“أقل صيدلية فيها بـ 100 ألف دولار أدوية، كلّها بضاعة معرّضة للتلف أو للقصف المباشر أو رح تنتهي صلاحية الأدوية شوي شوي إذا ضلّ الوضع هيك”، يقول الصيدلي حسين سرور الذي اضطر إلى إقفال صيدليّته في صور للمرّة الأولى منذ حرب تموز 2006. ويكمن التحدّي اليوم في سحب الأدوية من هذه الصيدليّات، وفي إيجاد أماكن لتخزينها بطريقة تمنع تلفها، وكيفية تصريفها.
وصيدلية سرور هي واحدة من بين 880 صيدلية أقفلت أو تعرّضت للتدمير أو الضرّر في مناطق تتعرّض للعدوان الإسرائيلي في الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع، بحسب نقيب الصيادلة جو سلّوم. والصيدليات التي أقفلت تضمّ أدوية بمئات آلاف الدولارات. وتتوزّع الصيدليات المقفلة أو المتضرّرة بحسب موزّعي أدوية محلّيين تواصلت معهم “المفكرة” كالتالي: 500 صيدلية في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون والنبطية، منها ما تهدّم بشكل كلّي، 200 صيدلية في الضاحية الجنوبية على الأقلّ، منها سوّيت أرضًا، وحوالي 180 صيدلية في البقاع وبعلبك الهرمل.
وإضافة إلى الصيدليات التي أقفلت، هناك صيدليات لا تزال تفتح أبوابها في مناطق تتعرّض للاستهدافات الإسرائيلية، في كلّ من أقضية بعلبك (20 صيدلية) والهرمل (20) وحاصبيا (11 صيدلية) لخدمة الصامدين، وأصحابها يواجهون صعوبات جمّة في الحصول على الدواء بعدما امتنعت الشركات عن الوصول إلى مناطقهم، وقد بدأ هؤلاء يطلقون نداءات بعد أن بدأ مخزونهم يتناقص خصوصًا من أدوية الأمراض المزمنة.
يصف النقيب سلّوم البضاعة في الصيدليات المقفلة بأنّها “جزء من المخزون الوطني للدواء”، ويدعو إلى “إيجاد طريقة لإخراجها بمرافقة قوّات حفظ السلام (اليونيفيل) أو الجيش اللبناني”، مبديًا قلقه من توسّع العدوان أكثر وانقطاع الطرق وسبل إيصال الدواء إلى مختلف المناطق، داعيًا إلى إنشاء مستودعات في المناطق التي ما زالت آمنة.
وقد طلبت وزارة الصحّة من نقابة الصيادلة وضع خطّة وتصوّر لكيفية إخراج الدواء وكيفية تصريفه، بحسب ما قال الوزير فراس الأبيض خلال مؤتمر صحافي ردًا على سؤال “المفكرة”. وأضاف الأبيض أنّ “هذه المسألة تحتاج إلى التعامل بحكمة ورويّة، وإلى ضبط للمعايير، كي لا نواجه مخاطر أخرى متعلّقة بسلامة الدواء”.
عدا ذلك، فإنّ التصريحات الرسمية الأخرى المتعلّقة بهذا الملف انحصرت بالتطمينات، إذ طمأن الأبيض، إلى كفاية المخزون لـ 4 أشهر، وإلى أنّ الإنتاج في المصانع المحلّية مستمرّ وهو قادر على تغطية جزء من حاجة السوق لحد ثمانية أشهر. كما طمأن إلى أنّ وزارته تتلقّى مساعدات تزيد من حجم المخزون الاستراتيجي وتوزّع على مراكز الإيواء، من دون أن يشير إلى أنّ هذه الأخيرة تضم جزءًا صغيرًا جدًا من النازحين لا يتجاوز 200 ألف نازح.
والتطمينات أتت أيضًا من نقيب مستوردي الأدوية جوزيف غريب الذي قال إنّ المخزون الاستراتيجي بخير طالما أنّ خطوط الإمداد واستيراد الدواء ما زالت مستمرّة إنْ عبر البحر أو عبر الجو، مشيرًا إلى أنّ مخزون الصيدليات المقفلة لا يشكّل سوى 2.5% من مخزون الدواء العام.
ولكن لا يبدو أنّ هذه التطمينات تخفف من هواجس الصيادلة الذين تحدثت إليهم “المفكرة”، سواء النازحين الذين بدأوا يخشون من تلف بضائعهم إن لم يتمّ إخراجها قريبًا وتخزينها، أو الصيادلة الذين يواجهون نقصًا في المخزون بعد تمنّع الشركات عن تسليمهم البضائع خشية من الوضع الأمني. وأيضًا لا تخفف هذه التطمينات المخاوف من توسّع العدوان وما يعنيه ذلك من انقطاع سبل إيصال الأدوية إلى مختلف المناطق وليس فقط التي تتعرّض للاستهدافات ومن انقطاع خطوط الإمداد في البحر والجو.
الصيدليات المقفلة أو المدمّرة: خسائر بالملايين
يعتبر جميع الصيادلة الذين قابلتهم “المفكرة” ممّن اضطرّوا إلى إقفال صيدليّاتهم، أنّ المعضلة لا تنحصر في كيفية سحب البضاعة، بل في إيجاد أماكن لتخزينها وكيفية تصريفها، “إيجار المستودع 400 دولار، طب أنا حاليًا نازح ومش عم بشتغل، ما بقدر إدفع ايجار مستودع كمان”، يقول أحد الصيادلة في حديث مع “المفكرة”.
ويفصّل الصيدلي حسين سرور الخسارة الواقعة على أصحاب الصيدليات وهي على ثلاثة أصعد:
خسارة جرّاء توقّف المبيع اليومي بقيمة حوالي 50 دولارًا يوميًا، خسائر جرّاء اقتراب انتهاء صلاحية الأدوية التي تعدّ شهرية “شهريًا الصيدلي بيعمل جردة ليشوف شو الأدوية اللي قريب تنتهي صلاحيّتها”، خسائر الأدوية التي تحتاج إلى برّادات مثل أدوية الأنسولين “هيدي إذا انقطعت عنها الكهرباء 24 ساعة خلص راحت للكب”، وخسارة مباشرة عبر استهداف الصيدلية بالقصف الإسرائيلي.
ويروي سرور الذي افتتح صيدليته في العام 1984 في صور، أنّ قيمة بضاعته اليوم تتجاوز 300 ألف دولار، حيث كان البيع في منطقة صور مزدهرًا قبل توسّع العدوان.
أمّا عن إمكانية سحب البضائع، فيعتبر سرور أنّ الخطوة تحتاج إلى حسابات عدّة قائلًا: “مين بيقدر يغامر حالياً ويطلّع كميون ينقل بضاعة”، وردًا على اقتراح سلّوم بإمكانية اصطحاب قوّة من اليونيفيل والجيش اللبناني للمناطق يتساءل سرور، “هل اليونيفيل ضمانة أو الجيش ضمانة؟”.
ويطرح سرور مشكلة ثانية تتعلّق بكيفية تخزين البضاعة وبيعها قائلًا: “وإذا هلق طلّعنا كميون وجبنا البضاعة وين بدنا نخزّنها، ما التخزين إله معايير ما فينا نحط الدواء وين ما كان”. كذلك يطرح مسألة التوزيع والبيع: “بالقانون ما فينا نبيع الدواء إلّا بالصيدليات”، معتبرًا أنّ الحلّ الأنسب في حال تمكّنوا من سحب البضاعة هي أن تسلّم إلى وزارة الصحة التي تقوم بحفظ الأدوية وبيعها إلى الصيدليات أخرى.
أما الصيدلاني علي (ب) وهو صاحب صيدلية في الضاحية الجنوبية فيقول إنّه عمد قبل نزوحه عن المنطقة بأيام عدّة إلى التبرّع بجميع الأدوية التي تنتهي صلاحيتها مع نهاية العام 2024، “فكرّت إنّه بعد في شهرين لآخر السنة، وأحسن ما يتلفوا بتبرّع فيهم، هلق كلّ البضاعة اللي بالصيدلية بينتهي تاريخها بالعام 2025 تباعًا، ممكن لوقتها تكون انحلّت أو تدمّرت الصيدلية”، مؤكدًا أنّ لا قدرة له على إخراج الأدوية.
سكنة (ر) هي صاحبة صيدلية في منطقة جبشيت، خسرت كلّ رأسمالها في ضربة واحدة، بعد غارة طالت صيدليتها التي افتتحتها في العام 2020. تقول سكنة لـ “المفكرة”: “حاطّة دم قلبي عليها، فيها بضاعة بحوالي 50 ألف دولار، كلّه راح عالارض”. سكنة التي تنتظر اليوم مولودها الأوّل كانت ترسم مستقبلًا آخر “إسرائيل ما بتخلّيكِ تحلمي ولا تخططي لحياتك، أنا كنت متطمّنة إنّه عندي مصلحة، هلق كلّ شي راح”.
محمد نزّال صاحب صيدلية غادر صريفا مسلّمًا المفتاح لأحد الأهالي الذي رفض المغادرة. يقول محمد لـ “المفكرة”: “تركت المفتاح لأن كان في ناس بالضيعة رافضين يطلعوا فقلت بلكي احتاجوا شي أدوية بياخذوا من الصيدلية”.
منير (ح) الذي يملك صيدلية في عيترون الحدودية، بدوره يقول إنّه مع بدء العدوان على قريته في 8 تشرين الأوّل 2023، تهجّر إلى قرية معروب، وطيلة فترة العدوان لم يتمكّن من سحب سوى قسم من بضاعته في عيترون، باعه بالمفرّق معتاشًا من مردوده. إلّا أنّه ومع توسّع العدوان، اضطرّ إلى مغادرة معروب. يشير منير إلى أنه وبرغم مرور عام على العدوان، لم يتمّ التطرق إلى كيفية سحب البضائع من الداخل لا من قبل النقابة ولا وزارة الصحة “هلق عندي شوية بضاعة بمعروب وشوي بعيترون وأكيد راحوا بالقصف”.
صيادلة يرفعون الصرخة من تناقص المخزون
يعاني عدد كبير من أصحاب الصيدليات في كلّ من قضاء حاصبيا ومحافظة بعلبك الهرمل، من امتناع شركات الأدوية عن الوصول إلى مناطقهم لتسليمهم الأدوية اللازمة.
يقول الصيدلي حمد حاصباني من منطقة حاصبيا إنّ جميع شركات الأدوية اليوم توقّفت عن المجيء إلى منطقتهم وبات عليهم النزول إلى مراكزها الرئيسية للحصول على حاجتهم من الأدوية، ما يصعّب مهمّة الاستمرار في العمل على حد قوله. “يعني أنا بدّي إنزل أبرم على كذا شركة دواء بتعامل معها حتى جيب طلبيتي واطلع”، يقول حاصباني لـ “المفكرة”. من جهة ثانية يشكو حاصباني من امتناع الشركات عن تسليمه الطلبية كاملة، “يعني بطلب مثلًا 5 علب حليب للناس بالمنطقة بيعطوني واحدة”، مؤكدًا أنّ هناك أزمة في الحصول على الأعداد الكافية من الأدوية المزمنة التي يحتاجها، “عندي مرضى ضغط وسكري الشركات ما عم تعطيني على قد عدد المحتاجين عندي”. ويخشى من أن يؤثر ذلك سلبًا على صحّة الأهالي في المنطقة الذين باتوا شبه محاصرين ولا يملكون خيار الذهاب إلى صيدليات النبطية التي أقفلت أبوابها.
وكما صيدليات حاصبيا كذلك صيدليات قضاء بعلبك، حيث أطلق الصيدلي حسن جاري صرخة عبر وسائل التواصل الاجتماعي باسمه وباسم أصحاب الصيدليات التي لم تقفل أبوابها في المنطقة “بأنّ مخزون الدواء المزمن قد بدأ بالنفاد، والشركات تمتنع عن توصيل ما نحتاجه إلى المدينة بحجّة الأعمال الحربية، بل يطلبون حضور الصيدلي مع الختم إما الى زحلة أو مقرات الشركات”. ويتابع: “القصة لا تتوقّف على شركة أو خمسة بل هناك أكثر من 100 وكيل وشركة من يملكون غالبية الدواء”.
ويطالب الصيدلي جاري في اتصال مع “المفكرة” بفتح مستودع واحد في منطقة زحلة على أن تزوّده جميع الشركات بالأدوية، ما يختصر عدد المشاوير على الصيدلي “يعني أنا بوصل على زحلة مشوار واحد بجيب كلّ طلبيّتي وبرجع”.
أمّا الصيدلي خلف خلف في مدينة الهرمل فقد حصر تعامله بشركة واحدة فقط، وينتقل إلى زحلة للقاء الموزّع ويعود بالطلبيّة إلى الهرمل “بُطلب من شركة واحدة فيها أنواع أدوية كثيرة”، معتبرًا أنّ ما يجري من حديث اليوم عن فتح مستودعات وسحب الأدوية من الصيدليات المقفلة في الجنوب هو فقط “للبهورة الإعلامية، لي بدّو يلاقي حلول كان لاقى من زمان، هلّق خلص”.
وعن هذه المسألة، يجيب النقيب غريب أنّه تمّ تحديد نقاط توزيع في مستشفى التركي في صيدا وأخرى عند مداخل بعلبك، إلّا أنّ أصحاب الصيدليات في منطقة حاصبيا باتوا اليوم يسلكون طريق البقاع الغربي بعدما أصبحت طريق النبطية خطرة عليهم، وبالتالي بات الوصول إلى بيروت من جهة البقاع الغربي أقصر من الوصول إلى صيدا بحسب قولهم.
ومن جهة صيادلة بعلبك، يؤكّد الصيدلي حسن جاري أنّه لا علم لديه بوجود مراكز توزيع وهو لغاية كتابة هذا التحقيق يلتقي مندوبي الشركات في زحلة والفرزل، يستلم بضاعته على جنبات الطرقات، وكلّ بحسب وقت وصوله من بيروت.
الجهود الرسمية عالقة في مرحلة النقاشات
يقول النقيب سلّوم، إنّه على الرّغم منأنّ لا أزمة في الوقت الرّاهن في قطاع الدواء وإنّ المخزون كاف لمدة أربعة أشهر، إلّا أنّه لا بد من فتح نقاش مع المسؤولين عن خطة الطوارئ حول مسائل عدّة متعلّقة بالدواء، منها كيفية ضمان استمرار وصول الدواء إلى الصيدليات في المناطق التي تستقبل النازحين وسط تخوّف من قطع الطرقات بسبب القصف العشوائي، مقترحًا إقامة مستودعات في العديد من المناطق اللبنانية.
ويفسّر سلّوم أنّ المساعدات على صعيد الأدوية اليوم لا تصل سوى إلى النازحين في مراكز الإيواء الذين لا يزيد عددهم عن 200 ألف نازح حسب قوله، بينما الأكثرية يقطنون في المنازل وهم يقصدون الصيدليات في مناطق النزوح لشراء أدويتهم ما يسبب ضغطًا على هذه الصيدليات وهو ما يدعو إلى ضرورة التفكير في خطة لاستمرار وصول الدواء إلى تلك الصيدليات.
من جهة ثانية يؤكد سلّوم على ضرورة وضع خطة لإخراج الأدوية من الصيدليات في المناطق التي تتعرّض للقصف قبل أن تدمّر، فبرأيه أنّ هذه البضاعة هي جزء من المخزون الدوائي للبلاد، وهناك ضرورة لإخراجها ووضعها في السوق اللبنانية. كما أنّ تصريفها يساعد الصيادلة في تأمين معيشتهم بدلًا من تكبّد خسائر بآلاف الدولارات، مؤكّدًا أنّ النقاش مع وزارة الصحة وعدد من المرجعيّات جار للبحث في كيفية إنقاذ البضاعة وتخزينها وتصريفها.
في اتصالٍ مع “المفكرة” يقول نقيب مستوردي الأدوية جوزيف غريب إنّه اليوم وعلى الرغم من توسّع رقعة العدوان إلّا أنّ الأهمّ أنّ خطوط الإمداد ووصول شحنات الأدوية إلى لبنان ما زال مستمرًّا سواء عبر البحر أو عبر المطار عن طريق طيران الشرق الاوسط بعدما توقّفت باقي شركات الطيران عن تنظيم رحلات إلى لبنان بسبب الأوضاع الأمنية. ويضيف أنّه اليوم تم إعطاء الأدوية الأولوية في الشحن على باقي المنتجات في المطار، وأنه لا وجود لأزمة فالوكلاء مستمرّون في الاستيراد بشكل طبيعي لغاية اليوم، مؤكدًا أنّ حجم السوق وحجم الطلب زاد بحدود 5% فقط وهو ناتج إما عن زيادة في تفشّي الأمراض أو إقبال على الشراء نتيجة مخاوف تراود بعض النازحين. “الناس لي نزحت عم تستهلك بمطارح ثانية، الوكلاء بدل ما يسلّموا بالجنوب صاروا بيسلّموا أكثر بمناطق النزوح، في تعويض بصورة خاصّة الشوف الأعلى والجبل والمتن وكسروان”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.