صدر الأمر الرئاسي بالدعوة لخوض غمار الانتخابات البلدية بتاريخ 06-05-2018. وتشكل هذه الانتخابات حدثا هاما في مسار الديمقراطية الفتية التونسية، لاعتبارات عدة، أهمها أنها تعدّ من مظاهر ديمقراطية القرب ذات التأثير المباشر على تصور المواطن للحياة السياسية ومدى إقباله على المشاركة فيها. ويبدو بالتالي من المهم التوقي مما قد يعترض الممارسة الديمقراطية في هذه الانتخابات من عوارض قد تؤدي لتهرم مبكر للتجربة التونسية الشابة. وتتمثل هذه الظواهر أساسا في العزوف الانتخابي لفئة الشباب، وفي عجز الأحزاب السياسية عن القيام بدورها في العملية الديمقراطية.
العزوف الانتخابي
يعرّف العزوف الانتخابي بالامتناع والإمساك والإحجام عن التصويت بدافع شعور اللامبالاة والفتور إزاء ما يدور داخل الحياة السياسية في غياب موانع قانونية تبرر هذا السلوك. وفيما تظهر نتائج سبر الآراء التي أجريت بتونس في نهاية سنة 2017 المنشورة أن نسبة المشاركة في الانتخابات البلدية تتجاوز الستين بالمائة من عموم الناخبين المسجلين بالقوائم الانتخابية، فإن الإجابات المعطاة حول قدرة العملية الانتخابية على استقطاب فئة الشباب الذي تشكل عماد المجتمع التونسي تعود لتؤكد امكانية ارتفاع نسبة العزوف عن الانتخابات، أقله ضمن هذه الفئة.
ويُشار إلى أن حملات التسجيل بالسجلّ الانتخابي التونسي التي أجريت في إطار مسار الانتخابات البلدية أدت إلى رفع عدد المسجلين في قوائم الناخبين إلى ما يقارب خمسة ملايين وأربعمائة ألفا منهم حوالي ستة وثلاثين الفا عسكريا ممن يحق لهم التصويت في تلك الانتخابات دون سواها. وعلى اعتبار أان من سجلوا في هذا السجل تراكمت أسماؤهم من انتخابات 2011 الخاصة بالمجلس الوطني التأسيسي، فإنه يلحظ أن نسبة التطور في عدد المسجلين الجدد ظلّت محدودة بما يستشف معه غياب الإقبال في صفوف الناخبين الجدد من الشباب عن الالتحاق بتلك السجلات. وهذا ما تؤكده المعطيات الإحصائية التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بتاريخ 25 جانفي 2018 والتي كشفت أن نسبة تسجيل الشباب في السجل الانتخابي لم تتجاوز 33%. وهو معطى قد يؤشر إلى نسبة مقاطعة أكبر في العملية الانتخابية. وقد يكون مردّ هذه المقاطعة تدنّي مستوى ثقة هذه الفئة العمرية الطامحة في عملية الانتقال الديموقراطي نتيجة تغييبهم عنها وبخاصة عن هيكلة الأحزاب السياسية وقياداتها.
الأحزاب السياسية خاصرة ضعيفة في انتخابات هامة
تعتبر التعددية الحزبية من ميزات الحياة الديمقراطية التي لا تتحقق من دونها. وتؤدي الأحزاب السياسية بالتالي دورا أساسيا في إدارة الاختلاف الديمقراطي وفق قواعده. وقد عرفت تونس تطورا عدديا هاما بعد ثورتها في نسيج أحزابها التي تجاوز عددها المئتين. ويفترض نظريا بالتالي أن تلعب هذه المؤسسات دورا حاسما في الاستحقاق الانتخابي المرتقب.
إلا أنه خلافا لهذا التوقع، تكشف مؤشرات متعددة أن جميع الأحزاب السياسية تجد نفسها اليوم شبه عاجزة عن إيجاد مرشحين من قيادتها المحلية لقوائم الانتخابات البلدية في الدوائر الانتخابية الثلاثمائة والخمسين. وقد تعززت أزمتها تلك بفعل ما فرضه القانون الانتخابي عليها من وجوب تقديم قوائم انتخابية تلتزم بالتناصف بين الجنسين عموديا وأفقيا. وهذا ما نقرأه في الفصل 8 من قرار الهيئة العليا للانتخابات عدد 10 لسنة 2017 المؤرّخ في 20 جويلية 2017 والمتعلّق بقواعد وإجراءات التّرشح للانتخابات البلدية والجهوية والذي اشترط في كل قائمة مترشحة “أن تقدّم على أساس التناصف والتناوب بين النساء والرجال” و”أن تقدّم على أساس التناصف بين النساء والرجال في رئاسة القائمات التي تترشح في أكثر من دائرة انتخابية بالنسبة إلى القائمات المنتمية لنفس الحزب أو الائتلاف، مع مراعاة العدد الفردي للقائمات المترشحة”.
وينتظر بالتالي أن تلتجئ الأحزاب، خصوصا فيما يتعلق بالمترشحات من النساء للبحث عن أسماء غير مهتمة بالنشاط العام ولها قرابة دموية بمرشحين آخرين لتعبئة قوائمها. وقد يؤدي سلوك كهذا إلى تعميق أزمة الثقة العامة في الحياة السياسية. وتعود هذه الأزمة إلى عدم نجاح الأحزاب السياسية في تونس في أن تكون مساهما فعليا في التنمية جنبا إلى جنب مع مؤسسات الدّولة. فمن يراقب الوضع السياسي الحالي، يلاحظ أنّه يزداد تعقّدا يوما بعد يوم بسبب ركود هذه الأحزاب ورواج ثقافة حزيية قوامها النرجسية، مع ما يستتبع ذلك لجهة تعميق الخلافات والصدامات. بل أن أغلب الأحزاب تمارس خطابا لا يتناسب مع أحجامها الحقيقية وتضع أهدافا لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للمواطن، فضلا عن عدم قدرتها على بلورة تصّورات وأفكار ومشاريع اجتماعية وسياسية واضحة تستمّد مقوّماتها من الواقع. إضافة إلى اكتفاء قادتها بالظهور الوقتي الذّي يرتبط بالانتخابات، علاوة على ممارستهم باستمرار لما بات يصطلح عليه محليا بسياحة الأحزاب أي انتقال سياسيين من حزب لآخر حسب العرض والطلب. ونأمل أن تكون المخاطر القائمة سببا في صحوة سياسية تنتهي قبل الموعد الانتخابي مع حلول أحزاب المشاريع والمناضلين محل أحزاب القادة والزعماء.
ومن المهم أن نذكر في هذا الإطار أن عديد نتائج سبر الآراء تحدثت عن إمكانية كبرى لتفوق قوائم المستقلين في عديد البلديات. وقد تكون مثل تلك النتائج متى تحققت سببا في صناعة طبقة سياسية جديدة تعالج الساحة السياسة من شيخوخة رموزها. وللوصول إلى ذلك، يحتاج العمل على انجاح الممارسة الديموقراطية في الانتخابات البلدية تدخلا إيجابيا من الفاعلين الاجتماعيين، كما يحتاج خطوات إيجابية من السلطة السياسية في اتجاه يؤكد أهمية السلطة المحلية وأهمية احترام قواعد المنافسة الانتخابية النزيهة.
المجتمع المدني صمام أمان:
لعبت منّظمات المجتمع المدني في تونس منذ انطلاق المسار الديموقراطي دورا هامّا في تحفيز المواطن على المشاركة بكثافة في الانتخابات وساهمت بالتالي في تطوير المشهد السياسي من خلال أدائها دورا اساسيا في إضفاء درجة من الشفافية على العملية الانتخابية. وينتظر من هذه الفاعليات أن تنجح خلال الانتخابات البلدية في الوصول للجهات لنشر الوعي المواطني والتنبيه لأهمية مؤسسة البلدية خصوصا في المناطق التي ستعرف لأول مرة في تاريخها هذه المؤسسة. ويظل نجاحها في هذا الدور رهن قدرتها على ممارسة وظيفتها بحيادية تجاه المتنافسين على المقاعد البلدية.
المصادقة على مجلة الجماعات المحلية مدخل للتحفيز على المشاركة الإيجابية في الموعد الديموقراطي
تعهد المجلس النيابي منذ 13-06-2017 بمشروع مجلة الجماعات المحلية. ويؤمل أن تنهي لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح به والمتعهدة بنظرها أعمالها قبل الموعد الانتخابي بما قد يحفز الناخبين على المشاركة بكثافة في استحقاق سيرسي فعليا مؤسسات ثورية ذات صلاحيات مهمة.
نزاهة الانتخابات شرط لنجاحها
اقترنت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 ومن بعدها انتخابات سنة 2014 ببروز ظواهر فساد سياسي ومالي في العملية الانتخابية تراوحت بين شراء ذمم الناخبين وتدليس قوائم المزكين للمترشحين لمنصب رئيس الجمهورية. وكان لافتا أن جميع تلك الخروقات وما أعقبها من فساد في ممارسات النواب المنتخبين ظلّت من دون عقاب من أي نوع كان . وقد أدى هذا الأمر إلى تظهير العمل السياسي في جانب من الخطاب العام كمرادف للفساد.
ولئلا ينتشر هذا المرض القاتل للتجربة الديموقراطية في مفاصل الجهات من خلال بوابة الانتخابات البلدية، يتعين على مؤسسات الدولة وخصوصا منها القضاء أن تؤدي دورها في فرض ممارسة ديموقراطية نزيهة بملاحقة كل من يشتبه في فساده.
أظهر سبر آراء أجرته مؤسسة” سيغما كونساي” لشهر أكتوبر 2017 أنّ نسبة مشاركة المواطنين في الانتخابات المقبلة لن تتجاوز 60 بالمائة، وقد نشر فرع المعهد الجمهوري الأمريكي الدّولي بتونس أحدث سبر آراء أجراه بالبلاد في شهر ديسمبر 2017 والذّي بينّ أنّ نسبة المقاطعين لهذه الانتخابات بلغت 35 بالمائة لتقدر نسبة المشاركين ما يقارب 65 بالمائة وهي نفس نسبة مشاركة التونسيين في الانتخابات العامّة منذ سنة2011
نشر في العدد 10 من مجلة المفكرة القانونية في تونس