خريطة أعدّها كاتب المقال بناء على المعلومات وتوثيق المجلس الوطني للبحوث العلمية تظهر المناطق الحدودية المستهدفة بالفسفور
في منزل نزوحه في صيدا، يستقبلنا أبو عدي أبو ساري، المزارع الخمسينيّ من بلدة الضهيرة الحدودية. يريد أن يغدق على ضيوفه مزيدًا من الاحتفاء لولا نوبة السعال المفاجئة التي تداهمه باستمرار. نجا أبو عديّ، من إمطار العدوان الإسرائيلي بلدته الضهيرة وأهلها بالفسفور الأبيض منذ الأيام الأولى للحرب التي دخلت شهرها العاشر، لكنه لا يزال يحمل آثار ما استنشقه من الدخان السام في رئتيه.
تتوالى الهجمات الإسرائيلية على القرى المحاذية للحدود اللبنانيّة الفلسطينية باستخدام سلاح الفسفور المُقيّد دوليًّا. وفي الأيام الأولى، وفيما كان الأهالي لا يزالون في بيوتهم وكرومهم، كان الفسفور أوّل أسلحة إسرائيل المشهرة في وجوههم. وفي كل هجوم، كان الدخان المسمّم يخنقهم، فيما تحاصرهم نيرانه وتلتهم أحراج قراهم وحقولهم، في جريمة حرب متسلسلة، توثَّق الواحدة بعد الأخرى، وتليها ثالثة ورابعة.
ويتفرّد الفسفور الأبيض بمزايا تدميريّة، وهو نوع من الذخائر يشتعل عند تعرّضه للهواء، مسبّبًا دخانًا أبيض سامًّا وحروقًا شديدة قد تسبّب الموت، خصوصًا أنه يعود ويشتعل في جسم المصاب في حال تعرّضه للهواء. وهو قادر على تدمير البيئة وتسميم الأرض والمياه.
وخلال الأشهر الثمانية الأولى من التصعيد العسكريّ جنوبًا، وحتى مطلع شهر حزيران الماضي تسبّبت إسرائيل 841 حريقًا واستهدافًا بالفسفور الأبيض، حسب الأرقام التي زوّدت بها وزارة الزراعة “المفكرة القانونيّة”. كذلك وثّق المركز الوطنيّ للبحوث العلميّة 175 هجومًا بقذائف فسفورية و37 هجومًا بقذائف فسفورية وعاديّة، فضلًا عن 196 هجومًا بقنابل حارقة، وهي هجمات تهدف لإشعال الحرائق، وتشكّل حوالي 10% من مختلف أنواع الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان خلال هذه الفترة. وكان لقضاء مرجعيون الذي يضمّ شريطه الحدوديّ قرى كفركلا والعديسة وبليدا وميس الجبل والطيبة وحولا والخيام، النصيب الأكبر من الاعتداءات بالقنابل الفسفورية والحارقة بـ 116 هجومًا، تلته أقضية صور (48 هجومًا) وبنت جبيل (37 هجومًا) وحاصبيا (11 هجومًا)، وفقًا للمصدر عينه. ويتمّ الهجوم الواحد بعدد متفاوت من القذائف، وهو قادر على إشعال حرائق عدّة، فضلًا عن إعادة الاشتعال مرّات ومرات مع تعرّض المساحة المستهدفة للأكسجين.
وخلّفت الهجمات المكثّفة على المنطقة الحدودية الجنوبية بالفسفور الأبيض تحديدًا مئات المصابين احتاج أكثر من 200 منهم للاستشفاء بحسب وزارة الصحة. وأحرقت الهجمات الفسفورية 20% من المساحات الزراعية والحرجية في 55 قرية بحسب ما أفادتنا به مصادر مؤسّسة جهاد البناء. وأُبيدت نسب ضخمة من الأشجار والدواجن والمواشي وخلايا النحل (القفران)، وقُتل عدد كبير من الحيوانات البرّية والحشرات والطيور، كما أبيد الغطاء النباتي. وأدت الهجمات بهذه المادة الكيميائية الخطرة إلى نزوح جماعي عن القرى، ويتخوّف الأهالي من تسميم طويل الأمد للتربة والإنتاج ما يؤدّي إلى تعطيل الحياة الزراعية.
وكانت “المفكرة” تناولت الاستهداف الإسرائيلي بالفسفور الأبيض وآثاره على الأرض والناس في مقالين سابقين الأول في بداية الحرب والثاني بعد مرور ثلاثة أشهر، ونظرًا إلى استمرار الهجمات وتسبّبها بالمزيد من الأضرار والإصابات مع دخول العدوان شهره العاشر، تنشر “المفكرة” هنا تحقيقًا يحصي الأضرار ويبرهن استخدام إسرائيل للفسفور الأبيض كسلاح نفسيّ ودور الهجمات به في استراتيجية إسرائيل القائمة على فرض التهجير على الناس وسعيها إلى تحويل المنطقة الحدودية إلى “أرض محروقة”.
شظايا سقطت في تشرين الثاني 2023، في مساحة زراعيّة قرب المنازل في قرية الضهيرة الحدوديّة، وقد أكّد خبير عسكريّ فرنسي لـ “المفكّرة” أنّها تعود لقذائف فسفورية بناء على تحقّقه من الصور والكتابات عليها
التهجير بالنار
في اليوم الرابع للحرب، استهدف جيش الاحتلال أهل بلدة الضهيرة الحدودية بقذائف الفسفور الأبيض. أرعب المشهد قلب سميرة وابنتها اللتين التقيناهما في مركز نزوح بمدينة صور. استقلّت السيدة الأربعينية سيارتها، أقفلت النوافذ بإحكام، وشقّت طريقها بين سحب الدخان البيضاء التي ملأت أزقة القرية وشوارعها وحجبت الرؤية: “كان تفجّرها في السماء مرعبًا، شيء لم نره من قبل، هربت بابنتي من دون أن ألتفت لشيء، ولم أعد منذ ذلك الحين”.
في هذه اللحظات، كانت الحاجّة الستينيّة ابتسام تشاهد هذه القنابل تنهمر وتحرق كل ما تسقط عليه. حاصرت النيران منزلها، فتسلحت بخرطوم مياه تمنع به وصول النيران إلى دارها، فيما أحفادها يحتمون داخل المنزل. ولما شاهدت الدخان الأبيض يسبقها إليهم، دخلت منزلها لتنقذهم. استنشقت الحاجة الجنوبية الكثير من الدخان السام، فسقطت مغميًا عليها في صالون دارها وأحفادها بين من يصرخ وبين من يحاول أن يلتقط أنفاسه بصعوبة. ولم ينقذ حياة ابتسام إلّا وصول عناصر الدفاع المدنيّ في الوقت المناسب.
تلقت الحاجّة ابتسام العلاج في المستشفى، وأصيبت بما يشبه الزكام لأكثر من شهر. واليوم، تتحسن صحتها باستمرار، لكنها تأسف على مزروعاتها التي تلفت، وموسم التبغ لعام 2023، الذي تعبت فيه وحصدته وشكّته ويبّسته وأعدته للبيع، ليأتي السمّ الإسرائيلي لينال منه وهو مُستّف أمام دارتها.
وبحسب الشهادات التي جمعتها “المفكّرة القانونية” من السكان والسلطات المحلية، هُجِّر أهل الضهيرة على مرحلتين. الأولى كانت عقب الهجوم الأوّل بالفسفور الأبيض، حينها أخلى السكّان “الضهيرة الفوقا”، وهو القسم المحاذي للشريط الحدوديّ، فيما هُجِّرت “الضهيرة التحتا” بعد أسبوع بفعل تكرّر الهجمات عينها. وتعدّى حجم التهجير الأوّل 70% من السكان. أخلى هؤلاء قريتهم في ليلة واحدة، أسموها “ليلة الفسفور”.
وفي عيتا الشعب ويارون وبليدا ومؤخّرًا الخيام، قال من التقيناهم إنّهم تركوا قراهم خوفًا من الفسفور حتى قبل أن يصل إليهم الاستهداف “لأنّ الهوا بيودّي (يحمل السموم)”. وكذلك في راميا، روت سيّدات كبيرات بالسن إنهنّ صمدن في قراهن خلال عدوان تموز 2006، رغم قسوة الحرب “لكن الاستعمال المجنون للفسفور في الضهيرة والكثير من القرى المجاورة أخافنا وأنا صحّتي على قدّي”، تقول الحاجة أم علي عيسى.
إيذاء جسديّ خطير
يصف أهالي القرى الناجون استنشاقهم للفسفور، بشعور الغرق، حيث يختنقون ويصارعون من أجل نَفَس. تملأ رائحة تشبه رائحة الثوم أنفك وتشعر بها في فمك، وتجتاح قصبتك الهوائيّة حرقةٌ تتركّز عند البلعوم، فيما أبلغ كثيرون عن آلام في المعدة وشعور بالغثيان. وبحسب شهادات الناجين، وعشرات المقابلات التي أجرتها “المفكرة” في الجنوب اللبنانيّ خلال العمل على هذا التحقيق، تكون العوارض أشدّ على أصحاب الأمراض التنفّسيّة، والأكبر سنًّا، وتصل إلى حد فقدان الوعيّ والغيبوبة.
يؤكّد هذه الأعراض الطبيب سمير الجمّال في المستشفى اللبناني الإيطاليّ في صور الذي عالج عشرات المصابين حتى اليوم، ويكشف عن أنّ معظم المصابين وصلوا بعلامات تهيّج وآثار احتراق على الجلد بفعل التعرّض لدخان القصف، تمّت معالجتها بمحاولة إزالة آثار الدخان عن الجسم، “ولم تكن المهمّة سهلة بسبب طبيعة المادّة”، يضيف. ويكشف د. الجمّال عن “احتياج عشرات المصابين لأجهزة أكسجين بسبب مضاعفات ناشئة عن الاستهداف بالفسفور”.
لكن الخطر الأكبر، بحسب رئيس قسم الطوارئ في مستشفى جبل عامل، في صور، عباس عطية هو الاحتمال القائم لانهيار الأعضاء الداخلية أو تدهور الحالة الصحيّة بعد أيّام من الإصابة: “الأمر الذي يستدعي وضع الأشخاص المصابين تحت الرقابة الطبيّة خوفًا من تدهور مفاجئ تكون نتيجته الموت الحتميّ”.
ورغم خطورة الفسفور كسلاح حارق، غاب اختصاص معالجة الحروق عن كامل المناطق المتضرّرة بالحرب، رغم مرور 9 أشهر على بدئها. ومؤخرًا فقط افتتح مركز لمعالجة الحروق في مستشفى نبيه برّي في النبطية في 29 حزيران. ولا تزال أقضية صور وحاصبيا ومرجعيون وبنت جبيل الجنوبيّة تفتقر إلى هكذا مراكز، ويحتاج المصابون إلى قطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى أقرب مركز مختصّ وهو ما يضاعف الخطر على حياتهم وفق حجم الإصابة وقوتها، وفقًا لأطباء تحدّثوا لـ “المفكّرة”. بدوره يؤكد وزير الصحة فراس الأبيض في تصريح لـ “المفكرة” أنّ “نقل المصابين من المناطق الأبعد إلى مناطق أقرب (للعاصمة) ممكن، لكن لا توجد إمكانية فتح مراكز في كلّ مكان”. ومع ذلك، يشدّد الأطباء الذين التقينا بهم على أنّ فتح مراكز قريبة لمعالجة المصابين في تلك الأقضية أمر طارئ وضروريّ ومجدٍ لللتمكّن من إنقاذ الحالات في وقت مناسب.
حرائق في قرى حدودية ناجمة عن القصف الإسرائيلي (المصدر: الجنوبيون الخضر)
سلاح نفسي
وقذائف الفسفور ليست مجرّد ذخيرة تضرب وتقتل حيث تسقط. فكل قذيفة تنفجّر في الهواء، وتنتشر على مساحة تتراوح بين 200 و250 مترًا مربّعًا. وبينما تحترق المادة الكيميائية الخطرة، يملأ دخانها الهواء، يتسلّل بين الأزقة ويقتحم المنازل من كلّ منفذ. وفي الأرض التي يزرعها الناس ويلهو فيها الأولاد، تبقى البقايا قابلة للاشتعال في أي وقت عند تعرّضها للأكسجين. هذه العشوائية ترعب الناس، فالدخان السام يصل إليهم أينما احتموا، حتى أنّهم بحركتهم قد يوقظون السمّ الكامن أينما ساروا. والفسفور الأبيض بحد ذاته يلتصق بالجلد، ويخترق حتى العظام ويحترق مجرّد ملامسته الأكسجين.
ولا يزال القانون الدولي قاصرًا عن حظر هذا السلاح، لكنّه يقيّده لاستخدامات عسكرية محدّدة وهي “فرض ستار دخاني للتخفّي من الأعداء”، ويحرّمه دائمًا على المدنيين. وقد راجعت “المفكرة” عشرات الفيديوهات التي وثّق فيها المهجّرون من مختلف القرى الهجمات المباشرة على المباني السكنية والأحياء، وفوق رؤوس الأهالي. وتبيّن هذه الشواهد أنّ الاستخدام المكثّف للفسفور فوق القرى المأهولة بالسكان شكّلَ أسلوبًا من أساليب الرعب والترهيب التي تستخدمها إسرائيل لدفع الناس إلى النزوح الجماعي.
ينفي الجيش الإسرائيلي استهداف المدنيين، بدعوى استخدام الفسفور لأغراض عسكرية. ومع ذلك، فقد وثقت تحقيقات لمنظمة العفو الدولية، و”هيومن رايتس ووتش“، الاستهداف الإسرائيلي غير القانوني للمدنيين بالفسفور، وبيّن تحقيق لـ “واشنطن بوست” استعمال ذخائر أميركيّة في هجمات الفسفور العشوائيّة. وذكّر تقرير “هيومن رايتس ووتش” تل أبيب بالبدائل العسكرية المتاحة للفسفور الأبيض، بما في ذلك قذيفة الدخان M150 التي استخدمها الجيش الإسرائيلي سابقًا للتمويه. ويشير معدّ التقرير الباحث رمزي قيس، إلى أنّ “استخدام إسرائيل لهذه القذائف في المناطق المأهولة بالسكان يضرّ المدنيين بشكل عشوائي، مما يجبر الكثيرين على مغادرة منازلهم. وتتوفر بدائل أقلّ ضررًا لتحقيق الأغراض العسكرية نفسها”.
وتفيد برهنة التعمّد الإسرائيلي إيذاء المدنيّين، لتثبيت نهج الاحتلال في ارتكاب جرائم الحرب في ظلّ عدم تفوّقه في الميدان العسكريّ، لكنّه يأخذنا إلى الاستنتاج بأنّ الفسفور يستخدم في الجنوب اللبناني كسلاح نفسي أيضًا. فالرعب الذي يسبّبه، يصبح سبب التهجير القسري للسكان، لا سيما الذين عايشوا تجربة التعرّض له أو حتى أولئك الذين سمعوا عن أخطاره وأهواله.
صور خاصّة لـ”المفكّرة” تظهر آثار الحرائق على منازل وبساتين المدنيّين في الضهيرة الحدودية التقطت في 25 تشرين الثاني نوفمبر ثاني أيام الهدنة
تدمير الحياة
والناس هُجّروا، بفعل القصف بالفسفور، وأيضًا بفعل الغارات التي لا تميّز بين هدف عسكريّ وآخر مدنيّ، وأيضًا وأيضًا بفعل التدمير الممنهج للبيوت والأحياء السكنيّة. هُجّروا، واستمر القصف المركّز بالفسفور، على من بقي، وأيضًا على ما بقي. وبحسب أرقام وزارة الزراعة ومجلس البحوث العلميّة والسلطات المحليّة، جمعتها “المفكّرة القانونيّة” وقارنتها، فإنّه حتى مطلع حزيران، أحترق 17 مليون متر مربع من المساحات الخضراء (55% حرجيّة، 35% أشجار مثمرة، و10% عشبية). خسرت المنطقة 60 ألف شجرة زيتون معمّرة، يعود تاريخ بعضها إلى قرون مضت، وحتى إلى العصر الروماني. وبين الضحايا المباشرة لحرائق الفسفور، 340 ألف طير من الدواجن، و1000 من المواشي والآلاف من قفران النحل، نفقت مع تدمير 370 خلية نحل، وتضرّر 3000. وقد وثقت وزارة الزراعة استهداف 13 مزرعة مواشٍ كبيرة بالفسفور الأبيض، وكذلك إحراق مستودع أعلاف بمساحة 600 متر مربع بشكل كلّي.
ويلفت رئيس جمعية الجنوبيون الخضر، د. هشام يونس، في حديث مع “المفكرة”، إلى أنّ الخسائر المخفية التي لا يستطيع أحد تقديرها الآن تكمن في مصير الحيوانات والحشرات التي تُدمّر موائلها، وعدد الطيور التي ماتت أو هجّرت، وأنواع الزواحف وكذلك الحشرات التي قد تضرب إبادتها كامل التنوّع الحيوي في المنطقة وتُحيلها أرضًا ميتة.
والضرر الخطير الآخر، هو تسميم الأرض، بترابها ومائها. والحديث هنا عن أضرار بعيدة المدى يتأتّى عن خطر تكثف ترسّبات حمض الفوسفوريك بالتربة وهو أمر معقد في تقديره وبالتالي آثاره، ويحتاج إلى فحص واسع لعيّنات من التربة “لتقييم تكثُّف الحمض وآثاره على تحمض التربة واختلال توازن المغذيات”. ويمتد خطر التسميم إلى المياه الجوفية التي تتسرب السموم إليها “وهو خطر مرتفع” بحسب يونس. تاريخيًا، بنيت القرى قرب البرك والينابيع، ولا يزال الاعتماد على مصادر المياه هذه من أجل ريّ المزروعات، والحيوانات، وحتى من أجل الاستعمالات المنزلية، قائمًا.
فيديو يوثّق القصف الفسفوري على كفركلا ليلة 23 حزيران (تصوير مواطن محلّي)
سؤال العودة و”إعادة التأهيل”
يقول يوسف، وهو عنصر في الدفاع المدني الحاضر في إطفاء حرائق المناطق الحدودية في قضاء صور منذ اليوم الأوّل: “نحن نجابه النيران كي يبقى شيء يعود إليه الناس”. وقد أصيب يوسف مرّتين خلال عمله، في إحداها قصف الاحتلال بالفسفور الأبيض فوق فرق الدفاع المدني التي كانت تكافح حريقًا تسبب به الفسفور في المقام الأول، وقبلها أصيب جراء إيقاظ بقايا فسفور أبيض كانت تكمن في الأرض واشتعلت مع تعرّضها للأكسيجين.
وفيما يؤدي الإحراق والتسميم إلى تدمير قدرة المجتمعات في قرى الشريط الحدودي مستقبلًا على إعادة بناء حياتها وقطاعها الزراعيّ والحيوانيّ، الذي هو حجر الزاوية في سبل العيش المحلية، رصدنا في مقابلاتنا تخوّفًا من بقايا الفسفور التي قد تشتعل في أيّ لحظة، في مشهد يسترجع تجربة الناس المُرّة هنا مع القنابل العنقوديّة التي قصفت بكثافة في عدوان تمّوز 2006 وظلّت تحصد ضحاياها ولوّثت حقول الناس حتى اليوم رغم حملات نزعها، ما يرفع نسبة التخوّف لدى الأهالي. ليكتمل التوظيف الإسرائيليّ لسلاح الفسفور، كسلاح تدمير، ولكن كسلاح نفسيّ أيضًا، يهدف إلى إعاقة خطط عودة الحياة إلى هذه القرى.
والقصف الفسفوري ليس عملًا منعزلًا بل يأتي في سياق عدوان أوسع. وخسائر القطاع الزراعي والحيواني هي أكبر بكثير، بفعل تكاتف عوامل القصف بالفسفور مع الاستهدافات الأخرى والتهجير القسري. خسرت القرى كامل مواسمها الزراعية بعد أن تهجّر الناس، وتركت 121 مليون متر مربع من المساحات الزراعيّة من دون رعاية للشهر التاسع على التوالي، فذهبت مواسم حصاد بعض الزراعات الصيفية ومنها التبغ، ثم مواسم الزراعات الشتوية مع الربيعية والصيفية لغاية الساعة. كما وتدمّر بشكل كامل قطاع حيواني كان يقدّر بـ 4 آلاف بقرة و70-80 ألف رأس ماشية، بين ما تاه وما جاع وعطش حتى نفق. وقد قُصفت الأرزاق بشكل متعمّد لتدميرها، وهو ما يبرز من خلال ما توثّقت منه “المفكرة” من إلقاء “قنابل مضيئة” على المساحات الزراعية في وضح النهار، ما يوضّح تقصّد إحراقها. وفي منطقة تعتمد على القطاع الزراعي في مدخولها ومعيشتها، يصبح تدمير هذا القطاع أداة لفرض تهجير دائم على أهلها.
بدوره يشرح د. يونس الحاجة إلى خطة إعادة تأهيل تستتبع ورش التقييم، بمجرّد انتهاء العدوان، في ظلّ تعذّر عملية التقييم وجمع العيّنات تحت نار الحرب. ويوضح أنّ إعادة التأهيل هذه ممكنة من خلال إعادة إحياء الأحراج وزراعة الأراضي مع وضع توجيهات المزارعين وإرشادهم ومساعدتهم خلال كامل العملية.
ويؤكّد شادي عبدالله، المسؤول عن المنصة البيئية للإنذار المبكر في المجلس الوطني للبحوث العلمية، اكتمال التدريبات من أجل جمع العيّنات بأساليب علميّة دقيقة، يمكنها وحدها أن تعطينا صورة عن الأخطار الحقيقيّة طويلة الأمد، وسبل معالجتها، لافتًا في حديثه لـ “المفكّرة” إلى محدوديّة الدراسات العلميّة المتوفّرة بهذا الصدد: “لأنّ إسرائيل تجرّب أسلحة جديدة بنا، ومنها سلاح الفسفور بهذا التكثيف والتركيز بالاستهداف، ونحتاج إلى دراسة آثارها على الأرض قبل تقديم معلومات أكيدة”.
يخدم هذا العرض برهنة استراتيجيّة التدمير الذي تمارسه آلة الحرب الإسرائيلية. لكن ما يفشّل هذه الاستراتيجية هو عودة الناس إلى المناطق التي تعلنها إسرائيل أرضًا محروقة. فهذه الاستراتيجية قادرة على تحقيق مكسب مستدام للعدوان، فقط إذا رضي الناس بنفيهم عنها، وتركها أرضًا جرداء ميّتة. لكن أهل القرى ممن قابلناهم متمسكون بعودتهم، وبإعادة بناء حياتهم على طول هذه الحدود المترامية من شاطئ الناقورة غربًا إلى سفوح جبل الشيخ شرقًا.
وإن كان هذا التحقيق يكشف أبعادًا إضافية لخطورة هذا السلاح المدمّر، إلّا أنّ تكرار الاستخدام الإسرائيليّ له حربًا بعد أخرى، في غزة كما في لبنان، كما سائر الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية المعتمدة على ضرب المدنيين من أجل فرض ما تعجز عنه السياسة والعسكر، يبيّن عمق الصراع و”معاداة إسرائيل لهذه الأرض، ولأهلها”، كما تخبرنا فاطمة عيسى من الهبّارية، التي خبرت الاحتلال، وسلوكه الاستعماري والعنصري. تقول السيدة الثمانينية: “اللي بيقتل شجرة بيقتل بني آدم”، وتتابع الحاجة أم منير: “اللي بيقتل بني آدم بدمّر بلاد وبدمّر عباد”، وفي فلسفتها اختصار لما سمعناه من شهادات الناس هنا، ويتّضح بقولها: “بيحرقوا منزرع، وبيهدموا منعمّر، وبيقتلوا منتّمسك بحياتنا على أرضنا أكثر.. وأرضنا دارنا ما منتركها”.
نشر هذا المقال في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.