صورة الطفلة السوريّة الشهيدة داليا على هاتف والدها
النهار يدنو من أذان ظهره في تولين، وزينب (16 عامًا) تتكاسل عن النهوض من سريرها، تفتح هاتفها، تمرّر الفيديوهات القصيرة على إنستغرام. لم تسمع صوتًا، ولم ترَ ضوءًا، لكنّها وجدت نفسها وقد طُمرت تحت أنقاض غرفة نومها: “لم أستوعبْ ما حصل، وجدتني أرفع الركام عن قدميّ، وأهرْول إلى الأسفل، أصرخ ‘بيّي’، ‘خيّي’، وأشقّ غبّار الغارة”. يقع منزل أسرة زينب في الطابق الأوّل، وفي الطابق الأرضيّ محطّة وقود تملكها العائلة، ويعمل فيها والد زينب وشقيقها، وفي الطابق السفليّ أسرة سوريّة عادت من نزوحها عن تولين قبل 3 أيّام. وللتوّ، استهدفت غارة إسرائيليّة المكان.
في اللحظات التي سبقت الغارة على القرية الجارة لوادي الحجير، السبت في 22 آذار الجاري، كان الشقيق حسين (17 عامًا) يتحضّر لارتداء جزمة العمل، لينضمّ إلى أبيه المنهمك بغسيل سيّارة زبون من حولا، اسمه وليد غنوي. داليا (5 سنوات)، طفلة الأسرة السوريّة التي تسكن الطابق السفلي، كانت تفلت يد صديقها الذي يكبرها عمرًا بقليل، مصطفى، وتركض نحو المحطّة. حسين ينظر إليها بقلق ويصرخ في اتّجاهها: “ردّي على رفيقك عم يعيّطلك”. دوّى صوت الغارة، سقط الصاروخ الأوّل، سقط حسين جريحًا في الأرض، مصطفى صار جريحًا تحت سيّارة، داليا رماها عصف الصاروخ في زاوية المحطّة، شهيدة. المحطّة هدّمت أجزاء منها، والمبنى المقابل انهار نصفه، وتحت ركامه شهيدان وجريح. لناحية مغسل السيّارات، تمدّد على أرضه التي اختلط بها الماء مع الغبار والدم: وليد غنوي شهيدًا، والوالد علي، جريحًا ينزف من رأسه وصدره وبطنه.
نهض حسين، حاملًا جراحه في الأذن واليد والظهر والقدم، يبحث عن أبيه، فيردّ عليه، وتسمع زينب صوتهما، فتبرد نارها قليلًا. كانت والدة داليا تركض، يملأ صوتها المكان، تصرخ باسم ابنتها، ويتهدّج صوتها مستنشقة المزيد من الدخان والغبار. ينقشع المشهد قليلًا لكنّها لا ترى داليا، فتسعى ذهابًا وإيابًا في مكان الغارة. الصاروخ الثاني سقط للتو، أبعد قليلًا من سقوط الأوّل، الناس بدأت تتجمّع، وعدّاد الجرحى بلغ عشرة من أهل تولين.
سيكمل الناس تجمّعهم في مكان الغارة، كما تجمّعوا في مرّات عدّة سابقًا مع كلّ غارة اقتحمت عليهم هدوء قريتهم في الأشهر الـ17 الأخيرة. الإسعاف ستحضر، سيحمل حسين أباه إليها، بمعاونة عمّه، والمسعفين الذين ينقلونه إلى مستشفى تبنين، ريثما يسحب زملاؤهم الجريح علي موسى، عامل السوبر ماركت التي تقع مقابل المحطّة في المبنى المستهدف. ثمّ ينتشل المسعفون عينهم الشهيدين من سكّان المبنى: علي الرضا سلّوم من القنطرة، ومحمّد شقير من الصوّانة المجاورة.
المكان عاد ساحة حرب. البيوت المستهدفة هنا، رمّمها أصحابها في الأسابيع الأخيرة، مصلحين أضرار حرب من المفروض أنّها انتهت، من دون أن تنتهي.
والد الطفلة داليا ووالدتها في عزائها
جولة أولى
صباحًا، أعلن الجيش الإسرائيلي اعتراض ثلاث قذائف صاروخية قال إنّها أطلقت من لبنان، سينفي حزب الله لاحقًا علاقته بها، وسينشر الجيش اللبناني صورًا لمنصّات بدائيّة عثر عليها في مكان إطلاق هذه القذائف، وسيدين رئيس الجمهوريّة “محاولات استدراج لبنان مجددًا إلى دوامة العنف”، بحسب حرفيّة عنوان البيان الصادر عن الرئاسة. سبق ذلك موقف من رئيس الحكومة يحذّر من “تجدّد العمليات العسكرية على الحدود الجنوبية”. حينما تبرد آثار الغارة، وينتبه الناس من سكرتها، سينتظرون الموقف التالي، ويجادلون في أنّ “دوّامة العنف” الإسرائيلي لم تتوقف أصلًا في تلك المنطقة، وأنّ العمليّات العسكريّة على الحدود الجنوبيّة لم تأخذ إجازة، لكنها كانت دائمًا من طرف واحد، إسرائيليّ، ذلك المتحصّن خلف الحدود والذي تمركّز في مواقع داخلها ويواصل احتلاله لأراضٍ في الجهة اللبنانيّة، في محاولاته الحثيثة لفرض منطقة عازلة واستباحتها.
ففي الأيّام الـ 115 السابقة، وهي الفترة منذُ وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، حتى صباح تولين الدمويّ في 22 آذار 2025، اعتدى الجيش الإسرائيليّ بشكل يوميّ مستهدفًا الأراضي اللبنانيّة والمواطنين بمختلف أنواع الأسلحة، وشنّ عشرات الغارات، أودتْ بحياة أكثر من 122 مواطنًا ومواطنة، بينهم أسر بحالها وأطفال، وقد جرح عدد أكبر، كما اعتقل العشرات محتفظًا بـ 7 رهائن مدنيين حتى الساعة من بين الذين احتجزوا بعد وقف إطلاق النار، إضافة إلى 6 أسرى وضابط بحريّ لم يفرج عنهم رغم انتهاء الحرب. وكما لم يُوقف النار التزامًا بوقف إطلاق النار، رفض الجيش الإسرائيلي الالتزام ببنود الاتفّاق لناحية الانسحاب من الأراضي اللبنانيّة، مثبّتًا احتلاله على طول الحدود، وبعمق متفاوت، مع توغّلات إضافيّة تحدث كلّ فترة. واستباحة دائمة لكلّ السماء اللبنانية، يُراقب كلّ حجر وبشر.
غارة تولين كانت واحدة من عشرات الغارات التي شنّها الجيش الإسرائيليّ ظهرًا، فيما وصفه بأنه “جولة أولى” و”ردّ” على القذائف الصاروخيّة مجهولة المصدر. طبعًا، لم تتسبّب هذه القذائف بأية خسائر في المطلّة، وشكّلت ذريعة لجولة غارات دمويّة، حصدت أيضًا جريحين في كفركلا، واستهدفت بصليا وبركة الجبور ومحيط مليتا وعين قانا وكفرملكي في منطقة اقليم التفاح. كما شملت الموجة الأولى سلسلة غارات جوية على مرتفعات جبل صافي وأطراف كفرحونة والجبل الرفيع وأطراف بلدة سجد. وأغار الطيران الحربي الإسرائيلي أيضًا على المحموديّة عند أطراف العيشية وعلى الريحان. والغارات التي نجا منها البشر، لم تنجُ منها البيوت والمصالح.
وشملت الغارات حيّ الدبش في بلدة يحمر الشقيف، حيث سجّل سقوط جريح. وقد استهدفت أماكن خالية مثل وادي زبقين في قضاء صور، وكذلك الوادي الواقع عند أطراف بلدة طيرحرفا، كما منطقة الصالحاني عند أطراف بلدة بيت ليف في قضاء بنت جبيل.
فتية وفتيات يتساعدون على إزالة آثار الغارة في تولين
علي حمادة نازح من ميس الجبل خسر سيّارته وتضرّر منزل نزوحه في غارة تولين بعد أن خسر بيته وأملاكه في ميس الجبل
موعد الدمّ
لحظة الغارة على تولين، كانت أمّ محمّد تسمع صوت الطيران الحربيّ يقترب، ثم يغير. شاهدت الصاروخ الأوّل يسقط، ورأت عمود دخان يتصاعد. كان من شأن اتّصال ابنها بها، أن يؤكّد لها أسوأ مخاوفها: هذه النار تتصاعد من حيّ الملّول، حيث لها أفراد من عائلتها. لبست ما لبسته على عجل، وتوجّهت إلى المكان. كان ابنها قد سبقها، وأسعف من أسعفه إلى أقرب مستشفى. أخبروها أنّ حسين وزينب وأباهما قد انتقلوا إلى المستشفيات.
جاء ظهر اليوم الثاني: حسين وزينب عادا إلى مسرح الحدث، يبحث الابن عن هاتف والده بين الركام، لا يجده، ستزعجه نار الشمس الحارقة تنصبّ على جروحه، وننطلق جميعًا إلى منزل جدّ وجدّة الأسرة، مع أمّ محمّد، تهنّئ شقيقتها بسلامة أحفادها. والجدّ والجدّة في احتفال حزين بهذه السلامة، يبكون كلّما نظروا إلى حسين وقد جبّرت يده وقدمه مع خمس غرزات قطب لجروح رأسه وأذنه، يئنّ إذا ما ضحك، فيقول للجميع: “ما تضحّكوني، بتوجّع بس أضحك”. وتتفقّد الجدّة جروح زينب في قدمها، تسألها: “موجوعة يا بنتي”، فيجيب لسان الحفيدة “لا يا ستّي” وتخبر تعابير وجهها بألم جسديّ تحتال عليه لتخفيه: “رقيتك بالحسين”، تقول الجدّة، تتمتم صلاتها، وتعود إلى مقعدها.
الجدّ تقفز دموعه ويقمعها، لكنّها ستغلبه في كلّ مرة ينظر فيها إلى حفيديه. والعجوزان في قلق على حالة ابنهم الصحيّة، وقد نقل اليوم والد الحفيدين إلى مستشفى الراعي: “قالوله لفرعون مين فرعنك، قلهم ما لقيت حدا يردني”، هذا هو الموقف هنا، يقوله الحاج السبعينيّ بوضوح. وبالنسبة له، إسرائيل تكمل غاراتها، كي تجعل الحياة هنا مستحيلة، وكي تضغط على الناس.
وفي حارات تولين، يناقش الناس رواية القذائف الصاروخية، يرتابون في الشكل والتوقيت، بل يعتبرون أنّها “لعبة” و”ذريعة”، مدبّرة. في خضم النقاش، يذكّر رجل ببيان حزب الله الذي أكّد التزامه وقف إطلاق النار، وأنّه (أي الحزب) يقف خلف الدولة، لكنّ الدولة واقفة خلف إصبعها، ترمي حاجّة كلماتها بحزم، طالما أن الدولة إيّاها لم تنبس ببنت شفة، منذ دانت ما دانته من إطلاق قذائف بدائيّة. ولم يصدر عمّن صدر عنهم موقف من هذه الصواريخ، أيّ موقف عمّا تبعها من استباحة للقرى ودماء أهلها.
يعدُ جدّ حسين وزينب بأن يبقى في أرضه، لو لم يعوّل على الجهات المتصدّية للمسؤوليّة بأن توقف عنه العدوان الإسرائيلي المتكرّر، ويقول إنّ 70 سنة، هي عمره في هذه الأرض، علّمته أنّ الصمود والثبات مفتاح الفرج، وأنّك لن تهزم ما دمت في بيتك وأرضك وقريتك، وليس للحاج عن تولين بديلٌ. وقراره هو موقف سائر أفراد الأسرة المجتمعين للمرّة الأولى منذ غارة اليوم السابق: “تضاعف الدمار في البيت عن أضرار الحرب، أمامنا ورشة كبيرة لإعادة ترميمه”، يقول حسين، وتوافقه زينب، الجريحة التي ليس مطروحًا عندها خيار النزوح أو التهجير، فبين نزوح إلى مجهول بلا أفق، وبقاء في ظلّ استباحة مجهولة الأفق، يبقون.
والصمود والبقاء، خيار المخيّر أحيانًا، وخيار المسيّر أحيانًا أخرى، وهو واقع، بغض النظر عن توافر الخيارات، فالناس هنا يبقون ببديل أو بدونه.
ولم تخترْ والدة الطفلة الشهيدة داليا حتمًا البقاء في خطر، السيّدة التي حملت عائلتها من سورية إلى لبنان بحثًا عن أمان ومستقبل، أخذتها رحلة تهجيرها من حرب بلدها، إلى تولين، فسكنتها منذ 11 سنة. ولولا أنّ القرية بأهلها تهجّرت يوم توسّع العدوان في 23 أيلول 2023، لما هربت معهم ربّما، لأنّ البقاء في أحيان كثيرة، خيار جماعيّ معدٍ، يتغيّر ويتبدّل. قبل 3 أيّام، عادت الأمّ السوريّة بأسرتها إلى القرية، بعد أن عاد الجميع. اليوم، يحشد عزاء طفلتها معزّين من تولين، وهي وارتها ثرى مقبرتها.
والأم المفجوعة، تحدّث كلّ من جاءها معزّيًا عن جمال وجه ابنتها، وحبّها للعب، وتخبرهم أنّها كانت قد نبّهت عليها ألّا تخرج من المنزل، لكنّها غافلتها وخرجت تلعب مع “صطيف” (الطفل الجريح مصطفى)، ثمّ غافلته لتلعب لعبتها المفضّلة: الركض مع الأولاد، فركضت ركضتها الأخيرة، وخلّفت في قلب أمّها حسرة مؤبّدة.
والدة الشهيدة داليا
جولة ثانية.. وواقع جديد
لكلّ جولة أولى، جولة ثانية: بعد انقضاء غارات ظهر السبت، عرف الناس أنّ جولة ثانية ستأتي، بمجرّد أنّها سميّت إسرائيليًّا “جولة أولى”. عرفوا بها ولم يعرفوا مكانها ولا أوانها، لكنّها لم تتأخّر. وضعت رانيا حوماني (35 سنة) مائدة الإفطار في منزلها الواقع في الطابق الثاني من مبنى ينتصب وسط دمار كبير في مدينة صور. ووضعت بالتوازي ملابس الأسرة في الغسّالة. جلسوا وتناولوا إفطارهم في غرفة كانت قبل شهرين خرابًا، وهم رمّموها سريعًا وأصلحوا ما يمكن إصلاحه من أثاثها، بعد انتهاء الحرب. وكانت الأسرة تنهي إفطارها، وكانت الأمّ تتّجه إلى الشرفة، لتنشر الغسيل، في يوم عاديّ جدًّا لربّة المنزل والسيّدة العاملة بخبز القطايف الرمضانيّة منذ سنوات.
استُهدفت المنطقة بصاروخين اثنين، وحين سقط الصاروخ الثاني استقبله صافي بحر، الخمسينيّ ساكن المبنى المقابل، شهيدًا مضرّجًا بدمائه جرّاء الصاروخ الأوّل، ووقعت رانيا في شرفتها أرضًا، تسبح في دمها. ابنها الأصغر محمد ركض نحو الشرفة، بحث عن أمّه بين ركام تطاير للتوّ وسحبها: “وجدتها وهي تلفظ الشهادتين. عندما مسكتها، شعرت أنّ جسدها قد تجزأ إلى قطعتين بين يديّ”.
يتابع الابن شهادته: “اتّصلت بأصدقائي من المسعفين، قلت لهم إنّ الغارة في منزلي، وهم يعرفونه”. محمد حملها وحضنها كأنّه يحبس روحها كي لا تفارق جسدها، وأخته أمامه تنزف بدورها، وقد نالت الشظايا من جسمها الطريّ. توزّعت الأمّ والشقيقة على مستشفيي اللبناني الإيطالي وجبل عامل، قبل أن تنقل الأمّ إلى المستشفى الثاني، وتسلم الروح هناك، بين أسرتها وقرب ابنتها.
فُتح العزاء بعد الدفن، بعد يوم على الغارة والشهادة. تخنق العبارة الابن، فيما لا تقوى الابنة على الخروج من غرفتها، فيحضر المعزّون إليها. في صالة منزل والد الشهيدة، يتقاطر أهالي المدينة، واحدًا تلو آخر، يقدّمون العزاء. والزوج المُثكل يتشاطر على الحزن فتفضحه عيونه. والأب مفجوع، وأمّها، يجالسهم كلّ من عرفوه يومًا، فيتقاسم الجميع الحزن ويفيض. والكلّ في صدمة، أهل الشهيدة، وأهل المدينة.
يقول محمّد، وكأنّه يحاجج الموت ويعيب عليه خطفه أمّه: “حتى رفاقي يبكونها الآن كأنّها أمّهم، وهذا ما يقولونه، قسمًا برحمتها”. ويحبّ الناس أن ينعوها أمًّا ومربّيَة، وعاملة ماهرة، يعرفها رمضان بالقطايف التي تعاون زوجها على خبزها، وتعرف هي الشهر بالصيام والقيام وقراءة القرآن.
في موقع الغارة، عصر اليوم التالي، رجل قال إنّ اسمه أبو علي فيّاض، تشبه ملامحه ملامح رجال صور، الذين يكبرون ويكابرون على حزنهم، لكنّه أمام دار صديق عمرِهِ طفلٌ أضاع رفيقه، فتجول عيناه بحزن وأسى: “كان قلبه طيّب، وصيته نظيف”، همس أبو علي، وعيونه ثابتة على كنبة بانت من وراء أنقاض الشقة المدمرة، حيث كان صديقه صافي بحر يجد راحته قبل رحيله.
11 جريحًا بينهم طفل نزفوا هنا في الليلة السابقة، مع الشهيدين المدنيّين في صور، وهم سقطوا فيما كانت الموجة الثانية من الغارات تتوسّع، تنثر الموت على هضاب عاملة وساحلها وتستهدف البيوت، وسينعى حزب الله رضوان عواضة شهيدًا استهدف في غارة على منزل في القليلة، وسيجرح هناك 5 من السكّان، بينهم طفلان ينزف جسداهما ولماذا ينزف جسد طفل بعمريهما جرّاء غارة. وبينما تستمر الغارات في ترويع الأسر والعائلات، تجتاح النار البقاع. تغير الطائرات على السهل وتنتهك الدم.
شهد السهل المنبسط بين جنبات السلسلتين ثلاث غارات دمويّة؛ واحدة على منزل في حوش السيّد علي في قضاء الهرمل، وغارة أخرى رسمت خطًا من الترويع بين حوش السيّد علي والقصر في منطقة العريض. الثالثة انقضّت على سرعين، قضاء بعلبك، تاركة وراءها غبار الذعر.
جرحى البقاع 13، جروحهم بين طفيفة ومتوسطة، خرجوا من المستشفيات بعد قطوع دمويّ. في حوش السيّد علي، ستة يحملون أوزار الألم، وفي سرعين، ستة أطفال أصيبوا، تراوحت أعمارهم بين السنتين والاثني عشر، تعالت صرخاتهم تغطّي على صدمة جدّتهم المسنّة الجريحة التي نُقلت معهم إلى المستشفى مثقلة خوفًا عليهم.
وشهد البقاع غارات لم تسفر عن إصابات في الأرواح وقعت في قرية النبي شيث، ومعبر حدودي أيضًا بين بلدة القصر وحوش السيد علي.
وتركت الموجة الثانية من الغارات ندوبًا على عشرات البيوت في سرعين، بيوت تلبس ثوب الدمار بمستوياته المختلفة من الخفيف إلى الكبير. وأحدثت دمارًا فوق الدمار في صور، وهدّمت بيوتًا وممتلكات بين قريتي القليلة والسمّاعيّة، وظلّت تتوسّع. وشملت الغارات بلدتي ديرقانون النهر والحلوسية، ومجرى نهر صريفا وقرى صريفا وزبقين، ومحيط الغندوريّة وبين حومين التحتا والخريبة والسكسكية ووادي الزهراني وخيزران في الجنوب، وهزّت الغارات منطقة إقليم التفّاح مجدّدًا، واستهدفت أطراف جباع وبصليّا ووادي سنيا.
يوسف عوض على شرفة منزله في مكان الاستهداف في صور
طفلة تعاون على إزالة آثار غارة تولين
ختامًا
استمرّت الجولة الثانية لساعتين، قبل أن يعلن الجيش الإسرائيليّ انتهاءها. لم يخبرنا الاحتلال عن موجة ثالثة من عدمها، لولا أنّه وفي اليوم التالي، وما بعده، عادت الاستهدافات متفرّقة على “عادتها”.
وفيما تقترب شمس صور من الغياب، وتزدحم الشوارع بالمتسابقين لبلوغ بيوتهم قبل أن تتلوّن السماء بالأحمر، تعلّق ماجدة شاهين: “جولتا ترويع، وعودة إلى القتل الذي نعتاده من دون أن نعتاده. وأصحاب البيانات التي حضرت صباح الأمس، تستميت إدانة، غابت عن شهدائنا رغم انتهاء مهلة الـ24 ساعة لتقبّل التعازي بهم”.
عمّ الصمت المكاتب الإعلاميّة للرؤساء والمسؤولين، من دون إدانات، ومن دون حتى كلمات عزاء. تُرك الجنوب، كما البقاع، يلملم جراح أهله، ويكنّس الأطفال آثار الغارات في تولين فيما يرمي يوسف عوض في صور أثاث منزله المدمّر، في ذات مبنى منزل الشهيدة رانيا وأسرتها. شقيقته خرجت من غرفة العمليّات صباحًا، وعاد هو للتوّ يلملم دمار منزله. يرفع ويرمي، في حركات اعتادها، فقد دُمّر منزل يوسف وأسرته الأساسيّ خلال توسّع الحرب، ورمى ذاك الأثاث كما يرمي أثاث اليوم.
عادت إسرائيل إلى نزع الأمان عن أهل البقاع والجنوب، يوم السبت. وأوغلت في القصف، وتوغّلت إلى الأحياء السكنيّة ومنازل “الآمنين” غير الآمنين، غير عابئة بأي قواعد تمييز أو تحييد للمدنيّين، فضلًا عن اتفاق وقف إطلاق نار ينهي الحرب ويعود تحت سقفه المقاتلون إلى بيوتهم ومنازلهم. صعّدت من عدوانها اليومي المتمثّل بالاستهدافات المتفرّقة، إلى عدوان واسع على جولتين، أسقطت فيها كلّ الحرمات والقواعد، وكأنّها تثبّت قواعد جديدة وواقعًا جديدًا في الجنوب والبقاع، عنوانه حريّة الاعتداء وبدون ضوابط.
لعلّه من هنا، من محاولة فرض واقع دمويّ جديد تحديدًا، يرى الناس حيث جلنا ورحنا، في أنّ الصمت أخطر، لأنّ الناس أذكى ممّا يتوقّعه البعض، يعرفون أنّ الكلّ خرج من حرب مدمّرة لتوّه، وأنّ الردع العسكريّ متضعضع، ولا يحمّلون قوّاتهم المسلّحة ما لا طاقة لها به، وهو ما يتماشى مع السردية الرسمية أصلًا. لكنّ قلقهم هو من أن يكون الصمت قبولًا سياسيًّا ورسميًّا بهذه القواعد، وهذا الواقع، “والاستسلام له وكأنّ الدولة بصمتها وغيابها تدعو للقبول به”، يشرح مختار سمع كلمات ماجدة شاهين فأغراه أن يضيف إلى موقفها موقفًا، وإلى تحليلها تحليلًا.
والجنوب، في فهم الجنوبيّين، يعيش اليوم تاريخه، تاريخ يريد أن يعيد نفسه، تاريخ هم فيه مستباحون. الدولة لم تمنع باتصالاتها، واللجنة الخماسية لم تردع آليّاتُها، الخروقات والاستهدافات والتوغلات، ونسف القرى واعتقال المدنيين منذ وقف إطلاق النار. والدولة أيضًا، وخلال عدوان السبت وبعده، كانت قاصرة عن أن تشارك الناس حتى همومهم في لحظة الخطر الكبير جدًّا، وتتجنّب أن تحيّي صمودهم أو أن تنعى شهداءهم. الدولة لا تخاطبهم بين جولتي عدوان، أو بعدهما، كأن العدوان عليهم جزء من سياق الأحداث التي تحدث لأنها تحدث.
ويرسم هذا الاستنتاج صورة عن واقع جديد تشكّله إسرائيل بعدوانها على الجنوب والبقاع، ويهدّد هذا الاستنتاج عينه الإحساس الضروري الذي يجب أن تحرص الدولة على توفيره، بأنّ العدوان على جزء من البلد، هو عدوان على كلّ البلد يستوجب استنفارًا واستفظاعًا.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.