“إرجاء الجلسة بحالتها الحاضرة…”، هي العبارة التي تُغلَق فيها محاضر جلسات مجالس العمل التحكيمية منذ عام كامل. فإضراب مفوّضي الحكومة لدى مجالس العمل التحكيمية الذي بدأ في نيسان 2023، للضغط باتجاه تحسين بدلات حضور الجلسات، لم يُثمر حتّى اليوم أيّ تقدّم ملحوظ. ومنذ ذلك الحين لا تزال جلسات المحاكمة في قضايا العمل في مختلف محافظات لبنان تنعقد لتؤجّل، فيما يقف العمّال الّذين يسعون لتحصيل حقوقهم كالباحثين عن إبرة في كومة قش.
يكتسب مجلس العمل التحكيمي أهميّة خاصّة لكونه محكمة متخصّصة بنزاعات العمل، ويلجأ إليه العمّال حين ينتهك أصحاب العمل حقوقهم، وهو أمر حصل كثيرًا منذ بدء الأزمة الاقتصادية عام 2019. كثر من العمّال الذين تقدّموا بدعاوى قبل العام 2019 وبعده، اصطدموا بأسباب عديدة لتعطّل مسار تحصيل حقوقهم، مسار كلّما طال كلّما انخفضت معه قيمة التعويضات التي يُطالبون بها. فإلى جانب إضراب مفوّضي الحكومة، واجهت مجالس العمل التحكيمية عقبات متعدّدة خلال السنوات الأربعة الأخيرة أسوة بالمحاكم الأخرى، من بينها التعبئة العامّة لمواجهة انتشار فيروس كورونا، واعتكاف القضاة والمحامين والمساعدين القضائيين، كما قانون تعليق المهل الذي استمرّ مفعوله لعامين كاملين.
وعودة هذه المحاكم إلى العمل، لا يعني سوى العودة إلى عهدها السابق، أي إلى الوتيرة البطيئة في العمل جرّاء النقص في عدد القضاة وتراكم الملفات أمامهم. ورغم ضعف فعالية هذه المجالس، زاد تعطيلها من “هشاشة الطبقة العمّالية”، وفقًا لمدير المرصد اللبناني لحقوق العمال النقابي أحمد الديراني الذي يؤكد أنّها “كانت السلاح القانوني الوحيد للعامل”. ويترافق تعطيل المجلس مع الأزمة الاقتصاديّة “حيث بات الصرف من العمل على قدم وساق فيما قلّة من المصروفين يتوجهون إلى القضاء” وفقًا لتعبير رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان كاسترو عبدالله.
محاكم العمل: غرف لتسجيل الحضور
تعتبر قاعة مجلس العمل التحكيمي في بعبدا (جبل لبنان) التي زارتها “المفكرة القانونية” أكثر من مرّة نموذجًا يُبنى عليه لتصوير واقع حقوق العمّال أمام المحاكم، والتي يجلس فيها ممثلو العمّال وأصحاب العمل إلى جانب القاضية التي تترأسها. ولكن يغيب عنها مفوّض الحكومة وأحيانًا ممثل الضمان الاجتماعي في حالة إضراب رابطة موظفي الإدارات العامّة. وفيما تجلس أحيانًا القاضية وحيدة على قوس المحكمة، يدخل القاعة في كلّ مرّة تنعقد فيها الجلسات، عشرات المحامين والعمّال الّذين يأتون فقط لتسجيل موعد الجلسة المقبلة، وإثبات حضورهم خشية شطب ملفاتهم عن جدول الجلسات.
ويخرج العمّال من القاعة خالي الوفاض، فيسأل أحدهم: “متّى أُحصّل حقوقي؟ حين أُصاب بأزمة عصبية جرّاء القلق والقهر، وعندها إذا حصلت على تعويضي أشتري بثمنه علبة مهدّئ للأعصاب”. ويقول العامل لـ “المفكرة” “تمّ صرفي من العمل بحجة الأزمة الاقتصادية عام 2019، كان راتبي مليون ونصف ليرة لبنانية، (كانت قيمته 1000 دولار على سعر الصرف قبل الأزمة، وأصبحت قيمته اليوم نحو 16 دولارًا)، فتقدمت بدعوى لتحصيل تعويضي ومنذ ذلك الوقت والجلسات تؤجّل، مرّة بسبب كورونا ومرّة بسبب اعتكاف القضاة أو إضراب المساعدين القضائيين، هذا عدا عن مماطلات وكيل الشركة بالإجراءات إلى أن وصلنا إلى إضراب مفوّضي الحكومة”. ورغم هذه المشقة، يجد العامل ومضة خافتة تدفعه للاستمرار بالدعوى، وهو ليس التعويض الذي من المفترض الحصول عليه، إنّما “تسجيل موقف” بحسب تعبيره.
هكذا تحوّلت محاكم العمل في لبنان منذ نيسان 2023 إلى غرفة لتسجيل الحضور فقط، جرّاء إضراب مفوّضي الحكومة بعد انخفاض قيمة البدلات التي يتقاضونها مقابل حضور الجلسات. فما كان قيمته نحو 67 دولارًا قبل الأزمة، بات اليوم دولارًا واحدًا فقط، إذ كان المرسوم رقم 1415 قد حدّد في العام 2015 قيمة البدل عن كلّ جلسة بـ 100 ألف ليرة (يلحظ بدل النقل وبدل حضور الجلسة). وتوقّف مفوّضو الحكومة عن حضور الجلسات حين وصلوا إلى مرحلة سيدفعون كلفة حضورهم إلى المحكمة من جيوبهم، علمًا أنّهم موظفون أصلًا من الفئة الثالثة في الإدارة العامّة وقيمة رواتبهم انخفضت أيضًا منذ العام 2019 ولا يزالون كغيرهم من موظفي الإدارات العامّة رهينة القرار السياسي الذي لم يُتّخذ بعد لتحسين رواتبهم.
ويؤدّي إضراب مفوّضي الحكومة إلى وقف دعاوى العمل في المرحلة التي تتطلّب مطالعتهم، إذ أنّ دورهم الذي حدّده المرسوم رقم 662/1983 يتمثل بحضور جلسات المحاكمة أمام مجالس العمل التحكيمية وإبداء مطالعتهم الخطية (أي رأيهم) في كلّ دعوى وتلقّي توجيهات وزير العمل لجهة موقف وزارة العمل بالنسبة لتفسير القوانين والمراسيم التطبيقية. وعليه يؤدّي إضرابهم إلى تأجيل الجلسات من دون إصدار المحكمة قرارات إعدادية أو أحكامًا في جميع دعاوى العمل في لبنان. ويسمح القضاة في هذه المرحلة للمتقاضين بتبادل اللوائح، إذ تكتفي المحاكم بإرجاء الجلسات منذ شهر نيسان 2023 من دون اختتام المحاكمات. وفي العام الفائت، أعدّ وزير العمل مصطفى بيرم مشروع مرسوم لرفع التعويض إلى 750 ألف ليرة باليوم، وهي قيمة لا تزيد عن 10 دولارات في الوقت الحالي. فأرسل الوزير المرسوم إلى مجلس شورى الدولة الذي لم يعترض أسوة بمجلس الخدمة المدنية، إنّما توقف مشروع المرسوم بعد إحالته في آذار 2023 إلى وزارة المالية العامة التي لم تُوافق عليه بعد.
كذلك يتغيّب ممثلو الضمان الاجتماعي عن الجلسات كلّما أعلنت رابطة موظفي الإدارات العامّة الإضراب، ويُشكّل غيابهم عن الجلسات في القضايا التي يكون فيها الضمان الاجتماعي طرفًا، عاملًا إضافيًا للتأجيل. وفي بعض المحافظات، قرّر ممثّلو العمّال وأصحاب العمل التوقف أيضًا عن الحضور إلى الجلسات معتبرين أنّها ستؤجل بحضورهم أو غيابهم. ويُشار إلى أنّ مجلس العمل في النبطية معطّل منذ ثلاثة أعوام نظرًا لوفاة ممثل العمّال وعدم تعيين ممثل بديل، إضافة إلى تقاعد مفوّض الحكومة قبل عامين.
من جهته، يشير رئيس الاتحاد العمّالي العام بشارة الأسمر إلى أنّ الاتحاد يُتابع موضوع تعطّل المجالس مؤكدًا أنّ المجالس لن تعمل إلّا بتحسين بدلات الحضور لأعضائها. ويؤكّد أنّه طلب من وزير العدل (في حكومة تصريف الأعمال) هنري خوري الدفع باتجاه إصدار مرسوم جديد لتعيين أعضاء هيئات مجلس العمل. بالتوازي، أشار الأسمر إلى أنّ الاتحاد تقدّم قبل شهور بمذكرة لوزير العدل يطلب فيها معالجة المشاكل التي تُعاني منها مجالس العمل التحكيمية وذلك لناحية النقص في أعداد الغرف والقضاة. لكنّ الأسمر يجد أنّ “المشكلة ليست في تفعيل المجالس التي لم تكن تعمل أصلًا بالشكل المطلوب نظرًا إلى القوانين التي ترعاها، لأنّ الهدف ليس انعقاد المجلس بل أن يكون فعّالًا على صعيد حقوق العمّال”.
“مصاريف الدعوى أعلى من قيمة التعويض”
يؤدّي تأخير البتّ في الدعوى العالقة أمام مجالس العمل إلى خطر فقدان العمّال للتعويض العادل في حال تبيّن أنّ صاحب العمل صرفهم من العمل تعسّفيًا أو ارتكب مخالفات أخرى لحقوقهم العمّالية. ويقول المحامي جوزيف سلامة الذي التقته “المفكرة” أمام مجلس العمل في بعبدا، إنّه “وكيل موظّف صُرف من العمل قبل عامين وتقدّم بدعوى ليُطالب بتعويض لا يتعدى 7 ملايين ليرة. وقد أثّر تأخير البت بالملف على حقوق موكلي”. ويضيف ساخرًا “التعويض اليوم بات بقيمة بدلات النقل التي ندفعها للوصول إلى العدلية”. ويتابع: “أرسلت تبليغات أكثر من 4 مرّات ودفعنا كلفتها في كلّ مرّة مليون ليرة، فأصبحت مصاريف الدعوى أعلى بكثير من قيمة التعويض الذي نطالب به”. ويُضيف “نأتي كلّ شهرين لحضور الجلسة ونحن نعلم أنّه سيتم تأجيلها لكننا نخشى شطبها عن الجدول فيتعيّن علينا إعادة تعيين جلسة جديدة… وعند نهاية كل جلسة تعلن القاضية الأمر نفسه “لتكرار دعوتهم نرجئ الجلسة إلى…”، بتّ أخجل من القدوم إلى هنا لأنّ النتيجة نفسها” بحسب تعبيره.
ويحتار المحامون حين يسألهم العمّال عن إمكانية طلب رفع التعويضات نظرًا لانهيار قيمتها، ويسأل محامٍ في حديث مع “المفكرة”: “هل يجوز لنا المطالبة برفع التعويضات؟ لا أدري، فالقاضية ستحكم بالتعويض بناء على قيمة الراتب الذي كان يتقاضاه الموظف، أي أنّها تحدد عدد من الرواتب بين شهرين و12 شهرًا كقيمة تعويض، ويرتفع أكثر في حال كان العامل عضوًا في نقابة”. ويُضيف “حتّى لو حكمت بالحد الأقصى أي 12 شهرًا، ستكون قيمة التعويض منخفضة نظرًا لانخفاض قيمة سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار”. ويلفت إلى أنّ “القضاة يجتهدون أحيانًا في تحديد التعويض ويحكمون بالتعويض بالدولار الأميركي إذا كان عقد العمل بالدولار، لكن حين نذهب لتنفيذ الحكم، يمكن لمحكمة التنفيذ أن تلزم تنفيذ الحكم بالليرة اللبنانية، وهذا يختلف من قاض إلى آخر”.
ويشرح رئيس اتحاد نقابات العمّال والمستخدمين كاسترو عبدالله في حديث مع “المفكرة” أنّ “كلفة الدعوى على العامل باتت أعلى من التعويض نفسه الذي يُطالب به العمّال”. ويشرح: “إذا أراد عامل الوصول إلى المحكمة الموجودة فقط في مراكز المحافظات، يحتاج لأن يدفع كلفة انتقال، ثمّ على خلاف ما ينصّ عليه القانون بأنّ هذه الدعاوى معفاة من الرسوم القضائية، يتكبّد العامل تكاليف الطوابع وكتابة الدعوى وطباعة الأوراق وثمّ التبليغات، عدا عن الحالات التي يحتاج فيها لتوكيل محام فيتعيّن عليه دفع تكلفة الوكالة ونسبة من التعويض” كبدل أتعاب. وتُشكل هذه العوامل التي عددها عبدالله أسبابًا تثبط اندفاع العمّال للسعي وراء حقوقهم أمام القضاء، ويُعطي مثالًا عن إحدى الشركات التي صرفت المئات من عمّال البناء، إلّا أنّ 30 منهم فقط توجّهوا إلى مجلس العمل التحكيمي.
ويرى عبدالله، أنّ مجالس العمل اليوم باتت في وضع يُرثى له، ومشاكلها قديمة، “فالقضاة لا يرغبون في تولّي هذه المحاكم، عدا عن أنّ كلّ غرفة تعقد جلسة واحدة فقط في الأسبوع رغم تراكم الملفات، إضافة إلى أنّ المرسوم الذي يُحدّد بدل الانتقال (لمفوضي الحكومة) حدّدها بخمس جلسات فقط في الشهر وهذا يعني استحالة تسريع الملفات”.
الصّلح والمفاوضات سيّدة الأحكام
يصف الديراني واقع مجلس العمل التحكيمي بأنّه “معقّد لدرجة نحتار من أين نبدأ”. ويلفت على أنّه على الرغم من كلّ الملاحظات على عمل المجلس، إلّا أنّه “الجهة القضائية الوحيدة التي تنظر في نزاعات العمل والتي تعدّ المرجع الوحيد للعمّال لتحصيل حقوقهم”. وبتعطيلها، فإنّ “حقوق العمّال التي لطالما كانت هشّة، تفاقمت هشاشتها كثيرًا اليوم”، بحسب الديراني.
وأمام تعطيل المحاكم، يتّخذ العمّال مسارًا آخر لتحصيل حقوقهم عبر التفاوض مع أصحاب العمل. فيذهبون إلى تسجيل الدعاوى في مجلس العمل التحكيمي خلال مهلة الشهر المتاحة لهم قانونًا لتقديم دعاوى الصرف التعسفي، فقط كي لا يخسروا حق التقاضي في الوقت الذي يُباشرون فيه بعملية مفاوضات مع أصحاب العمل، والتي قد تكون مباشرة أم عبر وزارة العمل. ويشرح كاسترو عبدالله أنّ الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين حين يتلقّى بلاغ صرف، يوجه العمّال إلي تسجيل الشكاوى في المحكمة ويبدأ بالتفاوض نيابة عنهم مع أصحاب العمل. ويلفت عبدالله إلى أنّ هذه المفاوضات من المستحيل أن تؤدي إلى تحصيل كامل الحق مئة في المئة، إنّما هي الخيار البديل الوحيد في ظلّ الأزمة الراهنة. ويُضيف “أحيانًا حين لا يتجاوب صاحب العمل مع المفاوضات يبدأ بدفع العمّال نحو مجلس العمل كونه يعلم أنّ الدعاوى هناك ستستغرق سنوات، مراهنًا على ملل العامل”.
من جهته، يُشير ممثل العمّال لدى مجلس العمل التحكيمي في بعبدا النقابي سليمان حمدان الذي لا يزال يحضر الجلسات ويُتابع الملفات رغم إضراب مفوّضي الحكومة، إلى أنّ تعطيل مجالس العمل “دفعنا إلى التوجّه نحو اقتراح الصّلح بين الأفرقاء المتقاضين لأنّه الحل الوحيد المثمر في الوقت الحالي، وفي حال رفض الأفرقاء الذهاب للصلح فإنّ الملف يتوقف في المرحلة التي تتطلّب مطالعة مفوّض الحكومة، علمًا أنّه لا يوجد أمام المحكمة أي خيار بديل لإصدار الحكم”. ويلفت حمدان إلى أنّ “الصلح يحصل بإشراف القاضية وقد أثبت فعاليته في الوقت الحاضر، وتمكّنا من التوصّل إلى حلول لمصلحة العمّال في عدّة ملفات”. ويشرح حمدان أنّ “الوضع في ظلّ الأزمة الاقتصادية بات كارثيًا على العمّال، فمَن رفع دعوى قبل الأزمة انخفضت قيمة التعويضات التي يُطالب بها، ولهذا السبب نُحاول رفع قيمة التعويض إلى حده الأقصى”.
ثلاثة أشهر تحوّلت إلى سنوات: “رب العمل يأخذ كلّ تعب العامل”
لم تعُد دعاوى مجلس العمل التحكيمي تجذب المحامين، فمن تولّى ملفًا لعامل يندم لاحقًا نظرًا لطول أمد الدعوى. يقول محام لـ “المفكرة”: “لم أكن أتوقع كلّ هذه المعاناة حين تقدّمت بالدعوى، كان كلّ همّي أن أضمن حق موكّلي الذي أتى إلى مكتبي عام 2020 يشكو من صرفه من العمل بدون تعويض. تعاطفت مع قضيّته وتقدّمنا بالدعوى، ومنذ ذلك الحين تتأجّل الدعوى”. ويُضيف “آتي إلى المحكمة عند موعد كل جلسة وأنتظر دوري ويستغرق الأمر نهارًا كاملًا من دون أي عمل منتج”. وفيما ينصّ قانون العمل على أنّ مجالس العمل التحكيمية تنظر في القضايا المرفوعة أمامها بالطريقة المستعجلة (المادة 80) وتبتّ فيها خلال مهلة ثلاثة أشهر (المادة 50)، يلفت المحامي إلى أنّ “الدعاوى التي من المفترض أن يبت المجلس فيها خلال ثلاثة أشهر وفقًا للمادة 50 من قانون العمل، تأخذ ثلاث سنوات، وإن توفي المدعي يرث أولاده الدعوى”.
وليس جديدًا معاناة الملفات أمام مجلس العمل التحكيمي من البطء نظرًا إلى إجراءات التبليغ وتبادل اللوائح التي تُسهّل على وكلاء أصحاب العمل ابتكار أساليب للمماطلة. ويدلّ تعليق محامية إحدى الشركات أمام “المفكرة” على استحالة صدور الأحكام من مجالس العمل التحكيمية خلال ثلاثة شهور، إذ قالت: “لمّا كون أنا وكيلة شركة بضلّ أجّل الدعوى، لكن لمّا كون وكيلة موظف بخلّي الإجراءات أسرع ووكيل الشركة بصير يماطل”.
وتعتمد بعض الشركات ممارسات لردع دعاوى العمل بحقها تتمثل بالدعوى المضادّة التي ترفعها ضدّ الموظف الذي يدّعي عليها أمام مجلس العمل التحكيمي، وتكون سببًا إضافيًا لتأخّر البت بالملفات. ويروي “عماد” (اسم مستعار)، وهو موظّف مصروف تعسّفيًا في العام 2018 اعتقد أنّه سيتمكّن من تحصيل حقوقه سريعًا حين تقدّم بدعوى ضدّ الشركة التي عمل فيها لمدّة 15 عامًا “حينها كان التعويض الذي أطالب به يستحق المغامرة أمام القضاء، لكن بعدما تقدّمت بالدعوى فوجئت بدعوى مضادّة أمام المحكمة الجزائية من صاحب العمل يتّهمني فيها باختلاس المال”. ويُضيف: “وكّلت محاميًا وبدأنا بعملية تفاوض انتهت بتعهّد صاحب العمل بإسقاط الدعوى وبأن يدفع لي تعويضًا مقابل أن أُسقط الدعوى أمام مجلس العمل، فقام بإسقاط الدعوى الجزائية لكنّه امتنع عن دفع التعويض، فاستمرّيت بالدعوى خشية أن أخسر حقوقي”. ويتابع أنّ “المحكمة في بداية العام 2023 كانت جاهزة لإصدار الحكم، فبدأ إضراب مفوضي الحكومة وتعطّل الملف”. ويلفت إلى أنّ “قيمة التعويض اليوم باتت منخفضة، بخاصّة وأنّ المحامي أعلمني أنّ المحكمة مجبرة على التقيّد بالتعويض على الليرة اللبنانية”. ويختم قائلًا: “صاحب العمل يأخذ كلّ تعب العامل، وحين يأتي الثاني للمطالبة بحقه يتنكّر الأوّل لهذا الحق”.
وأمام قاعة محكمة العمل في بعبدا نقل أكثر من عامل رواية مشابهة لرواية عماد، لناحية رفع صاحب العمل دعوى مقابلة مباشرة بعد تقدّم العامل بدعوى أمام مجلس العمل التحكيمي. وهذه الدعاوى المقابلة التي غالبًا ما تكون دعاوى جزائية، تؤدّي إلى إلزام المحكمة بتأخير البت بدعاوى العمل إلى حين انتهاء المحاكم الجزائية من النظر في الدعاوى المقدّمة إليها، استنادًا إلى قاعدة “الجزاء يعقل الحقوق” (أي تعليق السير بالدعوى المدنية إلى حين البت بالدعوى الجزائية). فيسأل أحد المدّعين من العمّال: “لو كنت حقًا قد اختلست المال أثناء العمل لماذا لم يُطالبني بالأمر قبل صرفي من العمل؟”، مشيرًا إلى أنّ “حجّة الصرف كانت الوضع الاقتصادي ولم يتمّ الإشارة إلى أي أمر يتّصل باختلاس الأموال”.
وفي إطار رصدها المستمرّ لنشاط مجلس العمل التحكيمي، وجدت “المفكّرة” أن ما يحصل على أرض الواقع يخالف المهل المنصوص عنها في القانون. ففي دراسة منشورة عام 2019 وجدت أنّ متوسّط أمد الدعاوى التي تنتهي بحكم نهائي وصل إلى ثلاث سنوات ونصف تقريبًا في محافظتي بيروت وجبل لبنان في عام 2018، فيما وجدت في دراسة أخرى (غير منشورة) أنّ هذا المتوسّط وصل إلى أربع سنوات في عامي 2020-2021 في خمس محافظات (بيروت، جبل لبنان، الشمال، الجنوب والنبطية). ويظهر من دراسة بعنوان: “لماذا لا يلجأ العمّال إلى مجالس العمل التحكيمية؟ قراءة في مسار اضمحلال مؤسّسة قضائية” نشرتها “المفكرة” عام 2022 أنّ طول أمد الدعاوى هو أحد الأسباب الرئيسية التي تعيق لجوء العمّال إلى مجلس العمل التحكيمي، إضافة إلى تراجع الثقة بالقضاء وصولًا إلى انخفاض قيمة التعويضات مع انهيار العملة.
بالأرقام: انخفاض ملحوظ في أعداد دعاوى العمل
تُظهر الأرقام التي حصلت عليها “المفكرة” من أقلام محاكم العمل في بيروت وبعبدا عدد الدعاوى الواردة إليها في السنوات السبع الأخيرة، أنّها اتخذت منحًا تصاعديًا في بداية الأزمة الاقتصادية عامي 2019 و2020 الّلذين شهدا موجة مرتفعة من الصرف التعسّفي للعمّال بحجّة الأزمة. كما تظهر الأرقام انخفاضًا ملحوظًا في أعداد الدعاوى في العام 2021 الذي شهدت فيه البلاد إغلاقًا عامًا بسبب انتشار فيروس كورونا وتعليق المهل القانونية. واستمرّت الأرقام على وتيرتها المنخفضة في عامي 2022 و2023. في المقابل، يظهر أنّ عدد الدعاوى المقدّمة في بيروت قد ارتفع إلى 949 دعوى في العام 2022، ويعود ذلك إلى حصول حالات من الصرف الجماعي في شركتين طالت أكثر من 400 موظف.
أي إصلاحات مطلوبة؟
نظرًا إلى عدم فعالية مجالس العمل التحكيمية وعجزها عن بتّ نزاعات العمل ضمن الآجال المحددة قانونًا، تقدّمت النائبة بولا يعقوبيان في أيلول 2019 باقتراح قانون لإلغاء مجالس العمل التحكيمية وإناطة مهامّها وصلاحيّاتها بأقسام محكمة الدرجة الأولى التي يتولّاها القضاة المنفردون المدنيون. ويلغي الاقتراح مشاركة ممثّلي الأجراء وأصحاب العمل في هيئة المحكمة ودور مفوّضي الحكومة في المحاكمة.
وأمام المخاطر العديدة التي تنتج عن تعطيل مجالس العمل التحكيمية، يرى عدد من النقابيين الذين قابلتهم “المفكّرة” أنّ إصلاح هذه المحاكم أصبح ضرورة ملحّة، سواء لجهة تكوين هيئتها من ممثل عن أصحاب العمل وممثّل عن العمّال يتم تعيينهما من قبل السلطة التنفيذية، أو لجهة أصول المحاكمات أمامها ودور مفوّض الحكومة.
يؤكد الديراني على ضرورة تعديل قانون العمل (الذي أنشأ مجلس العمل التحكيمي في المادّة 77 منه) وتحويله إلى قانون حديث لا يُقصي أي فئة اجتماعية كحالة القانون الحالي الذي يقصي بعض الفئات العمّالية مثل عاملات المنازل، إضافة إلى أنّه قانون يُميّز ضدّ النساء. كما يرى أنّه “يجب أن يشمل التعديل تحوّلًا في آلية التقاضي أمام مجلس العمل التحكيمي، بحيث يُصبح إلزاميًا تأهيل أعضاء هيئة المجلس وتدريبهم على القوانين التي ترعى أوضاع العمّال، وفك ارتباطه بوزارة العمل”، إضافة إلى وضع أصول لمحاكمات العمل تخضع لأصول العجلة “على خلاف الواقع اليوم حيث تخضع محاكم العمل لأصول المحاكمات المدنية التي تتعارض مع هدف إنشائه”. وعن مفوّضي الحكومة، يُشكك الديراني في أهمية الدور الذي يؤدّونه بخاصّة وأنّ “هؤلاء يتبعون لسلطة وزارة العمل وينفّذون تعليماتها، لذا فمن الضروري إعادة النظر في دور مفوّض الحكومة وأن يكون تابعًا للقضاء وليس للوزارة”.
يُشدد عبدالله أيضًا على ضرورة تعديل نظام مجلس العمل التحكيمي على أن يُصبح من ضمن قضاء العجلة لضمان انتهاء الملفات بوتيرة عاجلة. ويلفت النقابي سليمان حمدان إلى أنّ أي “تشريع قانوني جديد لنظام محاكم العمل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار فك الروابط مع وزارة العمل وحصر النظر بملفات العمل بالمحكمة وحدها، كون جهاز التفتيش الخاص بوزارة العمل مشكوك في نزاهته نظرًا إلى نوعية التقارير التي تصدر عن مفتشيه والتي غالبًا ما تكون لمصلحة أصحاب العمل”.
ومن جهته، يلفت الأسمر إلى أنّ أحد أهداف الاتحاد العمّالي العام المستقبلية هو إعداد مشروع قانون جديد للعمل، ويشرح أنّ “الاتحاد عقد اجتماعات قبل عامين بقيادة منظمة العمل الدولية وبالشراكة مع وزارة العمل وبحضور الهيئات الاقتصادية بهدف الخروج بصياغة جديدة لقانون العمل، لكنّ وجهات النظر كانت متباعدة فلم تصل هذه الاجتماعات إلى صيغة نهائية”. ويأمل الأسمر أن “تتمكّن هذه الأطراف من الخروج بصيغة عصرية وحديثة لقانون العمل من خلال الموازنة في العلاقة بين الاتحاد وأصحاب العمل، وذلك مثلما حصل في الاجتماعات التي أدّت إلى إنجاز قانون التقاعد الاجتماعي”، والتي يرى الأسمر أنّها أتت بنتيجة جيدة.
وفيما العديد من الجهات النقابية لا تأخذ تصوّرات الاتحاد العمّالي العام على محمل الجد، معتبرة أنّه لا يبذل جهدًا وافيًا لصالح قضايا العمّال، ينتقد كاسترو عبدالله طريقة تعيين ممثلي العمّال في مجلس العمل التحكيمي، الّذين يُعيّنون بناء على الأسماء التي يقترحها الاتحاد ليصدر مرسوم تعيينهم بعد توقيع وزير العمل، فتخضع التعيينات لإرادة الأحزاب السياسية. ويلفت عبدالله إلى أنّ أعضاء هيئة المجلس التحكيمي، (ممثل العمّال أو أصحاب العمل) منهم من مرّ على تعيينه عشرات السنوات حتّى باتت عضويّته في هيئة المجلس مصدرًا للرزق بشكل يُخالف جوهرية وجود هذا المجلس لحماية حقوق العمّال”، مشددًا على ضرورة إعادة تشكيل الهيئات بشكل دوري.
وفي الاتجاه نفسه ينتقد الديراني طريقة تعيين ممثلي العمّال في المحاكم مشددًا على أنّهم “لا يخضعون لتدريبات ومنهم من لم يقرأ قانون العمل قبل تعيينه”. ويُشكك الديراني في إرادة الاتحاد العمّالي العام في إمكانية إيجاد حلول للعمّال لافتًا إلى “آخر ما أنجزه كان رفع الحد الأدنى للأجور لـ 18 مليون ليرة (أي 200 دولار)، وهو مبلغ لا يترجم الحاجة الفعلية للعمّال”.
ويعلّق حمدان أيضًا على الدور الذي يؤدّيه الاتحاد العمّالي العام مشيرًا إلى أنّه “لا يقوم بدوره لحماية حقوق العمّال بخاصّة في هذا الوضع المذري الذي وصلت إليه البلاد، عدا عن أنّه يُعيّن ممثلين عن العمّال لا يتمتعون بالخبرة المطلوبة لحلّ هذه القضايا”. ويُشدد على أنّ التوقعات من الاتحاد العمالي ليست إيجابية نظرًا إلى سيطرة الأحزاب السياسية عليه وعدم جواز اعتباره الأكثر تمثيلًا للعمّال في لبنان.
تمّ تحديث هذه المقالة في 18 نيسان 2024 بعد الحصول على إحصائيات جديدة حول أعداد الدعاوى في مجلس العمل التحكيمي في بيروت.
نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل الملف بصيغة PDF