عريضةٌ دفاعًا عن استقلاليّة المحاماة في سورية: فلنستعِدْ دور المحاماة في حماية الحقوق و”وجود المجتمع”


2025-01-02    |   

عريضةٌ دفاعًا عن استقلاليّة المحاماة في سورية: فلنستعِدْ دور المحاماة في حماية الحقوق و”وجود المجتمع”

منذ أيام، نشر عددٌ من المحامين السّوريين عريضةً دعتْ إلى إجراء انتخاباتٍ فوريّة في نقابة المحامين في سورية ضمانًا لدور المحاماة ومعها القضاء في حماية الحقوق. وإذ صحّ اعتبار هذه العريضة الطّلقة الأولى في معركة يرجّح أن تكون طويلة، لاستعادة دور المهن القانونيّة في سورية، تجدر الإشارة إلى أهميّتها من زوايا ثلاث: 

أوّلا، إنّها تؤكّد أنّ تعافي “المجتمع المكلوم” يتطلّب ليس فقط التحرّر من دوّامة “الأبد” أو نظام الاستبداد، بل أيضًا استعادة البُنى الاجتماعيّة الحمائيّة وفي مقدّمتها نقابة المحامين بوصفها مؤسّسة ضامنة لاستقلالية المحامين وتاليا أدوارهم. ومن هنا أهميّة تمسّك موقّعي العريضة على ضرورة انتخاب ممثّليهم في النقابة وفروعها اليوم قبل الغد ورفض التعيينات التي بادرت السلطة الجديدة إليها بصورة أحادية. 

وتأكيدًا على أهميّة دور النّقابة في مواجهة الاستبداد، ذكّرتْ العريضة باعتراضات قياداتها وأعضائها في السبعينات وأول الثمانينات على حالة الطوارئ والاعتقالات العشوائيّة وممارسات التعذيب والتي وصلتْ إلى حدّ إعلان إضراب عامّ احتجاجًا على تجاوزات النظام آنذاك. كما ذكّرت بالتّدابير القمعيّة التي طالت النقابة وأدّت إلى إطفاء دورها، بدءًا من تكسير أبوابها واعتقال نقيب المحامين والتنكيل بأعضاء مؤتمرها العامّ وحلّه وحلّ مجالس فروعها وصولًا إلى استبدال قوانينها بقانون يضمن للنظام بسط أذرعه عليها بصورة كاملة. وتشير العريضة أنه تبعا لذلك، لم تفقد النقابة فقط دورها في حماية المحامين وحماية استقلاليّتهم وحصانتهم إنما أصبحت مع تحوّلها إلى أداة في يد النظام رقيبًا وسيفًا مصْلتًا عليهم. ومن هنا، تهدف العريضة إلى استنهاض المحامين لتوحيد كلمتهم والمبادرة في المطالبة باستعادة نقابتهم التي سلبها الاستبداد منهم، فلا تنتقل المحاماة من استبداد إلى آخر أو “من متبوع إلى متبوع” كما جاء في نصها. وهذه الدعوة إنّما تتعدّى في عمقها حدود نقابة المحامين لتشكّل دعوةً عامّة للمهن الحرّة الأخرى والمواطنين بوجوب الاتّحاد والمُبادرة لاستعادة بناهُم الاجتماعيّة كافة كحصونٍ في مواجهة أيّ استبداد مستقبليّ. 

إذ أن بناء الديمقراطية وترسيخها لا يتمّان من فوق إنما يتطلّبان أوسع مُشاركة مواطنيّة في مختلف أرجاء الدولة على قدم المساواة ومن دون أي استثناء أو تهميش.  

ثانيا، تؤكد العريضة على وظيفة المحاماة في “الدفاع عن حقوق الأفراد ووجود المجتمع حتى في مواجهة السلطان”. فلئن ذكّرت بحراك المحامين ضدّ تجاوزات السّبعينات وأول الثمانينات كما ذكرناها أعلاه، فإنّها ذهبتْ إلى حدّ القول بأن بسْط النظام أذرعه على النقابة هو الذي مهّد الطريق لإقامة المعتقلات الكبرى وأبرزها معتقليْ تدمر وصيدنايا، بعدما أصبحت السلطة السياسية تتحرّك من دون أيّة ضوابط قانونية. 

ومن المعبّر جدّا هنا أنّ العريضة لم تكتفِ بالتشديد على دور المُحامين في الدّفاع عن “حقوق الأفراد” (وهو الدور التقليدي للمحاماة)، بل اعتبرتْ أنّ هذا الدّور مُلازم في الحالة السّورية لدور حيويّ آخر وهو الدفاع عن “وجود المجتمع”. وبذلك، عكست العريضة عمْق المأساة السوريّة، حيث أدّى الدّوس المُمنهج للحقوق الفرديّة واستباحتها إلى تقويض ثقة هؤلاء بالآخر وتاليا بالمجتمع بل ربّما ب “العالم بأسره” على حدّ تعبير “حنّا آرنت” مع ما يستتبع ذلك من تهديد لمختلف أشكال الروابط الاجتماعية وتاليا لوجود المجتمع. ومن هنا، تهدف استعادة المهن القانونية ومعها منطِق الحقوق في الحالة السورية ليس فقط إلى تحرير الأفراد من الخوف والعوز وضمان كرامتهم على هدي ما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل أيضا وفي الآن نفسه إلى الإسهام في إعادة تكوين وترميم المجتمع الذي جهد الاستبداد في تفكيكه وتدميره.  

أمرٌ آخر يجدر التوقّف عنده، وهو أنّ العريضة ذكّرت في مستهلّها بأنّ المُحامين يشتركون بالضرورة في أداء أدوارهم هذه مع القضاة، وإن خلتْ من أيّة تفاصيل إضافيّة في هذا الشأن. وقد بدتْ العريضة هنا وكأنّها تكتفي بفتح طاقةٍ في اتّجاه بدء ورشةٍ لا تنفصل عن ورشة استعادة نقابة المحامين وضمان استقلاليّتهم، وهي ورشة إعادة تكوين الهيئات القضائيّة وضمان استقلاليّتها أيضًا. وهي ورشة لا يختلف إثنان على أنها أمّ الورش وربما أصعبها في أيّ مسارٍ انتقاليّ إلى الديمقراطيّة، وهو المسار الذي يُؤمل أن تنجح القوى الاجتماعية في سورية في فرضه كمسارٍ ضروريّ للخروج من دوامة الاستبداد والتفرّد في الحكم.   

ثالثًا وأخيرًا، يشدّد موقّعو العريضة على أهميّة المبادرة إلى إجراء انتخاباتٍ حرّة في نقابة المُحامين “اليوم قبل غدًا” في موازاة إعلان رفضهم منطق التّعيين ولو تمّ تحت غطاء ضمان “تعيين الأكفأ”. ويستشفّ من هذا الموقف أنّ ما يُقلق هؤلاء ليس هويّة الأشخاص الذين عيّنتهم أو قد تُعيّنهم السّلطة الجديدة (بدليل أن العريضة لا تناقش كفاءتهم وأنها تراهن على الانتخابات أيا كانت كفاءة الفائزين فيها)، ولكن قبل كل شيءٍ استسهال اللجوء إلى آلية “التّعيين” من دون أيّة ضوابط أو التزامات بمواعيد انتخابيّة محدّدة ولا حتى التأكيد بالحدّ الأدنى على أنّها إجراءٌ استثنائي ومؤقّت ينتهي مفعوله بعد اتخاذ إجراءات سريعة ومحدّدة (مثلا: تعليق العمل بالأحكام التي أدخلها النظام السابق لبسط نفوذه على النقابة وهو الأمر الذي تطالب به العريضة تحديدًا). ومن هذه الزاوية، تهدف العريضة بالإضافة إلى استنهاض المُحامين  من أجل استرداد نقابتِهم، إلى تسجيل “لا” لآليّة التعيين تقطع مع أي محاولة للتطبيع معها وإن لم تنجح في نقضها. 

وهنا أيضا، تكتسي العريضة أهمية تتعدّى حدود نقابة المحامين لتشمل المجال العامّ برمّته، وسط مخاوف أن تستكمل السلطة الجديدة من خلال التعيينات الأحادية وضع يدها على مؤسسات الدولة وبناها الاجتماعية، مع تأخير مواعيد الانتخابات العامة إلى أجل غير مسمّى وكل ذلك بمعزلٍ عن أيّ مسار شفّاف وواضح. 

أخيرًا، وإذ تثمّن “المفكرة القانونية” جهود المبادرين إلى تنظيم هذه العريضة متمنية لهم ولسورية النجاح في إرساء مسار انتقالي إلى الديمقراطية، فإنّها تفتح صفحاتها لأيّ نقاش أو مبادرة لتعزيز دور المهن القانونية في سورية الغد، وذلك ضمن رؤيتها وجهودها لترسيخ استقلاليّة المحاماة والقضاء في المنطقة العربيّة.    

للاطّلاع على العريضة

للغة الانكليزية

انشر المقال



متوفر من خلال:

نقابات ، مقالات ، سوريا ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني