لا تَحفَظ لنا الأرشيفات صُورًا فوتوغرافيّة كثيرة للشّاعر عبد الرّحمان الكافي. بل ربّما لن تعثرَ له عن غير صُورةٍ يتيمة، وهي تلك التي ظَهرت على غلاف ديوانه المنشور الذي جمعهُ وحقّقهُ فيصل المنصوري وقدّمه الباحث الحفناوي عمايريّة. غير أنّ ثمّة صُورة أخرى مُتخيّلة عن الرّجل ومترسّبةٍ بشكلٍ عميقٍ في المخيال الجمعي التّونسي. وهي صُورة شاعرٍ مُتمرّدٍ و”صُعلوك” و”مُتهتّك” و”بذيء” وثوري.
رُسِمَتْ هذه الصّورة المتخيّلةُ استنادًا لنصّه الشّعري الأشهر المعروف بالـ”الملزومة” (الصّبر للهّ والرّجوع لربّي). وهو النّص الذي صَنعَ شُهرة الرّجل وأعاد إحياءه في الذّاكرة السياسيّة والثقافيّة الوطنيّة المُعاصرة، وهو أيضًا -وفي المُقابل- النصّ الذي حصرهُ وحشره في قالبٍ صغير وفي صورة مُختزلةٍ ومُشَوّهة.
على غلاف الدّيوان يظهر الكافي بملامح “تونسيّة” مألوفة جدًا. يرتدي الشاشيّة ويلفُّ وجههُ بعمامة بيضاء، فيما لا يبدو واضحًا ما يرتديه من الأسفل إن كان بُرنسًا أو قميصًا أو معطفًا. غير أنّ مشهدًا دقيقًا يرسمهُ مصطفى خريّف، في شهادة نقلها فيصل المنصوري في مقدّمة الدّيوان، تجعلُ ملامح الكافي أكثر تجليًا، يقول فيها: “كُنّا نسكنُ في رحبة الغنم وكان عُمري 12 سنة حين أذهبُ مع المرحوم أخي محمّد خرّيف إلى حديقة خزنة المياه وكنا نقرأ “جُحا” في ملزومات عبد الرّحمان الكافي فرأيناه هنالك وحده يلبس بلوزةً شخماء ويلفُّ رأسه ببشكير ويضع على عينيه نظّارات سوداء، بصرهُ ضعيف، كبير الأنف، أشدقٌ خفيف الشّعر، ربع القامة، يُدخّنُ في سبسي ابنوس بالفضّة ويحمل عكازة ويرتدي برنس”.
لأسباب كثيرة، وحتى العام 2011، لم يكن الكافي معروفًا خارج دوائر القلّة المهتمّة بالتّراث الشعري الشّعبي أو تاريخ الصحافة أو المؤرخين والجامعيين الذين قد يتقاطعون في بعض المراحل التاريخيّة مع سيرته وهم يدرسون عقدي العشرينات والثلاثينات أو تنظيمات سياسيّة مثل الحزب الشيوعي أو الحزب الدّستوري أو تجربة محمّد علي الحامي النقابيّة. تتعدّد الأسباب التي جَعلَت الكافي وأمثاله من الشّعراء الشعبيين (مثل الحاج عثمان الغربي) يدخلون إلى دهاليز النسيان لعقودٍ طويلة، ربّما أهمّها السياسة الثقافيّة الرّسميّة التي تبنتها دولة الاستقلال والجانحة إلى مركزة السّلطة والثقافة وإقصاء كلّ ما له علاقة بالهوامش الثقافيّة وبالثقافة الشّعبية لالتصاقها بالمسائل العُروشيّة والتنظيمات الاجتماعية القديمة. مع هذا كان ثمّة أيضًا عزوف أكاديمي على دراسة التراث الشّعبي، وكثيرٌ من الكسل المعرفي والتحفّظ المنهجي على مقاربة هذه المواضيع.
غير أنّ الكافي خَرجَ من جديد إلى “أضواء التاريخ” بعد الثّورة، بفضل قصيدته الشّهيرة “الصّبر لله والرجوع لربّي” المعروفة بالملزومة. كانت تلك القصيدة متماهية تمامًا مع السياق الثّوري الذي تعيشه البلاد، غداة إسقاط نظام الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي. بدا كلّ شيءٍ حينها “ثوريًا” في تونس، الأدب والفنون والصحافة والخطاب السياسي والنقابات والإعلام والرّياضة وحتى الذّاكرة الوطنيّة نفسها عادت إلى ما هو ثوريٌّ لتُحييه من جديد.
التقطت تلك السياقات “ملزومة” الكافي، وتمّ تداولها بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي وفي المقالات وتمّ تلحينها وأداؤها غنائيًا حتّى! ومنذ أشهرٍ أصدرَ فنّان الرّاب كلاي بي بي دجي أغنية “الملزومة 2” التي حاول فيها محاكاة قصيدة الكافي وإعادة إنتاج معانيها ضمن السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحالي في البلاد. وقد تحوّلَت القصيدة إلى ما يشبه الأيقونة الثقافيّة والسياسيّة، وصارت “مانفيستو” جديد للحركات اليساريّة والاحتجاجيّة عُمومًا في البلاد، منذ العام 2011، نظرًا لطبيعتها المتمرّدة والهدّامة والرّافضة والثائرة والجريئة. وأيضًا لتميّزها بقافيتها “البذيئة” التي تستدعي العضو الذّكري في تسميته التّونسيّة الشعبيّة.
في مدوّنته “خيل وليل” كتب الباحث علي سعيدان في تعليق على القصيدة بأنّها يُمكن أن “تكون النشيد الرسمي لحركة الأنارشيست”. وفي الحقيقة، لم يكن الكافي بعيدًا أبدًا عن أجواء اليسار والحركات اليساريّة، فقد كان ناشطًا لأكثر من العام في الحزب الشيوعي (الفرع التّونسي للحزب الشيوعي الفرنسي) وكانت له إسهَامَات نضاليّة هامة في نشاط الحزب، وبحسب التفاصيل التي يَذكرها المنصوري في مقّمة الدّيوان، وهي أهم ترجمة على الإطلاق للشّاعر وحياته، فإنّ الكافي قد نظَم في فيفري من العام 1922 قصيدتين “مْسَدسَة” و”ملزومة” شيوعيتين تمّت ترجمتهما للفرنسيّة وطِباعتهما في ثلاثة آلاف نسخة باللغتين، غير أنّ الشّرطة حجزتهما من المطبعة، وتمّ إلقاء القبض عليه في الـ14 من نفس الشّهر رفقة عدد من أعضاء الحزب الشيوعي من بينهم القيادي روبير لوزون، وقد حكم عليه في الــ16 من شهر مارس من نفس العام بخمسة أشهرٍ سجنًا وخطيّة قدرها 500 من الفرنكات.
في دراسة بالفرنسيّة يتناول فيها ملزومة الكافي في العدد الـ51 من “مجلّة دراسات العوالم الإسلامية والبحر المتوسط” للعام 1989، يؤكّد الباحث مصطفى الخياطي هذه المعلومات نقلاً عن الدكتور أحمد بن ميلاد. وبالبحث في أرشيف الصّحف الفرنسيّة، نعثرُ على مقال في جريدة L’Écho d’Alger في عددها الصادر بتاريخ 14 فيفري 1922، بعنوان “مؤامرة شيوعية في تونس” تتحدّث فيها عن حجز الشّرطة لمنشورات باللغة العربيّة فيها دعواتٌ لـ”المسلمين” (التونسيين) للانخراط في الحزب الشيوعي من أجل الحصول على حريّتهم وعلى الاستقلال.
كان نشاطُ الكافي في الحزب الشيوعي كبيرًا: حركيًا من خلال حضور الاجتماعات والتظاهرات والمُشاركة في الفعاليات، وأيضًا دعائيًا من خلال القصائد والنّصوص التي تتغنّى بالشيوعية والقيم الاشتراكيّة والنّضال الاجتماعي ضد الظّلم والحيف والتشنيع على الفقر والتفاوت الطّبقي. وحتى خارج التّجربة السياسيّة نفسها، فإنّ شِعر الكافي في معظمه هو شعرٌ اجتماعي بالأساس، ولم يتخلّف الكافي طيلة حياته عن أي معركة اجتماعيّة وكان دومًا منحازًا للفقراء والضعفاء والكادحين، وهذا -فعلاً وليس مجازًا- هو قلب مشروعه الشّعري.
لم يَدُم نشاط الكافي في الحزب الشيوعي طويلاً، فقد تمّ طردهُ من الحزب في الـ22 من جوان من العام 1922، ولا يُعرَف بشكلٍ دقيق سبب الفصل. ليُصبح بعدها من أنصار الحزب الدّستوري. يشيرُ المنصوري في مقدّمة الدّيوان بالقول أنّ التّجربة السياسيّة للكافي لم تتعدّ في مجملها الخمس السنوات و”خُصوصًا في الحزب الشيوعي التي لم تتجاوز السّنة ونيف لكنها كانت حياة مكثّفة بالنشاط والحركيّة. فأكبر حركة شهدها الحزب الشيوعي غداة تأسيسه، هي ما سُمّيت بقضيّة لوزون وهي في رأينا أجدرُ أن تُسمّى بقضيّة الكافي بما أنّ سببها الرئيسي هو الملزومة والمْسَدْسَة التي نظمها شاعرنا”.
لم يتوقّف نشاط الكافي إذن عند الحزب الشيوعي، فقد صَارَ لاحقًا من مناصري الحزب الدّستوري، وله العديد من القصائد في التغنّي بالحزب وزعاماته ومبادئه وأفكاره. غير أن انفصال الكافي عن الحزب الشيوعي يبدو انفصالا سياسيًا وتنظيميًا فقط، فأفكاره الاجتماعيّة و”وعيه الاشتراكي” والتحرّري لم يتأثّر بمغادرة الحزب كما تُبيّن نصوصه الشّعريّة. وخاصةً كما يكشفهُ حماسهُ لتجربة محمّد علي الحامي النّقابية الرّائدة في العشرينات.
وفي الحقيقة، فإنّ علاقة الكافي والحامي تبدو أقدم من ذلك بكثير. وتعود تحديدًا للعام 1911 زمن الغزو الإيطالي لطرابلس، حين التحق الاثنان بالجهاد في الساحة الليبيّة. وكانت تلك نُقلة كبيرة في حياة الرّجلين، وعمّقت وعيهما النّضالي والفكري والتّحرّري. لذلك نجد الكافي منخرطًا بقوّة في الدّفاع عن مشروع الحامي النقابي/الاجتماعي، رغم أنّ ذلك المشروع قد سَاهمَ الحزب الدّستوري نفسه في وأده.
سيرةُ الكافي الشّخصيّة والسياسيّة ثريّة جدًا، ومُتشابكة. فإن كنّا لا نعرفُ على وجه التحديد سنة ميلاده، وهي وفق تقديرات المنصوري، بناء على استنتاجات من تقارير ومحاضر البوليس تعود إلى العام 1885، فإنّه قد توفّي في ربيع العام 1932. أي أنّه قد عاش قرابة الخمسة وأربعين عامًا. ولئن كنّا لا نَعرف مكان الولادة أيضًا فإنّنا نعرفُ أنّ والده كان عدلاً في حاضرة تونس واشتغل قاضيًا على أولاد عيّار في جهة مكثر، وأنّه توفّي في العام 1916.
ينحدرُ عبد الرّحمان الكافي من جهة جندوبة (سوق الأربعاء سابقًا) وهو ينتمي لقبيلة أولاد سيدي عبيد الممتدة بين الشرق الجزائري والغرب التّونسي بشكل عمودي من الشمال حتى الجريد جنوبًا. وقد درس الباحث الأزهر الماجري هذه القبيلة في كتابه: “القبيلة الولائيّة والاستعمار: أولاد سيدي عبيد والاستعمار الفرنسي في الجزائر و تونس 1830-1890 مسار التفكيك و آليّات المقاومة”، وهو واحد من أهم الكتب والمراجع عن هذه القبيلة وعن القبيلة المغاربيّة عمومًا. فأولاد سيدي عبيد هي قبيلة مُرابطيّة “وَلائيّة” ترتبط بجدّها المؤسس الوَلِي الصالح سيدي عبيد وتتحوّز بالتالي على إشعاعها ورَساميلها الرمزيّة والماديّة من خلال أدوارها الدّينيّة. لذلك فإنّ هذه الجذور القبليّة بجوهرها الثقافي الدّيني كان لها تأثيرها الواضح في النّص الشّعري لعبد الرّحمان الكافي، حتى أنّنا نلمس بُعدًا دينيًا صريحًا في قصيدته “مسدّس شُيوعي”!
وإن كانت لا توجد تأكيدات حول تلقّيه لأي نوعٍ من التعليم (الزّيتوني أو غيره) فإنّ المؤكّد أن الكافي لم يَكن أميًا وكان يعرفُ القراءة والكتابة. كما أنّ عبد الرّحمان الكافي لم يُعرَف عنه التزام بمهنة محدّدة، فقد انتقل بين مهنٍ كثيرةٍ، من بينها الكتابة في الصّحف، وقد اشتغل “طيَّابًا” في تُركيا التي توجّه إليها، بعد مغادرته طرابلس، وأقام فيها ثلاث سنوات كاملة.
تزوّج الكافي من خادمة الشّيخ الطّاهر بن عاشور، الذي منحهما أحد بيوته في مدينة تونس ليستقرّا فيه. وتبدو هذه الصّورة شديدة الأيقونيّة في تاريخ تونس الثقافي والاجتماعي. هذه “المُصاهرة” الرّمزيّة بين عالم الدّين وأحد رموز الثقافة الرّسميّة والثقافة العالمة مع أحد رموز الثقافة الشّعبيّة تستدعي الدّور الكبير الذي تلعبهُ “القرابة” في تاريخ تونس الحديث والمُعاصر. فقد لعبت المصاهرة دورًا كبيرًا جدًا في صهر النّخب التّونسيّة بعضها ببعض، وفي فتح بعض مسارات التلاحم بين “طبقات” اجتماعية مختلفة، وكانت دومًا خلفيّة مهمّة جدًا لعديد الترتيبات السياسيّة خاصة منذ ثلاثينات القرن الماضي.
علاقات الكافي داخل النّخبة السياسيّة والثقافيّة التّونسيّة خلال العشرينات ومنتصف الثلاثينات، وهي الفترة الأكثر توهجًا في تاريخ تونس الثقافي والاجتماعي الحديث، علاقاتٌ متشعبة جدًا ومتنوعة. بحيثُ يبدو لك الكافي موجودًا في “الجماعات” كُلّها ومنخرطًا في النّقاشات كلّها أيضًا. كان الكافي ينتمي للشيوعيين وللدّستوريين وللمثقفين وللنقابيين وللأدباء وللصحافيين وللعامة وجماعات الأسواق. ربّما لغزارة شخصيته وتنوّعها وثرائها، أو ربّما أنّ ذلك هو ما أغنى تلك الشّخصيّة. السّجن والجّنديّة والصحافة والجهاد والغُربة والفقر والبوهيميّة ومخالطة النّخب ومصاهرة رجل دين والانخراط في السياسة والمعارك النقابيّة، كلّها أشياء تُغني الشّخصيّة وتُغني أيضًا المخيال الشّعري وتُنضِج النّص الأدبي نفسه.
لذلك فإنّ المنجز الشّعري لعبد الرّحمان الكافي، كثيف جدًا، ونقرأ في ديوانه عشرات القصائد المتنوعة في مواضيعها وأغراضها وبُحورها. قصائد كثيرة نشرها طيلة الثلث الأوّل من القرن في عدّة صحفٍ، وكان جُزءًا من تاريخ الصّحافة التّونسيّة الوليدة وشاهدًا على أزمتها ومُشاركًا في جدالاتها ومعاركها. وكان أيضًا حاضرًا على أهم فصولها الحزينة حين صدر قرار تعطيل صدور الصحف العربيّة في البلاد باستثناء صحيفة الزّهرة إثر أحداث الزلاّج سنة 1911.
خاض الكافي معارك “أدبيّة” كثيرة عبر الشّعر والصّحافة، وكان سليط اللّسان وقويّ الكلمة، وكان الجميعُ يتهيّب الدّخول في معارك معه. كما خاض الكافي أيضًا “معارك” أخرى فكريّة واجتماعيّة تتّصل بنقاشات عصره خاصةً في ما يتعلّق بالمجتمع والقضايا الاجتماعيّة. وكان أهمُّ تلك المواضيع على الإطلاق هو قضيّة حريّة المرأة وخروجها للتّعليم. وهو نقاشٌ رئيسي من نقاشات تلك الفترة، وقد قَسَم النّخب التّونسيّة بشكل كبير وحاد.
وعلى خلاف الصّورة “الثّوريّة” التي يرسمها المخيال التونسي المُعاصر، خاصة وليد ما بعد 2011، للشّاعر عبد الرّحمان الكافي، فإنّ الرّجل كان مُحافظًا جدًا في القضايا الاجتماعيّة. فحين انخرطَ الكافي في نقاش قضيّة المرأة كان له موقفٌ متهكّم وساخر من المُطالبين بحريّتها وتعليمها. كتب قصائد كثيرة في الموضوع، وكانت قصائده جزءًا رئيسيًا من النّقاش الذي بدأ منذ العام 1924.
كان عبد الرّحمان الكافي على أقصى نقيض الطاهر الحدّاد، بينما كان بورقيبة يجلسُ في المنتصف بين الرّجلين. كان الكافي سَلِيط اللّسان وحاد التعبيرات وراديكاليًا في مواقفه ومُتحمسًا. وهو في الحقيقة منتمٍ لفضاءٍ ثقافي آخر مُختلفٍ تمامًا عن فضاء الحدّاد وبورقيبة. كان أكثر “شعبيّة” وأضعف تكوينًا على الصّعيد الفكري والسياسي، لذلك كان انخراطهُ في المعركة عبر سلاحه الحاد: الشّعر، وبلهجة النّاس وموجّهًا إليهم بالأساس، وبلغتهم حتى “السّوقيّة” منها. ومن مواقفهِ المشهورة في هذا السياق هو وصفه للفنّانة حبيبة مسيكة بـ”المسكوكة” (بالوعة الفضلات) وهي التي كانت نجمة جيلها و”الفنّانة الاستعراضيّة” الأولى في البلاد حينها.
في دراسة مرجعيّة للباحث عبد الواحد المكني أستاذ الأنتروبولوجيا التاريخيّة، حول دخول الشّاي إلى تونس والجَدَل الذي صاحب دخوله إلى البلاد، وهو المشروب الذي كان من تأثيرات الهجرة الطرابلسيّة إلى تونس بعد الغزو الإيطالي في العام 1911، نجد أنّ الكافي كان جُزءًا من حملة الدّعاية ضد هذا المشروب وتأثيراته الصحيّة والاقتصاديّة على التّونسيين، وما يُصاحبه من سلوكات تُضعف الإنتاج والذهنيّة الإنتاجية.
درس المكني أيضًا “الملزومة” بتوسّعٍ واستفاضة في مقالٍ على موقع الأوان، الذي تمّ مؤخرًا تخزينه ضمن الأرشيف الرّقمي للمكتبة الوطنيّة. وفي الحقيقة فإنّ “الملزومة” بقدر ما تكشف عن مهارة شعريّة وقوّة في النّظم، وأيضًا عن شخصيّة شعريّة متمرّدة، فإنّها أيضًا ترسمُ معالم التراتبية الطبقيّة والاجتماعية القائمة في البلاد في تلك الفترة. لذلك فهي، وكما توضّح دراسة المُكني، مرجعٌ مُفيد جدًا في فهم المجتمع التّونسي وتقسيماته وطبقاته وتركيبته السياسيّة والاجتماعيّة ومؤسساته الدّينيّة.
هكذا يبدو عبد الرّحمان الكافي، بمشروعه الشّعري الكبير والغزير، أسيرًا لـ”الملزومة”، هي التي تَرسُمُ صورته وهي التي تستدعيه دومًا من الذّاكرة الوطنيّة، لكنّها صُورة مشوّهة، أو على الأقل مجتزأة. فالكافي نفسهُ رجلٌ غزير، ولا يُمكن اختزاله. وهو أيضًا رجلٌ مُكثّف، ففي قصّته تاريخ البلاد كلّها، تاريخها القبلي والاجتماعي وتاريخها الثقافي وتاريخ جيلها الأعظم ثقافيًا (جيلُ الثلاثينات) وتاريخ صراعاتها وتاريخ كفاحها وتاريخ تحوّلاتها السياسية والاجتماعيّة والثّقافيّة وتاريخ صحافتها وتاريخ نخبها وتاريخ لهجتها وتاريخُ نقاشاتها التي لم يُحسَم كثير منها إلى اليوم.
الكافي سليلُ القبيلة الولائيّة، يُحاربُ الزيارة والزّوايا. والكافي الشّاعر اليساري والشيوعي البوهيمي “يُصاهر” رجل الدّين الأشهر في البلاد وعلامتها النّخبويّة الأعلى ويسكن أحد بيوته. والكافي الذي يُكافح ضد الحيف الاجتماعي والظّلم والفقر والقهر يقف بكلّ قوّة وقسوة شعريّة ضد تحرّر المرأة وتعليمها وخروجها من البيت. والكافي المنخرط في مشروع الحزب الدّستوري بعد مرحلته الشيوعيّة هو نفسهُ الذي يُنافح مدافعًا بقوّة عن محمّد علي الحامي وتجربته الاجتماعية والنقابيّة التي حاربها الحزب الدّستوري نفسه. يبدو الكافي كقصّة تونسيّة نموذجيّة، بكل تركيب وتعقيد “الشّخصيّة التّونسيّة”.
يبدو لي الكافي دومًا، بكلّ هذا، كقلبٍ ثوريٍّ مُنطلقٍ لكن يُثقِلهُ عقلٌ مُحافظٌ ومتحفّظ. وفي المشهد المذكور أعلاه، والذي يرسمه مصطفى خريّف لعبد الرّحمان الكافي، يُدخّنُ شاعرنَا “سبسي أبنوس بالفضّة” ولكنّه في قصائده يُحارب الشّاي. وهكذا يُمكِن أن نرسمَ صورتنا الشّعريّة الخاصة عن صاحب الملزومة، صورةٌ شعريّة عن ذلك الرّجل الذي عاش حياةً قصيرةً وصاخبة، دخّن التّبغ وحارب الشّاي ونَاصَرَ الفقراء وحارب تحرّر المرأة. وحين رحلَ كان قد ترك لنا شعرًا كثيرًا وغزيرًا تتفاوت درجة جودته بين قصيدة وأخرى، لكنّهُ منجزٌ شعريٌّ وثقافيٌّ استثنائي، يمثّل وثائق “أنتروبولوجيّة” وتاريخيّة ثريّة جدًا عن حقبة تونسيّة استثنائيّة.