذلك مجرد تذكير للمشترك بأنه دفع ثمن البطاقة بالليرة، والغاية من ذلك أنه حين يحين وقت رفع التعرفة، سيكون بالإمكان أن تشمل التعرفة الجديدة كلّ حاملي دولارات الاتصالات من دون استثناء، أي بدلاً من أن يصرف المستهلك الذي سبق له أن اشترى رصيداً على سعر 1500 ليرة ما يملكه من رصيد، قبل أن يشتري مجدداً على السعر الجديد، سيتم التعامل معه على أنه يشتري على السعر الجديد منذ لحظة إقرار الزيادة. ولا تُفرّق هذه الخطوة بين من يملك 100 ألف دولار في رصيد هاتفه أو من يملك 20 دولاراً أو مئة دولار اشتراها بشكل رسمي من الشركة، إن كان عبر الموقع الالكتروني أو عبر الموزّعين في محاولة بسيطة منه لتخفيف تداعيات الأزمة عليه.

اللافت أن وزير الاتصالات جوني قرم أقر بنفسه أن الإجراء المتخذ يشكل عقاباً جماعياً لكل المشتركين، بسبب سعي مجموعة من المشتركين لا تزيد عن 400 شخص إلى تحقيق أرباح غير مشروعة عن طريق تكديس أرصدة تخطّت 200 ألف دولار. فالوزير أعلن أنه جرى السعي إلى استثناء من يملكون ما دون 300 دولار في رصيدهم من الحسم المُتوقّع إلا أن الأمر لم ينجح تقنياً. الوزير يقول أيضاً أن شخصاً واحداً راكم رصيداً في هاتفه تخطى مليون دولار. لكن مع ذلك فإن الوزارة قرّرت المساواة بين هذا الشخص ومن يملك 10 دولارات في رصيده أو من استدان لتشريج 100 دولار تحسبا لارتفاع الكلفة. 

وحدات لا دولارات

لذلك، تعتبر مصادر مطّلعة أن هذه العملية هي عملية استيلاء رسمية ينبغي إيقافها. فدولارات الاتصالات هي عملياً وحدات هاتفية لا قيمة نقدية لها، إلا في حال استعمالها لشراء الخدمات الهاتفية. وبالتالي، تأتي الوزارة لتقول لمن يملك 100 دولار، أي ما يعني 400 دقيقة اتصال، أن هذه الدقائق ستنخفض إلى 75 دقيقة فقط، متناسية أن هذه الدقائق التي سبق أن اشتراها قبل تعديل السعر صارت من حقه، ولا يمكن بالتالي لأحد أن يلغي هذا الحق. فعلى سبيل المثال، لو كان أحد المنازل في القرى يملك خزاناً للمازوت سعة عشرة آلاف ليتر، وقرر هذه السنة أن يملأه تماماً استباقاً لرفع سعر المازوت، لا يمكن لوزارة الاقتصاد، أن تذهب وتسحب ثلاثة أرباع الكميّة بحجة أن ما دفعه حينها لا يشتري على السعر الجديد أكثر من ألفي ليتر. وهذا بطبيعة الحال يختلف عن اكتشاف الوزارة لخزانات مخبأة في الأرض كان عدد من المحتكرين يخزنها للتجارة بها عند رفع السعر. 

في حالة الاتصالات أيضاً ما تشتريه مسبقاً صار ملكك، إلا إذا تبيّن وجود تلاعب أو محاولة استغلال لتحقيق أرباح غير مشروعة. فمن يملك خطاً مسبق الدفع يعني أنه يدفع سلفاً ثمن الخدمة التي يفترض أن يستعملها في مهلة محددة وإلا خسر الرصيد أو بشكل أدقّ خسر إمكانية الاستفادة من الخدمة التي اشتراها، وهي في هذه الحالة دقائق الاتصالات أو سعات الإنترنت أو باقات الاتصالات والإنترنت. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان هنالك تمييز بين الخطوط المسبقة أو لاحقة الدفع، التي يدفع أصحابها ثمن الخدمة بعد استهلاكها. 

الاستشارة التي أصدرتها هيئة الاستشارات تعتبر أن الرصيد الذي يملكه المشترك لا يعطيه أيّ حقّ مكتسب بالحصول على عدد محدد من الدقائق. وبالتالي، فإن رفع السعر لا يحرم هذا المشترك خدمة كان اشتراها. وتعتبر مصادر مطّلعة على الاستشارة أنها انطلقت من مبدأ أنه لو كانت البطاقات مسبقة الدفع تشير إلى عدد محدد من الدقائق عند شرائها، لما أمكن لأحد أن يحسم منها، إلا أن البطاقات المعتمدة من الشركتين تشير فقط إلى الرصيد بالدولار، وأحياناً بالدولار والليرة، وإلى صلاحية البطاقة. وهذان أمران لا يجوز تعديلهما، لأنهما يشكلان عقداً بين الشركة والمشترك. أما مسألة تحويل الرصيد إلى الليرة، فهذا أمر ممكن قانونياً، لا بل واجب، انطلاقاً من أنه لا يجوز التسعير بغير العملة الوطنية. ترفض المصادر محاكمة النوايا، معتبرةً أنّ ما يمكن أن يجري بعد تحويل الرصيد يُعالج في وقته، خاصّة في حال العودة إلى التسعير بالدولار. أما اليوم، فالاستشارة محصورة بإمكانية تحويل الرصيد إلى الليرة وعدم إمكانية تخفيض مدة العقد.

ما لم تأخذه الاستشارة بعين الاعتبار هو أن بطاقة الاتصالات ليست بطاقة شراء أسوة ببطاقة الشراء التي يمكن استعمالها، على سبيل المثال، في المراكز التجارية. فالبطاقة تلك يمكن أن يشتري بها المستهلك أي سلعة، في حين أن بطاقة الاتصالات محصور استعمالها بشراء الداتا والدقائق المعروفة الثمن، بالنسبة للمستهلك والموزع والشركتين. وبالتالي عند شراء بطاقة شهر على سبيل المثال، يدرك المشترك سلفاً أنه يشتري بقيمة 22.73 دولاراً دقائق أي ما يُعادل 90 دقيقة اتصال، وبالتالي لا يمكن أن يشتري المشترك الدقائق التسعين، ثم تعمد الشركة إلى تخفيض عدد هذه الدقائق التي سبق أن بيعت. 

دولرة ثم ليلرة فدولرة

الأسوأ أن تحويل الرصيد إلى الليرة ليس سوى محاولة للتحايل على المشتركين، لأن التسعير سيبقى بالدولار، ما يعني عملياً أن الهدف من التحويل ليس الانتقال إلى تسعير الخدمة بالليرة، بل تذويب الرصيد، ومن ثم إعادته إلى الدولار بعد رفع السعر. فالسعر بالليرة سيبقى انعكاساً للسعر بالدولار وهو لن يكون ثابتاً، بل سيختلف باختلاف سعر صيرفة. فعلى سبيل المثال، في أحد الطروحات التي عرضتها شركة “تاتش” كان سعر صيرفة 24 ألف ليرة، ولذلك قدر سعر الدقيقة بألفي ليرة (0.83 سنتاً)، أي أنه بالرغم من تخفيض سعر الدقيقة بالدولار من 25 سنتاً إلى ما يقل عن سنت واحد، إلا أن السعر بالليرة ارتفع من 375 ليرة إلى ألفي ليرة، أي ما يعادل 533%. 

وفي بعض الأسعار المقترحة، يتردّد أن سعر بطاقة الشهر سينخفض بالدولار من 22.73 بدون ضريبة على القيمة المضافة إلى 4 دولارات. لكن بالليرة سيرتفع ثمنها من 34 ألف ليرة إلى 80 ألف ليرة إذا كان سعر صيرفة 20 ألفاً. أما دقيقة الاتصالات بالنسبة للخطوط لاحقة الدفع، فينخفض سعرها من 11 سنتاً إلى 4 سنتات، لكن بالليرة سيرتفع من 165 ليرة إلى 800 ليرة. أما الداتا، فمن المتوقع أن ينخفض سعر الميغابايت من 7 سنتات إلى 2 سنت. ولهذا فإن باقة 6 جيغابايت التي كانت ثمنها 26 دولاراً في تاتش، سينخفض إلى 8.67 سنتاً، لكنه سيرتفع بالليرة من 39 ألف ليرة إلى 173 ألف ليرة على سعر 20 ألفاً لدولار صيرفة. وهذا يعني باختصار، أن الأسعار لن تكون بالليرة أبداً، فكل نظام التسعير مبني على التسعير بالدولار، وما السعر بالليرة سوى انعكاس لسعر صيرفة المتغيّر.

هذا يعني الإبقاء على العاهات الموروثة منذ إنشاء شركتي الخلوي، على ما يشير المدير العام الأسبق ل”تاتش” وسيم منصور في مقالته في “المفكرة القانونية“، والتي قضتْ بتسعير هذه الخدمة بالعملة الأجنبية لضمان أرباحهما بمعزل عن تقلّبات سعر الصرف في السوق، بدلاً من وضع تعرفة بالليرة اللبنانية، أسوة بالخدمات الأخرى، تتناسب مع القيمة الشرائية للمشتركين. علماً أن منصور كان حذر من تحميل المشتركين مسؤولية العجز في القطاع، قبل معالجة أسباب تضخّم النفقات وتحسين الإنتاجية.

باختصار، قررت وزارة الاتصالات معاقبة نحو 5 مليون مشترك، لمواجهة نحو 400 شخص تمكنوا من جمع أرصدة تزيد عن 200 ألف دولار لكل واحد منهم. وهذا لا يمكن تفسيره إلا بسوء إدارة أو تواطؤ من الشركات والوزارة التي تعمدت تشجيع الناس على الشراء لإظهار فوائض في عائدات القطاع، قبل أن تقول لهم إن اللعبة انتهت وسنحسم ثلاثة أرباع أرصدتكم. وبالتالي، إما أنّ هذه الخطوة أُنجزت بسوء نيّة وبهدف التلاعب بسعر الصرف أو أن مجلسي إدارة الشركتين غير قادرين على إدارة القطاع (تم التجديد لهما). بينما لو كان الهدف هو مواجهة الذين راكموا الدولارات، لكان أمكن تطبيق القانون بحقهم، ولاسيما قوانين المنافسة وحماية المستهلك والإثراء غير المشروع. لكن ما ذنب من اشترى بطاقة تشريج لسنة من دون أي تلاعب، طالما أن هذه البطاقة معروضة على الموقع الإلكتروني للشركتين، كما يمكن شراؤها من الموزعين؟ 

وعليه، يكون السؤال الفعلي: لماذا سمحت الشركتان بتخزين ما يزيد عن 400 مليون دولار في فترة زمنية قصيرة، ولماذا لم تتخذا أيّ إجراء يوقف هذا التخزين؟ ألم يكن بالإمكان وقف بيع بطاقات السنة على الأقل؟ ولماذا سمح للمشتركين تشريج خطوطهم بدون سقف، علماً أنه حتى اليوم لا يزال ذلك متاحاً؟ الأسوأ أن الحجة المقدّمة لاستمرار بيع البطاقات بالوتيرة نفسها بالرغم من متابعة الشركتين لعمليات التخزين كانت أنها الحل الوحيد لمنع رفع الأسعار وبيع البطاقات في السوق السوداء، علماً أن ذلك ليس صحيحاً لأنه كان بالإمكان معرفة التجار ومواجهتهم بإجراءات قانونية. فأي عامل في قطاع الاتصالات يدرك أن مراكمة 450 مليون دولار على الشبكة يمكن أن يضرب أي شركة، وبالتالي كان يجب معالجة الموضوع بسرعة، على الأقل من خلال التوقف عن تسليم البطاقات للموزّعين المخالفين وتحديد مهلة لهم لبيع البطاقات التي يملكونها، تحت طائلة إلغائها، مع تعزيز عمليات البيع المباشرة من مكاتب الشركتين لمنع السوق السوداء. 

البحث عن حلّ  أكثر إنصافاً

أما الحديث عن عدم وجود أي نص قانوني يسمح بمعاقبة من راكم آلاف الدولارات دوناً عمّن راكم 100 دولار، بما يزيد الخشية من إعفاء هذه الفئة من مستغلي الأزمة من المحاسبة، فلا يعني الموافقة على إجراء هيركات على كل حسابات المشتركين بدون تمييز. بل يُفترض بالإدارة المعنية تحمّل مسؤولية إيجاد الحلّ العادل له. وعلى سبيل المثال، يمكن للوزارة وضع سقف أعلى للرصيد في الهواتف، قد يكون ألف دولار أو أي مبلغ آخر، وتدعو كل من يملك أكثر من هذا المبلغ إلى بيعه في مهلة محددة، وإن لم يتمكن من بيع الرصيد كله، يُلغى من حسابه، على أن يحق له استرداد قيمته نقداً على سعر 1500 ليرة. وإن تعذّر تنفيذ هكذا خطوة بقرار وزير، يمكن اللجوء إلى مجلس النواب لإصدار قانون بهذا الخصوص، أسوة بما حصل مع البطاقات مسبقة الدفع التي لم تستعمل بعد.

إذ تجدر الإشارة إلى أن موازنة 2022 تنص في المادة 146 منها على اعتبار “بطاقات الهاتف الخلوي مسبقة الدفع المباعة من الشركتين وغير المستعملة لغاية صدور القانون منتهية الصلاحية وغير صالحة للاستخدام وإعطاء الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين بحوزتهم هذه البطاقات إمكانية استرجاع ثمنها في مهلة أقصاها شهر”. وقد جاء في الأسباب الموجبة لهذه المادة أن بعض التجار والأفراد عمد في الآونة الأخيرة إلى شراء بطاقات الهاتف مسبقة الدفع بهدف تخزينها وبيعها فيما بعد بأسعار مرتفعة، ما من شأنه أن يحقق أرباحا مكتومة لهؤلاء ويخفف من إيرادات الدولة في المرحلة المقبلة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، حقوق المستهلك ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني