عشرات آلاف اللاجئين الجدد وصلوا بعلبك الهرمل من سوريا: لجوء أو تغريبة لا يعرفون متى تنتهي

،
2024-12-12    |   

عشرات آلاف اللاجئين الجدد وصلوا بعلبك الهرمل من سوريا: لجوء أو تغريبة لا يعرفون متى تنتهي
معبر المصنع الحدودي (تصوير سامر الحسيني)

قامت الدنيا في محافظة بعلبك الهرمل عمومًا، وفي قضاء الهرمل خصوصًا، ليل السبت 7 كانون الأول 2024، ولم تقعد لغاية اليوم. فما أن أُعلن، يومها، عن سيطرة قوّات هيئة تحرير الشام على مدينة حمص السورية وريفها من جهة الحدود اللبنانية، ومن بعدها مدينة القصير، ومعهما تفكّك الجيش السوري وانسحاب رتل آلياته على الطريق الدولية نحو العاصمة دمشق، وعودة عناصر حزب الله إلى لبنان، حتى تغيّر المشهد على المعابر الحدودية اللبنانية الرسمية في البقاع. شهدت النقاط الحدودية في المصنع (البقاع الأوسط)، إلى جوسيه (القاع) وصولًا إلى مطربة على الحدّ مع القصر اللبنانية الحدودية مع سوريا، زحمة سير خانقة إثر تدفق آلاف العائلات من سوريين ومعهم اللبنانيين من سكان القرى التي تركتها اتفاقية سايكس بيكو التقسيمية في حضن سوريا.

ولم تكن حركة المعابر الرسمية، على كثافتها، سوى نقطة في بحر تدفّق العائدين واللاجئين الجدد إلى لبنان. إذ تزخر الحدود السّورية اللبنانية في البقاع، والتي تمتدّ بطول نحو 70 كيلومترًا، بأكثر من 50 معبرًا غير نظامي إضافة إلى الأخرى الرسمية. وعبر هذه المعابر دخل عشرات آلاف اللاجئين، فيما سجّلت الأرقام الرسمية دخول 15 ألف لاجئ جديد عبر المصنع وأكثر من 25 ألفًا عبر جوسيه، فيما أكدت مصادر وزارة الشؤون الاجتماعية لوسائل إعلامية عبور 52 ألف شخص الحدود بين لبنان وسوريا منذ الأحد الماضي، وهو رقم أقرب إلى من دخلوا عبر المعابر الرسمية ولا يتطرّق إلى الداخلين عبر معابر غير نظامية.

وفيما تقدّر مصادر أمنية لـ “المفكرة القانونية” ملامسة عديد اللاجئين الجدد عتبة 150 ألفًا لغاية عصر أمس الأربعاء 11 تشرين الثاني 2024، تشير مصادر محلية إلى وصول 170 ألفًا “والحبل ع الجرّار”، من بينهم أكثر من مائة ألف وصلوا الأراضي اللبنانية عبر معابر غير نظامية، من دون أن تتمكّن “المفكّرة” من التثبت من صحّة هذه الأرقام. ولكن شهادات أهالي المناطق تقدّرهم بعشرات الآلاف، توزّعوا بشكل أساسي على قرى وبلدات وأودية محافظة بعلبك الهرمل، فيما انتقلت قلّة من بينهم نحو بيروت.

لم يكن نزوحًا مخططًا له، بل وليد لحظته. يؤشّر إلى ذلك حال اللاجئين الذين خرج بعضهم بـ “التياب ل علينا”، كما أفادنا بعضهم، وكما اتضح من انعدام مخططات استقبالهم، والتي استعيض عنها بفتح قاعات الحسينيات والمساجد والمجمعات الدينية، وبعضها ما زال مكسّر الزجاج ومخلّع الأبواب نتيجة تضرّره بالقصف الإسرائيلي، لكنها تؤمن سقفًا وجدرانًا على الأقل للبعض منهم تقيهم صقيع كانون، فيما قضى الليل كثر في الآليات السيارة التي جاؤوا بها، وعلى الطرقات وفي العراء.  

حصل هذا على الحدود الشمالية الشرقية في قضاء الهرمل مثلًا، وبدءًا من ساعات الليل الأولى، تزامنًا مع هدير أصوات الطيران الحربي الإسرائيلي ومسيّراته في المنطقة باعثًا الخوف في قلوب الأطفال، فيما ذهب قلق البالغين نحو احتمالات تطوّر الأحداث في سوريا. وعاشت المنطقة الحدودية حالًا أمنية بامتياز مع تعزيز الجيش اللبناني قواته على الحدود والمعابر كافة إثر إخلاء عناصر الأجهزة الأمنية السورية نقاطهم، وحتى منشآت المعابر الرسمية في الجهة السورية من الحدود. ومع اشتداد الظلام كانت خيوط أضواء الآليات السيّارة من الدراجات النارية إلى الآليات العسكرية وما بينهما من سيارات سياحية خاصّة وآليات “بيك آب” وجرّارات زراعية وحتى سيارات إسعاف وأخرى بلدية، ترسم خطوطًا أشبه بالشرايين المضاءة على أكثر من طريق حدودي فرعي أو رسمي.

أعداد كبيرة من اللاجئين عند معبر المصنع الحدودي (تصوير سامر الحسيني)
يفترشون الأرض عند معبر المصنع (تصوير سامر الحسيني)

وكانت “المفكّرة” قد اعتبرت في بيان أنّه “من حقّ السوريين الذين يدخلون إلى لبنان اليوم خشية نظام الحكم الجديد أن يلتمسوا اللجوء في لبنان وأن يطلبوا الحماية الدولية سندًا للفقرة “ب” من مقدمة الدستور اللبناني” وذلك كون “مبادئ اللجوء تنطبق على جميع الأشخاص الذين تكون حياتهم أو حرّياتهم معرّضة للخطر في بلادهم مهما كانت جنسيّتهم أو انتماؤهم السياسي أو الديني أو العرقي”، ونبّهت أنّ “القانون الدولي يمنع منح صفة اللجوء للأشخاص الذين تتوفّر أسباب جدّية للاعتقاد بأنّهم ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وهو ما قد ينطبق على عدد من المسؤولين في النظام السوري السابق وفي الفصائل المسلّحة ويحتاج إلى تدقيق من قبل أجهزة الدولة بالتنسيق مع مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”.

وعليه، طالبت “المفكّرة” السلطات اللبنانية بـ “اتخاذ الإجراءات اللازمة، بالتعاون مع مفوّضية الأمم المتحدّة لشؤون اللاجئين، لضمان الدخول الآمن والقانوني للأشخاص الذين يغادروا سوريا خوفًا على حياتهم وحرّيتهم، والاعتراف بحقّهم بالتقدّم بطلبات لجوء أمام المفوّضية التي يعود إليها التثبّت من مدى استيفائهم شروط اللجوء وعدم ارتكابهم جرائم خطيرة، وذلك تفاديًا لتكرار أخطاء الماضي.” كما شددت على ضرورة أن تعمل السلطات اللبنانية “بالتعاون مع السلطات السورية الانتقالية ومفوّضية الأمم المتحدّة لشؤون اللاجئين، على ضمان توفّر الظروف المناسبة للعودة الطوعية والآمنة لجميع السوريين واللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا”.

خريطة النزوح من سوريا

أتى اللاجئون الجدد من حمص وريفها وخصوصًا قرى أم العمد والغور الغربية والدلبوز ومحيطها والجنينات والعباسية وغيرها، ويسكنها سوريون شيعة وقلّة لبنانية. ومن القصير وريفها: حاويك وجارتها بلوزة، أولى البلدات السورية التي تسكنها غالبية لبنانية على الحد مع أكروم العكارية، وتعلوهما جرماش والحوراني وتسكنهما عائلات من عشيرة جعفر، وتتصلان بمعبر قلد السبع فوق سهلات الماء في أراضي العشيرة في لبنان. ومن السمّاقيات الغربية والشرقية، والسقمانية، والفاضلية وزيتا والمصرية والنهرية والصالحية والديابية وقلّة من العقربية ومطربة السورية، وكذلك حوش السيد علي السورية، ومعظمهم من اللبنانيين الشيعة، وقلّة من السنّة (في الحوش)، يمتلكون أراض في هذه البلدات التي يعيشون فيها في سوريا. ومع هؤلاء نزح إلى القاع سكان جارتها ربلة التي يسكنها لبنانيون وسوريون مسيحيون. لم يفكر هؤلاء كثيرًا في كيفية النزوح وسط تسارع وتيرة سيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة على المناطق الواحدة تلو الأخرى. تركوا قراهم وبيوتهم وأرزاقهم وحتى ملابسهم، خصوصًا وأنّ بين الفصائل من كانوا عماد المحاربين في معركتي حمص وريفها كما القصير وريفها، وهي معارك شرسة ومفصلية في مسار الحرب السورية، ما زالت حيّة في ذاكرة الطرفين، خصوصًا لدى العائدين إلى هذه المناطق بعد غياب.

معبر المصنع (تصوير سامر الحسيني)

خوض العاصي

قطع هؤلاء حدودًا سبق ودمّرت إسرائيل جميع جسورها والعبارات، وحتى المعابر الرسمية التي تصل الحدود اللبنانية السورية ببعضها البعض. وانحشرت الآليات السيارة في معبر واحد كان قد رُدم بالأتربة على عجل، فيما ترك البعض الآخر آليّاتهم على الضفّة الأخرى لنهر العاصي وانتقوا الأماكن الآمنة منه ليعبروا سيرًا في المياه أو سباحة في ظل درجات حرارة منخفضة جدًا، ومخاطر منطقة يسيطر على بعض مفاصلها منخرطون في عصابات التهريب والإتجار على أنواعه. وإضافة إلى مصادرة عناصر الجيش اللبناني في النقاط التي عزّز تواجده فيها سلاح من فرّوا من الجيش السوري، إلى جانب اللاجئين المدنيين، شهدت المناطق الأخرى البعيدة عن أعين الجنود اللبنانيين، عمليات سطو على سلاح وسيارات القادمين. وحصلت أيضًا حوادث مصادرة سلاح تحت عنوان حماية المنطقة من الفوضى الأمنية. ولتعزيز توجيه هذا الهدف (حماية المنطقة) منح بعض المصادرين القادمين وصلًا بالأسلحة وأرقامها وقالوا لهم “تاخدوها بس ترجعوا ع سوريا” كتغطية لأفعالهم، علمًا أنّ لا قيمة قانونية طبعًا لهذه الوعود إلّا أنّها قد تسمح بتتبّع مصير هذه الأسلحة.

هذا على الحدود الشمالية الشرقية في قضاء الهرمل والتي شهدت قدوم الأعداد الكبرى. أما على الحدود الشرقية في قضاء بعلبك، فلم يخلُ معبر أو نقطة حدودية من توافد اللبنانيين واللاجئين السوريين، بدءًا من الحدود في جرود نحلة ويونين مرورًا ببريتال وصولًا إلى النبي شيت التي تحدها بلدة الخريبة السورية وسكانها لبنانيون.

ويعتبر هذا النزوح للبعض من اللاجئين الجدد إلى لبنان النزوح الثاني أو الثالث، إذ سبق ونزحوا داخليًا في سوريا من بلداتهم في إدلب (الفوعة وكفريا) وفي حلب (نبُّل والزهراء). ومعهم نزح بعضهم أمس من بُصرى (محافظة درعا) ومن حي الأمين والجورة في دمشق القديمة ومن جبل قاسيون ومنطقة السيدة زينب ومحيطها، ومعظهم من السوريين الشيعة الذين يقدّر عددهم في سوريا بنحو 300 ألف نسمة.  

يفترشون الطرقات في الهرمل

لاجئون جدد ينضمّون إلى أقربائهم القدامى         

ومع تقدّم ليل السبت الأحد (7-8 كانون الأول)، امتلأت شوارع وساحات مدينة الهرمل وقرى وبلدات قضائها بالهاربين من المجهول في سوريا، ليضافوا إلى أقربائهم من قدامى اللاجئين الذين وصلت حصة البقاع الشمالي منهم على مدى 13 عامًا من الحرب السورية إلى عتبة 170 الفًا، من بينهم 120 الفًا في عرسال وحدها، ونحو 30 الفًا في القاع ومشاريعها بالدرجة الأولى. يومها لم ينم اللاجئون بعد رحلة طويلة صعبة وخطرة في بعض محطاتها، ومعهم لم تنمْ الهرمل وأهلها وسط ارتباك في كيفيّة تدبير أمور القادمين وسط جو من التوجّس مما يحدث على الحدود التي لا يفصلهم عنها في مناطقهم الحدودية سوى أقنية مياه. فُتحت بيوت حوش السيّد علي الحدودية والقصر ووادي فيسان وسهلات الماء والشربين وزغرين والكواخ ومعهما المنصورة والبويضة وصولًا إلى الهرمل. وأبلغت عائلاتٌ “المفكّرة” مساء السبت عن وجود من خمس إلى عشر عائلات في كل بيت “في أطفال ونساء رح يموتوا من البرد”، فيما نام بعض الشبان والرجال في السيّارات أو العراء عندما لا تتسع الأمكنة للجميع. 

عندما انبلج صباح الأحد حاملًا معه بعض الدفء، توضّح المشهد في المنطقة: نحن أمام آلاف اللاجئين والآليات التي اصطفّت على جوانب الطرقات في مشهد لم يسبق أن عاشته الهرمل وجوارها من قبل، إذ أنّ المنطقة تأخرت نسبيًا لتدرج على خارطة نزوح الـ 2011، عام انطلاق الثورة السورية.

وإضافة إلى السيارات السياحية الخاصة، ازدحمت عاصمة القضاء ومنطقة القصر ووادي فيسان معقل عشيرة جعفر، ومعها حوش السيّد علي بالآليات الزراعية المتنوّعة التي أتى بها أصحابها كوسيلة نقل ورزق لا يريدون التفريط بها. وهنا أيضًا سيارات الأجرة الصفراء السورية، وسيارات تابعة لمخافر قوى الأمن السورية، وحتى سيارة إسعاف تابعة للجمهورية السورية. هذا التنوّع ينسحب أيضًا على اللاجئين: أطفال، نساء، مسنّون، مزارعون يبدو وكأنّهم تركوا معاولهم وآلياتهم للتوّ، شبّان بالبزّة العسكرية السورية، وأصحاب مهن مختلفة، وفئات متنوّعة من المجتمع. افترش من لم تتّسع لهم المساجد والحسينيات قبل افتتاح المزيد من مراكز الإيواء، ساحات الإسفلت أو تلك الترابية، ومنهم من “سكن” على متن صهريج ماء أو جرّار زراعي، وكلّها ممهورة بلوحات الأرقام السورية.

وعلى الفور، قاد قضاء الهرمل وأهله وأحزابه، وعلى رأسهم حزب الله، ورشة تلبية ما أمكن من احتياجات تخفف معاناة اللاجئين، وتم افتتاح نحو مائة مركز إيواء قوامها حسينيات، مساجد، ومستوصفات، مطاعم، مراكز حزبية، مجمّعات دينية، مراكز ثقافية، وحتى مسابح واستراحات استجمام، وشاليهات وما توفّر من فنادق وقاعات خاصّة بالمناسبات، وتعاونيات ومحلّات تجارية، وحدائق عامّة ومزارع. هذا من دون ذكر العائلات التي تستقبل وتؤوي لاجئين أو قدّمت منازل فارغة لهم، ولم يتمّ حتى الآن تعدادهم، ولا يستفيدون من أيّة مساعدات من المنظمات ويعتمدون على المبادرات الفردية، وعلى نفقة أصحاب المنزل. وساهم بعض اللاجئين السوريين القدامى في تحمّل جزء من العبء فاستقبلوا بعض أقاربهم أو معارفهم وحتى لاجئين  لا يمتّون إليهم بصلة، أو أسكنوهم في خيم كان بعض من اللاجئين قد تركوها بعدما عادوا إلى سوريا إثر سقوط نظام الأسد.

وحدها مؤسّسات الدولة اللبنانية ظلّت غائبة، حيث لم يتم افتتاح أبنية رسمية للإيواء، باستثناء مدرسة خاصّة متضرّرة بسبب الحرب، ومبنى آخر كان في ما مضى مدرسة رسمية. وعليه، تُرك ناس المنطقة وحدهم يتحمّلون هذا العبء الهائل من دون أيّة مقومات، هم الخارجون من حرب مدمّرة امتدّت على شهرين، توقفت فيها أشغالهم وباتوا بنتيجتها يفتقرون إلى السيولة المالية بعدما صرفوا ما بحوزتهم. خسروا من استشهد من الأحباب والأقارب، وهم أنفسهم عادوا من نزوحهم وتغريبتهم قبل أسبوع أو أقلّ وما زال بعضهم يحاول إصلاح زجاج مكسور من هنا وباب مخلوع من هناك، فيما يبحث آخرون عن منزل بديل يسكنونه بعدما فقدوا بيوتهم. 

في الهرمل الناس التحفت الجدران

لاجئ لكلّ هرملاني

لا أحد يتحدّث عن اللبنانيين النازحين من سوريا، وخصوصًا أبناء البلدات السورية الحدودية. يملك بعض هؤلاء بيوتًا في قضاء الهرمل وعلى الأقلّ لديهم أقارب حضنوهم ووجدوا فرشًا وأغطية يتلحّفونها. حلّت الأوضاع صعبة على أكثر من خمسة آلاف عائلة لبنانية استقرّت في مدينة الهرمل، أي نحو 30 ألف نازح ونازحة، هم بحجم تعداد سكانها كعاصمة القضاء. ووسط تداول معلومات حول حصول تصفيات واعتداءات انتقامية مارسها مسلّحون بحقّ من بقوا هناك وحول مخاوف من حصول مجازر بحقّ المدنيين في قرى علوية (وصل “المفكّرة” فيديوهات وتسجيلات صوتية في هذا الاتجاه، من دون أن تتمكّن بعد من التثبّت من صحّتها)، بعد تطمينات كثيرة أدلى بها زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، تفيد بعدم استهداف من لا يحمل سلاحًا، بقي حبل النزوح على الجرّار في ظلّ توافد المزيد من سوريا. وقد تحدثّ بعض من وصلوا إلى الهرمل عن تكسير منازل وحرق مخفر وفوضى عارمة في بعض المناطق، وحواجز تدقق في هويّاتهم الطائفية وفي ما إذا كانوا عسكرًا أم مدنيين، مما جعل بعض العساكر يخلعون بزّاتهم العسكرية… والأهم الكثير من الخوف وترقّب المجهول. حتى أنّ البعض منهم أصيبوا بجراح خلال المعارك ولم يجدوا طواقم طبية في المستشفيات بعد إخلائها، فقاموا بإسعاف بعضهم البعض ريثما وصلوا إلى الهرمل.

الغالبية الكبرى منهم جاءت “بلا ولا شي” يُذكر من مستلزمات شخصيّة أو ألبسة أو تجهيزات. فقد اضطر بعضهم أن يترك آلياتهم التي تقلّهم عند جسر ربلة المدمر والقدوم سيرًا حتى نقطة الجيش اللبناني عند المعبر الحدودي. يقول بعض آخر إنّه تمّت مصادرة وسيلة انتقاله بما تحمل من أغراضه من قبل بعض عصابات التهريب الحدودية. واستطاع أصحاب الآليات الكبيرة مثل الـ “بيك آب” أو الجرّارات الزراعية (التراكتور) فقط من اجتياز الطرقات المحفرة والمليئة بالجور الكبيرة من دون عوائق كبيرة، فيما قام البعض الآخر ببيع أسلحتهم ليحصلوا على بعض المال أو يتجنّبوا مصادرتها.

وتشكلت بعض المبادرات في الهرمل على عجل حيث جُمعت تبرّعات من أهالي المنطقة من سجّاد وفرش وأغطية ومدافئ وملابس ومواقد للطهي على صعيد الأحياء، فيما تبرّع البعض بإعداد وجبات غذائية قدر ما تتيحه إمكانياتهم، وإعداد سندويتشات تتنوع بين المعلبات والحلاوة والمناقيش. وفي اليوم التالي دخلت جمعيات لبنانية ودولية على خط المساعدات ووزعت المهام بين من يؤمّن وجبات الفطور، والغداء الساخنة، والمعلّبات، والفرش والأغطية والوسادات ومياه الشرب وأدوات التنظيف ومستحضرات النظافة الشخصية. إلّا أنّ جميع هذه الجهود المبذولة لا تغطي إلا نذرًا من حاجات اللاجئين الذين يشترون بما يملكون من نقود بعض المواد الأساسية لتحضير طعام يسندهم. ويعاني اللاجئون من نقص كبير في مياه الخدمة والكهرباء. ومع تضاعف الكثافة السكانية في المنطقة، فُقد الخبز من السوق المحلية، وتراكمت النفايات بشكل كبير، ثم ظهرت مشكلة انقطاع المياه وعدم القدرة على تأمينها، ولم تبدأ مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتغطية كلفة علاج المرضى والمصابين من اللاجئين الجدد، كونهم لم يتسجّلوا بعد، وكذلك فعل المستشفى الحكومي. ففتح حزب الله أبواب مستشفى البتول لهم مجانًا. وكرّس الصليب الأحمر اللبناني 3 عيادات لتقديم .خدمات للنازجين اثنتان متنقّلتان للفحوصات وعيادة خاصّة باللقاحات. كذلك بدأت منظمة أطباء بلا حدود أيضًا تقديم خدمات طبية للنازجين.

ومع التدهور الكبير في قيمة الليرة السورية في ظل ما يحصل في بلدهم،  صار من الصعب على اللاجئين شراء ما يلزمهم، رغم توفّر النقود مع بعضهم، فقد تخوّف أصحاب المحال التجارية وأصحاب محلات الصيرفة من التعامل بها. 

معبر المصنع الحدودي (تصوير سامر الحسيني)

يجلس اللاجئون يتابعون كل ما يصل من مناطقهم، ينتظرون ما ستؤول إليه أوضاع بلادهم، فيما تردهم معلومات غير مؤكدة عن عدم قبول بعض الفصائل المسلحة بقرار هيئة تحرير الشام بمنع أعمال الثأر وحماية المدنيين والأقليات وممتلكاتهم. ولا يطمئن اللاجئون الجدد، بخاصّة الشيعة منهم، للعودة إلى قراهم، رغم عودة غالبية المسيحيين ممن نزحوا من ربلة، القرية الحدودية، إلى بلدتهم. يفكر معظم الآتين من الشام ودرعا ومن حمص والقصير وطبعا إدلب وحلب بمناشدة دول أخرى غير لبنان للحصول على تأشيرة للسفر إليها، مثل العراق، مع العلم أنّ من يملك جوازًا عراقيًا أو سوريًا قد لا يتمكّن من السفر بسبب عبوره الحدود بشكل غير نظامي. كما أفاد مصدر أمني “المفكرة” أنّ الجيش اللبناني سمح للاجئين بالتنقل في لبنان في اليوم الأول من النزوح فقط، ولم يسمح لهم بعد ذلك مغادرة المكان الذي استقرّوا فيه، ممّا حرمهم محاولة إيجاد مكان أفضل للاستقرار والتخفيف من الأعداد الموجودة في المنطقة التي ازدحمت بهم.

وعلمت “المفكرة” أنّ عشائر وادي خالد، والدكتور علي زعيتر، رئيس  بلدية القصر السابق، والمقيم في فرنسا حاليًا، يقودون وساطات بين أهالي قرى ريف حمص والقصير وبين معنيين في الفصائل المسلحة، على أمل التوصل لمصالحة تتيح عودة النازحين من هذه القرى والبلدات من لبنانيين وسوريين.

في هذه التغريبة السورية الجديدة، وفي خضمّ كل هذه المعاناة، يبدو النازحون الجدد في هذه المرحلة عن سوريا يائسين من إمكانية العودة إليها، لا أحد منهم يرغب التحدّث باسمه أو اسمها. يرون أنّ بلادهم تمعن في الابتعاد، وهم مع “عدم الشعور بالأمان” يريدون الرحيل بعيدًا عن سوريا “قد يكون هذا هو الحلّ الآنيّ المستحسن”، ريثما تستقرّ بلادهم على وجهة يتمنّون أن تكون أفضل مما هي عليه اليوم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، سوريا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني