“محاولات إسرائيلية متجدّدة لترهيب الصحافيين. لا تسكتوا… وافضحوا جرائم الاحتلال”
– الشهيدة فرح عمر، 13 تشرين الثاني 2023، قبل 8 أيام من الاستشهاد.
وبعد سنة، لن تعجز الكلمات هذه المرة يا فرح. بعد عام، لا بدّ لشهادة تضاف إلى جبل من الشهادات، ليس لأجلك فقط، بل في وجه كلّ الجرائم في لبنان وفلسطين. لم يكن صوتك سوى صوتًا لكثيرين يا صديقتي، قهرهم الاحتلال، فكنت صدى حناجرهم وبقيت كذلك حتى صباح 21 تشرين الثاني 2023، صباح قتل الصوت واستشهاد فرح.
لفرح عمر، الصديقة والصحافية والبطلة والشهيدة، أكتب ما أستطيع أن أكتبه، أوفيها حقًا وشهادة أقلّ من أن تستحقها، فهي حصلت على الشهادة الأسمى، وهي: تلك اللبنانية التي لعلّ فلسطين سمعت صيحة ألمها لحظة وصول صاروخ الاغتيال إلى جسدها، وهي تلك البقاعية، شهيدة الجنوب، وتلك الصبية الصغيرة، شهيدة الصحافة، وهي الإنسانة التي بدمها تشهد على الجريمة الإسرائيلية القديمة والمستمرة.
في تشرين الأوّل من عام 2023 كان لقاؤنا الأخير. بعد أيام من بدء حرب غزة، زرنا معرض الكتاب في بيروت، وكان حديث عن الكتب والحرب والتغطية. أذكر حينها قلتِ لي “بقصّ إيدي إذا رح تقراهن بوب”. أعترف لك اليوم أنّ الكتب التي اشتريتها في ذلك اليوم لا تزال في الكيس، أخذتها معي في “التهجير” من الجنوب. “جيب كتاب الطبخ بفيدك أكتر”، ضحكنا ورمينا بعض النكات خلال مرورنا في أحد الأجنحة حيث تباع كتب الطبخ والأبراج وغيرها.
قبل أن ننهي تلك الزيارة، قدّمت لفرح هدية، لاسمها مخططًا بخطّ عربيّ جميل ودوّن التاريخ في أسفل الورقة 20/10/2023. بعدها بشهر كامل، استعدت الهدية، كان لا بدّ أن يبقى شيء منها معي، لم تبخل ميرفت، والدة فرح، بأن تعيد إليّ الورقة التي رجف قلبي حين رأيتها فوق التلفاز في المنزل. “ما بتغلَى عليك يا حبيبي”، شعرت بأنّي كسرت شيئًا من قلب ميرفت يومها. عذرًا لأنانيّتي، لكنّي أردت أن أحتفظ بما استطعت من ذكريات. أخذتها معي بعد التهجير كما فعلت بالكتب، لم أرد أن تمارس إسرائيل معي هوايتها المفضّلة وتسرق أيضًا الذكريات منّي.
في أوّل أيام الحرب، كانت فرح تعمل من بيروت، أذكر جيدًا حين قالت لي: “لمّا بيطلبوني بكون جاهزة”. بعد أسبوعين من الحرب، التحقت فرح بالتغطية من القطاع الغربي فكانت صورة الناس وصوتهم هناك. من أمّ الطفلات الشهيدات الثلاث في عيناثا إلى أهالي الناقورة وطيرحرفا والجبين وشمع. بعد استشهادها، قال لي صديقها وزميلها المصوّر سليم ناصر الدين: “عندما صوّرت معها تقريري الأوّل عرفت من اللحظة الأولى أنّها ستلمع أمام الشاشة، كانت واثقة وقويّة. حتى أكثر المراسلين المخضرمين كانوا يرتكبون الأخطاء، أما هي فأنهت كلّ شيء من المرّة الأولى بإتقان”.
وفي الليلة الأخيرة قبل استشهادها، كانت تقف في الناقورة وتلقي رسالتها الأخيرة في نشرة الأخبار لتلك الليلة. تحدثنا في ليلة الإثنين تلك وأخذت وعدًا منها أن تزورني الخميس قبل أن تعود إلى بيروت لأنّ أمي وعدتها بطبخة كبسة في منزلنا في طيردبا. في صباح الثلاثاء، تلاشى كلّ شيء، تلاشت الوعود والمشاريع والمخطّطات والأحلام. قتلت إسرائيل حينها حلمًا جميلًا، ليس لها ولعائلتها فقط، قتلت حلمًا للشاشة ولأصدقائها وكلّ من عرفها.
يوم الأربعاء، كانت الزفّة الأخيرة في البقاع الغربي لعروس مشغرة، عادت إلى حيث أحبّت يومًا أن تعود، إلى شجرتها الجميلة في دار جدّها، إلى سهراتها وحواريها. عادت إلى حيث قالت لي يجب أن تزورني يومًا، فجاءت زيارتي الأولى لمشغرة في يوم وداعها.
فرح الصحافيّة
لم تكن فرح صديقة مقرّبة فقط، كانت روحًا تملأ الدنيا من اسمها حيث وجدت، وكانت طالبة مجتهدة يثني عليها الجميع. وفي ميدان الصحافة، أثبتت جدارتها منذ لحظة انطلاقتها في قناة “الميادين”، حيث لمعت وتألّقت في تغطيات عدة.
أعود إلى البدايات في أيلول من عام 2016، حين تعرّفت إليها في العام الأوّل من الدراسة الجامعية في اختصاص الصحافة. كانت فرح قد أنهت مرحلة الثانوية العامّة في علوم الحياة بدرجة جيد جدًا، لكنها مشت وراء حلمها، نحو الطريق الذي اختارته منذ الصغر. جمعنا مبنى قديم في الأونيسكو، هو مبنى كلّية الإعلام بفرعها الأوّل. هناك تتالت السنين، حتى التخرّج. برعت فرح وتفوّقت. كانت “مندوبة الصف”، الأحب لقلب كلّ من عرفها وخدمته.
في عامها الأخير، أنتجت فرح فيلمًا وثائقيًا لمشروع تخرّجها بعنوان “طرف الحياة”. من يعرفها عن قرب يعرف كيف كانت تحبّ أن تنجز كلّ شيء بإتقان، تقول حينها “ركضت ركض” كي تنهي العمل كما تريد ويخرج بالصورة المثالية التي تتقنها. بعد التخرّج سنحت لها الفرصة أن تكون من خرّيجي الجامعة اللبنانية الذين تمّ التواصل معهم للتدرّب في قناة “الميادين”، وبعد شهرين كانت فرح جزءًا من عائلة القناة وأبرع المحرّرين الجدد في غرفة الأخبار.
رغم تعب الإصابة بفيروس كورونا الذي أدخلها المستشفى بسبب العوارض الصعبة التي أنهكتها، عادت فرح لتكون أقوى وتطلّ للمرة الأولى على الشاشة، بعد أقل من أربعة أشهر من التحاقها بالقناة وتكون الوجه الذي سيعلن عن انطلاق الموقع الإنكليزي للقناة في حزيران 2021.
بعد الإطلالة الأولى، حلّقت فرح عاليًا، جميلة الشاشة باتت وجهًا محبوبًا حتى في الأخبار الحالكة، غطّت هموم شعبها من الشمال إلى الجنوب مرورًا بالجبل وبقاعها الحبيب، وقدّمت تغطية محلّية مميّزة عبر الصفحة المخصّصة للبنان في القناة. كما قدّمت برنامجًا قصيرًا خاصًا بها حمل اسم “ع فكرة”.
غابت فرح عن الجامعة عامًا، أخذت قسطًا من الراحة عن استكمال الماجستير، وتفرّغت لعملها. بعد عام عدنا أنا وفرح للتسجيل في السنة الأولى من الماجستير، أقنعتها حينها “استغلّي الفرصة، نحن أونلاين”. في تلك السنة أنجزنا الكثير وظلّت تخبرني: “ما إلي غيرك، مضغوطة بالشغل”، أنجزنا الكثير من المشاريع سويًا وراجعنا المحاضرات أيضًا. “بوب بتعمل مونتاج لتقرير مادة الدكتورة زينب؟ شو قالت دكتورة مهى اليوم؟”. بعد عامين أنهت فرح جميع مواد مرحلة الماجستير بعد أن استكملت السنة الثانية في الصحافة الرقمية مع صديقتنا زينب، باستثناء الرسالة التي تؤهّلها لنيل الشهادة.
لم يعلم كثيرون أنّه في صباح استشهادها كانت أوراقها قد وصلت إلى إدارة الجامعة بعد أن أرسلتها مع زميلنا ربيع، لم يكتمل التسجيل، ففرح نالت شهادة أخرى في ذلك الصباح من تشرين. قبلها بأيام كانت مشغولة بتغطية أخبار الجبهة، طلبت مني أن أملأ طلب التسجيل بدلًا منها “مش عم لحّق”، أخبرتني عن ضغط العمل في الميدان، “لعيونك”، كما كنت أقول لها دائمًا.
خلال عامين من العمل، غطّت فرح الكثير من الشؤون المحلّية، فكانت من أصغر مراسلي القنوات الإخبارية في قصر بعبدا والسراي ومجلس النواب، أبدعت هناك وتألقت وأثبتت نفسها أمام الكاميرا. كرّت سبحة التغطيات، فكان لها بصمة في تغطية الانتخابات النيابية، والأزمة الإقتصادية واقتحام المصارف، وكورونا، وترسيم الحدود البحرية وملفات محلية أخرى رافقت خلال هموم الناس، من انقطاع الأدوية إلى أسعار الكتب وصولًا إلى الأعياد وأزمة المحروقات.
في التغطيات الدولية، برزت فرح نجمة لشاشة “الميادين”، فقضت شهرًا كاملًا في تغطية الانتخابات التركية، حيث جالت في عموم البلاد وأخذت ثناءً كبيرًا حينها. أذكر حين قلت لها “أبدعتي”، ردّت بعفويّتها: “بعرف!”.
ولم تعشق فرح مهنتها فقط، بل كانت تعشق كرة السلة أيضًا، لم تفوّت مباراةً لمنتخب لبنان وكان نهائي دوري كرة السلة الذي يختتم بفوز النادي الرياضي موسم السعد بالنسبة لها.
“عانقوا من تحبّون”
عند الحديث عن فرح، لا أسترجع ذاكرةً معها فقط، بل أستذكر أشخاصًا اجتمعوا مع فرح على لحظات جميلة وأخرى حزينة. أستذكر كل رفاق الجامعة الذين باتوا عائلة ثانية. وأستذكر عائلها الأولى، هشام وميرفت وفريال وبسام وغدير وسليم وحسين، عرفتهم أكثر بعد رحيلها بكلّ الحزن والوجع وألم الفراق.
لا تنفصل تلك الذكريات الشخصية والمهنية عن سياق عام لمسلسل قتل الصحافيين أوّلًا، وكلّ إنسان قتله الاحتلال، ثانيًا. ليست فرح رقمًا من الذين قتلتهم إسرائيل، ولن تكون. كما لن يكون غيرها أيضًا كذلك من أبناء شعبنا الواحد الذي يعاني ويلات الحروب والاستعمار بين غزة وفلسطين، فهذه كلّها كما آمنت فرح هي بلادنا الواحدة.
“الحياة لن تدوم، عانقوا من تحبون”، لا أعرف إن كانت فرح تدري عندما خطّت هذه الكلمات أنّها ستُحفر عميقًا في قلوب كثيرين. لكنها تركت أثرًا كبيرًا، كفراشة لا تضلّ الطريق أبدًا.
بعد عام من الاستشهاد، يبقى الأمل في أن يظلّ اسم فرح قدوة للصحافيين، الطلّاب منهم خصوصًا، أن يكونوا صوتًا للناس ولأرضهم التي تشهد عدوانًا يحاول محو أي أثر لهم فيها، أن تبقى قصص طيرحرفا وجاراتها تروى كما روتها هي، وأن يصدح صوت أهاليها كما صدح صوت من روت أرض هذه القرى بدمائها.
اليوم أستذكر فرح وربيع معماري وحسين عقيل ومعهم كوكبة من إعلاميين وصحافيين قتلتهم إسرائيل في استهدافات مباشرة لاغتيال أصواتهم، في يوم العدالة لفرح لا ننسى العدالة لعصام عبد الله وهادي السيد ووسام قاسم وغسان نجار ومحمد رضا.
في هذا العام باتت قضية فرح أكبر، فالقضية باتت قضية شعب بأكمله يتعرّض للذبح يومًا بعد يوم على يد الاستعمار وخلفه قوى العالم كلّه، هؤلاء الذين يتباهون بالإعلام الحرّ بات تبرير الجريمة لديهم كشربة الماء في مؤتمرات الوجوه الشاحبة.
لفرح، قمر مشغرة وبطلة الجنوب وأولى بطلاتنا اللواتي عمّدن بدمائهنّ أرض الجنوب في هذه الحرب، لها أكتب شوقًا وحنينًا وحبًا وفخرًا، منها آخذ العزّة والأمل بأنّ العودة إلى الجنوب آتية لا محالة، وبأنّ قول الحقيقة في وجه آلة حرب همجية يستحق كلّ التضحيات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.