
المصدر: المفكرة القانونية | رسم: عثمان سلمي
بالتزامن مع صدور المرسوم المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء المؤقت الذي هزّ البلاد، أصدر رئيس الجمهورية قيس سعيد مرسوما يرتّب أحكاما وإجراءات العفو العام في جريمة إصدار شيك دون رصيد. وإن حظي هذا المرسوم بدعاية وتغطية هامة لما يمنحه من عفو لأعداد هامة من الذين تعلّقت بهم هذه الجريمة، إلاّ أنه سريعا ما تواترت مواقف العديد من المعنيين بهذا الموضوع والذين عبّروا عن رفضهم وامتعاضهم مما جاء بالمرسوم. فقد كان نصّا مكرّرا، استنسخ من نصوص سابقة، لا يعالج المشكلة الأصلية لارتفاع إصدارات الشيكات من دون رصيد سواء من الزاوية الاقتصادية أو حتى القانونية، ولا يرقى أن يكون حلاّ للتخفيض من اكتظاظ السجون ولا يمثّل مخرجا لضحايا هذه الظاهرة.
وحده الخلاص يمكّن من العفو العام
صدر المرسوم المتعلق بالعفو العام في جريمة إصدار شيك من دون رصيد يوم 10 فيفري 2022 من دون سابق إنذار ومن دون أي تقديم لأحكامه أو شرح لأسباب طرحه أو الهدف منه. خصّص له رئيس الجمهورية بضع ثواني للإعلان عن التداول فيه خلال الاجتماع الوزاري قائلا بأنه سيمتّع المتّهمين بالعفو وتاليا تخليصهم من العقوبة السّجنية في حال قاموا بتوفير الرصيد المحمول عليهم. انجرّ عن هذا التقديم غير الدقيق والمنقوص للمرسوم، دعاية مضلّلة وفهم مغلوط لما يقدّمه هذا النصّ. فهذا المرسوم الذي تمّ تقديمه كإصلاح لمعضلة، هو في الواقع أبعد ما يكون عن ذلك.
يتمثّل المرسوم في نصّ قصير ذي ثلاثة فصول تنصّ أساسا على إمكانية إسناد العفو العام لكلّ من أصدر شيكا من دون رصيد وتمّ تحرير شهادة في عدم الخلاص أو كان محلّ تتبع قضائي شريطة أن يقوم بدفع المبلغ الذي عليه والمصاريف المتعلقة به التي تكفّل بها المصرف قبل يوم 31 ديسمبر 2022. والعفو هنا لا يعني إيقاف التّتبع فقط بل يمكّن من صدرت ضدّهم أحكام في الغرض من محو هذه الأخيرة من سجلّ السوابق العدلية وهو ما يضمن لهؤلاء الأشخاص التمتّع بحقوق مسلوبة بصفة مباشرة أو غير مباشرة كالانتداب بالوظيفة العمومية أو الحصول على دفتر شيكات[1].
وإن كانت فكرة العفو العام في ظاهرها إيجابية لما تقدّمه من فرصة ومخرج لأشخاص كان يُمكن كسرهم وتحطيم حياتهم بعقوبة سجنية تمتدّ لخمس سنوات من أجل جريمة مالية خفيفة وفي سجون تنتفي فيها الحقوق الدنيا للسجناء، إلاّ أنّ التمعّن في المسألة يأخذنا لخلاصات مغايرة.
مرسوم لا يرقى للتطلعات ولا يلبّي المطالب ولا يقدّم حلاّ للمعضلة
كانت ردود فعل الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة المتضاربة حول المرسوم الأكثر تداولا في وسائل الإعلام من بين مُختلف الفاعلين. فبعد أن عبّر رئيسها عن ترحيبه للمرسوم قائلا بأن “رئيس الدولة قام بتحرير العبيد” مشيرا لمختلف المواطنين الذين سيتمكنون بفعل هذا النص من العودة لأرض الوطن ومغادرة السجون واستعادة النشاط الاقتصادي، تراجع عن هذا الموقف فور صدور النصّ وأحكامه بالرائد الرسمي. فهذه الجمعية التي لطالما طالبت بإلغاء العقوبة السجنية لجريمة إصدار شيك من دون رصيد وناصرت اعتماد الشيكات الإلكترونية وخاضت في ذلك محادثات عدة مع حكومتي إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي وقدّمت مقترحاتها إلى مجلس نواب الشعب، كانت تأمل صدور نصّ ثوري ينتصر لمطالبها وحُججها. ولكنّها جوبهت بنصّ هزيل لا يقدّم أيّ حلّ للأزمة التي يعيشها الكثيرون من أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة. فقد تعرّضت العديد من هذه المؤسسات إلى مشاكل مالية وأفلست أخرى خصوصا مع انتشار الأزمة الصحية مما أثّر على إمكانية خلاصهم للمصاريف والدفعات التي قُدّمت في شكل شيكات. وهو ما عرّض العديد منهم للإيداع بالسجن وتحمّل عقوبة سجنية ثقيلة ودفع آخرين لمغادرة البلاد هربًا. هنا يكمن سبب رفضهم لهذا المرسوم، الذي يشترط خلاص المبلغ الذي دوّن بالشيك والمصاريف الأخرى للتمتع بالعفو والتخلّص من العقوبة السجنية وهو بذلك لا يقدّم أي إضافة تُذكر لما يقدّمه القانون المعمول به إلى الآن. فالمجلة التجارية المنظمة لمثل هذه النزاعات، تمكّن صاحب الشيك من القيام بالتسوية وتفادي العقوبة السجنية في حال قام بدفع مبلغ الشيك والمصاريف المحمولة عليه ما لم يصدر في شأنه حكم باتّ. فالإشكال الحقيقي بالنسبة للمعنيّين بهذا المرسوم لا يكمن في غياب بدائل عن العقوبة السجنية بل في عدم قدرتهم على خلاص المبالغ المحمولة عليهم من أصله. فلو كان لهؤلاء الأشخاص الموارد المالية لخلاص مبالغ الشيكات ما كانوا ليعرّضوا أنفسهم للتتبّعات الجزائية والعقوبة السجنية ولكانوا توجّهوا نحو إجراءات التسوية المخوّلة لديهم. وهنا يكمن التساؤل بالتالي عن الهدف من هذا المرسوم وعن الفائدة منه.
وعليه، عند التدقيق في مضمون المرسوم، بإمكاننا أن نستخلص أن جلّ ما يقدّمه من إضافة فعليّة هو إمكانية إصدار العفو في حقّ من صدر في حقّه حكم باتّ وما زال يقبع بالسجن والذي لا يمكنه في ظل القانون الحالي اللجوء لإجراءات التسوية المذكورة. ولكن هنا يكمن التساؤل عن مدى إمكانية هؤلاء الأشخاص على خلاص هذه المبالغ إن كانوا لم يقدروا على خلاصها طيلة فترة المحاكمة حين كانت التسوية فرضية يمكن التمتّع بها. وما الذي تغيّر فيما يتعلّق بقدرتهم المادية على خلاص هذه المبالغ إن كانوا طيلة هذه الفترة يقبعون بالسجون ولا يمكنهم ممارسة أي نشاط مُربح؟
نصّ للدعاية في سياق “استثنائي”
إن كان التمعّن بأحكام المرسوم يفضي إلى أنّ لا رجاء من تطبيقه أو من قدرته على حلّ المعضلة، فإن ما طرحه من نقاش قد سلّط الضوء على إشكالية كبرى وجب حلّها ولكن بطرق فعّالة. فقد أشار قاضي تنفيذ العقوبات السيد سنان الزبيدي في مداخلة إذاعية إلى ارتفاع عدد القابعين بالسجون من أجل جريمة إصدار شيك من دون رصيد. إذ أصبحُوا يمثّلون نصف العدد الجملي للسجناء وأن قرابة نصف هذه الفئة لم يحاكموا بعد أي أنه تمّ إيداعهم بالسجن من أجل شيكات من دون رصيد قبل صدور أحكام ضدّهم. كما أفاد ممثلو الجمعية التونسية لمكافحة الفساد خلال جلسة استماع سابقة لهم بالبرلمان بأن إحصائيات رسمية للبنك المركزي تشير لوجود أكثر من 10 مليون إشعار سنويا في خصوص عدم خلاص شيكات. وهو ما يفيد حتما بوجود معضلة كبرى تتوسّع دائرتها لتشمل المعاملات المالية والمصرفية ومدى إقبال البنوك على تمويل الاستثمارات الصغرى وتمكين المواطنين من قروض وطرق تمويل أخرى. فانتشار استعمال الشيك وتغيير طريقة توظيفه من وسيلة خلاص حينيّة ليصبح في الواقع أشبه بوسيلة ضمان يعكس مدى انسداد ونقص سبل التمويل كما يكشف عن مشاكل بنيوية متعلقة بمجال الأعمال والاستثمار.
في هذا الإطار، تم تقديم مقترح قانون من قبل عدة نواب من كتلة ائتلاف الكرامة لتنقيح أحكام الشيك بدون رصيد في المجلة التجارية الذي كان موضوع عمل اللجنة البرلمانية إلى حدود جوان 2021 والتي لم تختم أعمالها نظرا لتجميد أعمال المجلس من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد. وكان المقترح يرمي لإلغاء العقوبة السجنية فيما يخصّ هذه الجريمة وتعويضها بأخرى مالية مع اعتماد الشيكات الإلكترونية لتسهيل التثبت من وجود الرصيد الكافي من عدمه قبل إقرار خلاصه. خطوة كان بإمكانها أن تقدّم حلاّ أشمل أو على الأقلّ حلاّ قابلا للنقاش والمداولة بين أطراف عدّة وتاليا منفذا للتطوير والإصلاح. ولكن الواقع كان مغايرا لذلك، فتمّ في مقابل ذلك تقديم نصّ مرسوم تمّ استنساخه من مرسوم عفو سابق كان قد أصدره رئيس الجمهورية الأسبق زين العابدين بن علي سنة 1988 بعد استيلائه على الحكم، وهو بذلك يعرض نقاط تشابه مريبة. نصّ مرسوم خُتم في غرف مغلقة من دون مداولة أو نقاش، ليتمّ توظيفه للدعاية بالتزامن مع عدم استجابة المواطنين لاستشارة الرئيس، متجاهلا الحلول الدنيا لإصلاح وضع متأزّم قلب حياة عشرات الآلاف من المواطنين وعائلاتهم.
[1] الفصل 411 رابعا من المجلة التجارية: وفي كل الحالات المنصوص عليها بالفصلين 411 و411 مكرر يحجر على المحكوم عليه وجوبا استعمال صيغ الشيكات غير التي تسلم لإنجاز سحب مباشر أو لشهادة اعتماد وذلك لمدة أدناها عامان وأقصاها خمسة أعوام بداية من قضاء العقاب أو سقوطه بمرور الزمن أو إسقاطه بالعفو ولا تطرح مدة المنع التحفظي إلا إذا قرّرت المحكمة ذلك. (نقحت الفقرة الرابعة بالقانون عدد 37 لسنة 2007 المؤرخ في 4 جوان 2007).
متوفر من خلال: