عذبوهم أو اقتلوهم جميعا إنهم إرهابيون


2016-02-15    |   

عذبوهم أو اقتلوهم جميعا إنهم إرهابيون

إن القيد الذي تئن منه إرادة العدل أنينا موجعا هو فقدان ذلك الشيء العنيد الذي لم نربّ عليه أبناءنا والذي يسمونه الحق. إن الحق هو الذي يعوق إرادة السيطرة على مصائر الناس واستعبادهم و وإذلالهم ويحول بينها وبين أن تفرض نفسها بمنطق القوة. ولما كانت هذه الإرادة حريصة على عنفها اللاشرعي، فانها تنعت احتجاجات المطالب بالحق والعدل بالمنافق والإرهابي والمبيض للإرهاب… ذلك هو الدرس الذي تعلمناه من البرنامج التلفزيوني الذي أُذيع على قناة خاصة يوم الخميس 11 فيفري في تونس. في هذا البرنامج، كان الحديث يجري حول فيديو خطير جدا كما سماه مقدم البرنامج يكشف عملية تشخيص لمشاركة أحد الإرهابيين (بحسب ما قدمه منشط البرنامج) في إحدى العمليات "الإرهابية" في جبل وعر في الشمال الغربي من البلاد، أطلق القضاء سراحه بعد ذلك. فيديو نشره صحفي آخر هو محل تتبع قضائي. ومن الواضح أنه كان للبرنامج منذ الانطلاق هدفان وقع الإعداد لهما بإتقان:

–       تبرئة الصحافي من أي تهمة يمكن أن تنسب إليه،

–       إدانة القضاء، وخاصة حاكم التحقيق بالمكتب 13 من القطب القضائي المتخصص في قضايا الإرهاب الذي أطلق سراح محمد القبلي الذي ظهر

في عملية التشخيص لوجود شبهة تعذيب وافتكاك للاعترافات بالقوة وفساد للإجراءات، وهو بالضرورة قاض ضعيف ومتخاذل ومتواطئ مع الإرهابيين بحسب أغراض البرنامج الظاهرة والخفية.

هو قضاء يطلق سراح من ثبت تورطهم في الإرهاب، لأن الفيديو لا مقصد له غير ذلك. لا يهمّ غايات المادة المعروضة ولا ما يختفي وراءها. فالحجة صريحة صارخة. الحجة قائمة: حجة على الإرهابي الذي يصدر الصحافي الحكم الباتّ في شأنه قبل أي حكم قضائي. فهو في أفضل الحالات يسميه "إرهابيا" بين الظفرين، على اعتبار أنها أفضل تسمية وجدها له ليعبر عن حياد مشبوه. فكأنه يجهل أن المتهم قبل حكم القضاء يكون مظنوناً أو مشتبهاً فيه أو في أقصى الحالات متهماً إذا ختم حاكم التحقيق البحث في شأنه وأصدر التهمة في حقه لا أكثر ولا أقل. ولا أحد يتوقف بالواقع عند الضفرين، بل فقط عند لفظة الإرهابي المخيفة بما تحمله  من إجرام وقسوة. لا أحد يعنيه مصدر الفيديو  ولا أحد يعنيه  من عامة الناس ما يمكن أن يوجد من صلات مشبوهة بين صحفي في خدمة أجهزة البوليس وأمن احترف العنف والتعذيب والقهر وتحول إلى قاض يدين قبل المحاكمة ولا يتورع عن إصدار الأحكام. تعد الوليمة بإتقان شديد. صحافيان متضامنان مع زميلهما في السراء والضراء يشاركان بلا إتقان في لعبة الخروج عن الموضوع. لن يجري الحديث هنا عن أخلاقيات الصحافة ولا عن شبهة تسريب وثائق البحث بشكل يشتبه انها مسروقة من ملفات الشرطة وحملها إلى العموم، لا من أجل كشف الحقيقة بل من اجل إخفائها. والحقيقة هنا هي مخافر الشرطة التي احترفت التعذيب في تونس بحسب ما تقرره كل التقارير المحلية والدولية، بل ربما وصلت إلى التدليس والفبركة. ولتكتمل الوليمة يؤتى بالقاضي أحمد الرحموني، رئيس مرصد استقلال وقد عرف عنه كشفه لكثير من ملفات التعذيب وبوزير التربية ناجي جلول ولا صلة للموضوع بصفته هذه. بالمقابل، غيّب مسؤولو وزارة الداخلية التي عزلت بعض مسؤوليها في صلة بموضوع الفيديو التي تحوم حوله شبهة " الصنع والفبركة. غير أن النية مكشوفة بينة. جيئ بالوزير في مواجهة القاضي. وماذا تنتظر من سياسي طامح احترف الظهور الاعلامي؟ يقول الشيء وعكسه  مادام قوله قابلا لاستثمار في بورصة المواقف المنقولة على موجات الإذاعات والتلفزات التي صارت جزءا من أعبائه اليومية. يؤتى أيضا الى البرنامج  بنائب لا يقل عن الوزير بروزا إعلاميا. وتنطل إذ ذاك مجموعة من المواقف الهادفة إلى مغازلة العواطف الجياشة للمتفرجين الذين يحركهم الخوف من الإرهاب حتى سقط الكثير منهم في شراك الاقتناع بأنه لا حقوق إنسان مع "الإرهابيين القتلة". هكذا يجد القاضي نفسه في مواجهة الجميع. فما أن بدأ القاضي يشرح ملابسات القضية وإمكانية وجود تلاعب في صنع الفيديو وشبهة تعذيب وربما وجود تورط بين من سرقه وسربه و بين من نشره قصد إدانة القضاء ووضعه مرة أخرى في قفص الاتهام، حتى عبّر وزير التربية عن غضبه اللشديد، ولا يجد حرجا في إظهار آلياته الثقيلة فيتهم القاضي بقلة الحياء وتبييض الإرهاب . الآن وصلنا إلى أصل الموضوع. تكتمل الحلقة إذن في ذهن المتفرج غير العالم بالتفاصيل: قاض يطلق سراح متهم ثبتت إدانته بالحجة الدامغة هي حجة الشرطة التي تمارس التعذيب  وقاض آخر يدافع عن زميله وعن الإرهابي فيتورط الاثنان في تبييض الإرهاب وخيانة الوطن والتلاعب بمصيره والوقوف مع المجرمين القتلة. مادة خصبة لتأجيج العواطف ضد القضاء ولإبراز الوزير في شكل البطل المغوار والوطني الغيور. ينسحب الوزير عندما ينتصر  القاضي لكرامته  فيتهم الوزير بقلة الحياء وقلة التربية وهو وزير التربية. رويدا رويدا، سيعوض الوزير في مواجهة القاضي بالإضافة إلى الصحافيين المتعاطفين مع زمليهما النائب في المجلس فتستمر المسرحية. لا أحد يستمع إلى القاضي عندما يستشهد بأمثلة مقارنة من أعرق الديمقراطيات ليشير إلى أن العمل الصحافي له ضوابط وأن الإدانة ممكنة إذا ما ثبت أن المنتج الاعلامي يمكن أن يسقط تحت طائلة القانون وأن الواجب الصحفي لا يعفي من المسؤولية الجزائية بشكل مطلق… قف أيها القاضي لم نأت بك هنا لتدين زميلنا، بل جئنا بك لندينك أنت والقضاء الذي وراؤك، هكذا يقول حال الصحفي مقدم البرنامج. أما الوزير الذي غادر البلاتو بعد الكلام الذي سمعه من القاضي بدعوى الدفاع عن أبنائنا الأمنيين الأبطال والذين يموتون من أجل الواجب المقدس، فسيتابع البرنامح  من الكواليس. هكذا يعطى له وقت ليعود إلى البلاتو بعد خروج القاضي وانتهاء الفترة المخصصة للفيديو وتتواصل المسرحية.

لا يقع الرجوع إلى ما أثبتته تحقيقات الشرطة ذاتها لاحقا من أن المقبوض عليهم في عملية باردو بحسب ما توصلت فرقة القرجاني المتخصصة في قضايا الإرهاب بعد  شبهة تعذيب  ضد المظنون فيهم ليسوا المجرمين الحقيقيين. وهذا ما توصلت إليه فرقة العوينة من الحرس الوطني المتخصصة هي أيضا في مكافحة الارهاب بعدما سحبت القضية من جماعة القرجاني. وهكذا يتضح المقصد والمقلب وهو تبرئة الشرطة من الضابطة العدلية  والتستر على ممارساتها  وأخطائها. هكذا تقبر ملفات وتضيع معالم جرائم بشعة تتعلق بالتعذيب.

وتتواصل المسرحية

فعلا ستكتمل الحبكة تاليا على مواقع التواصل الاجتماعي فينخرط في الجوقة المباركة والتهليل لبطولات الوزير مثقفون وعامة لا علم لهم بما يحاك في الظلام. أي شيء ينتظر تونس من هذا كله؟. لا أحد يهمه بعد اليوم لغة الحق والمبادئ الإنسانية السامية. لا أحد يهمه قرينة البراءة والحرمة الجسدية. فأبناؤنا الجنود يموتون كل يوم في جبهات القتال ضد الإرهاب. وعلينا أن نجعلهم في منزلة رفيعة هي مقام الإبطال. فلا نحاسبهم ولا نحقق بهم إذا أخطأوا. فأرواحنا أفضل من أرواح الإرهابيين. فعذبوهم كما تشاؤون بل اقتلوهم جميعا. إنهم مجرمون، ومعهم القاضي رئيس مرصد استقلال القضاء المبيض للإرهاب لأنه تحدث عن التعذيب، وأيضا قاضي التحقيق بالمكتب 13 الموظف عند حزب بعينه بحسب ما يريد البعض ترويجه عنه والمتساهل مع الإرهابيين لانه أطلق  سراح مظنون فيهم في قضايا إرهابية لعدم كفاية الأدلة وفساد الإجراءات وشبهة التعذيب. وكل متحدث عن التعذيب في تونس صار بالضرورة مبيضا للإرهاب كما قالت آمنة القلالي مديرة مكتب هيومن رايتس وتش في تونس، التي أطلقت صيحة فزع بعد الضجة التي أثارها البرنامج. هؤلاء سبب نكبتنا وأصل البلاء ورأس الداء. هذا ما يقوله لنا إعلامنا وهذا هو شعبنا. قد يكون وزير التربية هزم القاضي المتردد والمحكوم بشرف المهنة وسر التحقيقات . ولكن حذار ما الذي سيبقى من دولة الحق والقانون إذا صنعنا شعبا نتلاعب بعواطفه حتى نجعله جزءاً من القمع الذي يمارس ضده؟ .والأهم، أي تربية عسى هذا الوزير يقدمها للنشء حين يصبح نصيرا للتعذيب والعنف؟ مرة أخرى نحن في حاجة إلى قدوة للأجيال. فالطغيان هو آخر درجة من درجات الانحطاط التدريجي. هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه الجور وهو في الأخير أقصى ما يمكن أن تصل إليه الدولة من شقاء. ذلك ما تعلمناه في مدرسة الفلاسفة أرباب الحكمة الإنسانية حين كانت المدرسة في تونس مدرسة حقا.
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني