تتحضّر كانتينا للمشاركة في مسيرة مخصّصة لعيد العمّال، تنهمك في إعداد لافتات تختصر بعضًا من معاناتها ومعاناة زميلاتها. تعرف كانتينا جيدًا، وهي العاملة المهاجرة من سريلانكا إلى لبنان قبل 15 عامًا، أنّ غالبيّة زميلاتها لن يشاركن في المسيرة، ولن يشاهدن حتّى خبرًا عنها على التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي، فمنهنّ من لا تزال سجينة منزل تُقفل أبوابه عليها، ومنهنّ من تُحرم من التواصل مع العالم حتى عبر شاشة هاتف، ومنهنّ أيضًا من “هربت” من نظام الكفالة لتصبح “غير شرعية” فتختبئ في منزل تشبهه إحداهنّ بـ “قفص الحيوانات”، وجميعهنّ لا يشملهن قانون العمل وطبعًا عيد العمال، إلّا بالاسم: “عاملات مهاجرات”.
15 عامًا بدأتها عاملة في منزل قبل أن تتحوّل إلى ناشطة تدعم العاملات المهاجرات وبشكل خاص بنات بلدها سيريلانكا، 15 عامًا وثّقت خلالها آلاف الانتهاكات في حقّهن، انتهاكات تتعلّق بساعات عمل طويلة والحرمان من الراحة والتعرّض للعنف بأشكاله وعدم دفع رواتبهنّ، وأيضًا بانتهاكات أخرى تسمّيها كانتينا “غير مرئية” تتعلّق بخصوصيتهنّ، باحتياجاتهنّ النفسيّة المنسيّة، بقيمهنّ ومعتقداتهنّ أيضًا. بحقّهن، مثلًا، في أن يعلّقن صورة أولادهنّ فوق أسرتهنّ: “مُنعت من وضع صورة ابنتي فوق سريري” تقول إحدى العاملات لـ “المفكرة القانونية”، أو أن يتركن شعرهنّ طويلًا إذا أردن ذلك “أجبروني على قصّ شعري، وفي سريلانكا الشعر يعني لنا الكثير” تقول عاملة أخرى.
عشية عيد العمّال ولدى سؤالها عن أحوال العاملات اليوم، تجيب كانتينا: “لا شيء تغيّر، الوضع لم يتحسّن، والانتهاكات مستمرّة”. الأمر نفسه تُعبّر عنه أيضًا الجمعيات المعنيّة بأوضاع العاملات “إذ لا يمكن الحديث عن تحسّن حقيقي طالما لا يزال نظام الكفالة قائمًا، وطالما لا تزال العاملات خارج قانون العمل”، بحسب غنى عنداري من قسم مناهضة الإتجار بالبشر في منظّمة “كفى”. في المقابل تشير زينة مزهر، منسقة العمالة المهاجرة في منظمة العمل الدولية، إلى مبادرات يمكن اعتبارها إيجابيّة، مع الإشارة إلى أنّه طالما لا توجد دراسات وأرقام جديدة، وطالما لا يوجد جوّ عام للتشريع لحماية العاملات يجب أن نطرح علامات استفهام حول تحسّن أوضاعهنّ.
لن نملّ من رواية قصصنا
“قصصنا باتت معروفة، تُكرّر على لسان آلاف العاملات والناشطات، حرمان من الطعام، من الراحة، من الإجازة، عدم دفع الرواتب، وساعات عمل طويلة، قصص متشابهة نسمعها وتسمعونها يوميًا، أمّا تفاصيل كلّ قصّة فلا توجع إلّا صاحبتها”، تقول ميزيرت، وهي عاملة إثيوبيّة أتت إلى لبنان قبل 10 سنوات.
تقف ميزيرت مع زميلاتها أمام إحدى كنائس بدارو، يتبادلن أطراف الحديث حينًا ويلتقطن الصور حينًا آخر، تُشير إلى لباسها الأبيض وزينتها المخصّصة للاحتفال بأحد الشعانين، وتقول “أنا محظوظة، كيف لا؟ وأنا أستطيع أن أحتفل بالعيد، أن ألبس ما أريد، أن أخرج في يوم إجازتي، أو أن يكون لدي إجازة أصلًا”. تعبّر ميزيرت في حديثها مع “المفكرة” عن فرحة لا يعكّرها إلّا معرفتها بأنّ “الآلاف من زميلاتها العاملات المهاجرات لا يستطعن مشاهدة الشارع إلّا من نافذة يسرقن النظر عبرها، أو عبر شرفات صغيرة ينمن فيها، تمامًا كما كان حالها قبل سنوات قبل أن تقرّر ترك منزل كفيلها”.
شعور ميزيرت بأنّها محظوظة يعود أيضًا إلى كونها عملت بداية في منزل يؤمّن لها الطعام ويدفع راتبها بشكل منتظم “أن تحصلي على الطعام متى شعرتي بالجوع وأن تتقاضي راتبك هو حظّ أيضًا، وربما قصّة جميلة عن وضع العاملات في لبنان، ولكنّ التفاصيل ليست كذلك”. تتغيّر نبرة صوتها وتصبح أكثر حدّية وهي تضيف بغضب: “لم تسألني يومًا صاحبة المنزل إن كنت أشعر بالبرد وأنا أنام على شرفة صغيرة مغلقة، لم تسألني يومًا إن كنت أشعر بالحرّ في تلك الشرفة التي تخزّن حرارة الشمس طوال النهار صيفًا، لم تسألني إن كنت منزعجة من رائحة السجائر التي تملأ الشرفة حيث يجلس أصحاب المنزل ويدخنون نهارًا لأعود وأنام أنا داخلها ليلًا، وأنا طبعًا في نظرهم لا أمرض وإن مرضت فالبنادول علاجي دائمًا”.
ماري، وهي عاملة إثيوبيّة أتت مؤخّرا إلى لبنان كانت أيضًا تتقاضى راتبها بشكل منتظم، ولكنّ صاحب العمل كان يُحدّد لها كميّة المياه والطعام التي يُسمح لها أن تتناولها يوميًا، وهذا ما اعتادت عليه وتقبّلته. “كنت راضية، وتأقلمت مع فكرة تحديد الكميّة المسموحة لي من الطعام والمياه، ولكنّني تعرّضت للتحرّش من صديق صاحب العمل وكان يتردّد على المنزل دائمًا، كان يلمس جسدي وكأنّ الأمر طبيعي، كأنّه يعتبر أنّني كعاملة مُتاحة، طبعًا لم أخبر كفيلي، أعرف بأنّه لن يصدّقني، فأنا عاملة منزلية والمتحرّش صديقه، تواصلت مع المكتب وطلبت أن أغيّر المنزل، لم أخبر المكتب بموضوع التحرّش فهو قد لا يكون سببًا كافيًا لتغيير المنزل ولن يصدقني أصلًا، بعد ستة أشهر نقلني المكتب إلى منزل آخر بعد إصراري على عدم العمل”.
قرب الكنيسة نفسها أيضًا التقينا بعاملة إثيوبيّة لم تشعر بالراحة في الإفصاح عن اسمها، ولكنّها أخبرتنا بأنّها خلال تواجدها في لبنان منذ سنوات طويلة تعرّضت لأنواع مختلفة من انتهاكات تلخّصها بداية بجملة واحدة “تعرفون هذه الانتهاكات، وربما تعتقدون بأنّنا متفقين على تفاصيلها”، لتعود وتخبرنا بأنّها إذا ما جمعت الأموال التي لم تتقاضاها مقابل عملها وبشكل متقطّع لاحتسبت أكثر من عام، مضيفة: “حُرمت من الطعام، تعرّضت للضرب، نمت في أماكن لا يمكن أن ينام فيها إنسان، حتى انتهى بي المطاف بلا أوراق”.
تُخبرنا هذه العاملة بأنّها ساعدت وتُساعد زميلاتها لترك منازل يتعرّضن فيها لانتهاكات، وتقول “أعرف أنّني أعرّضهن للملاحقة، وأعرف أنّ وضعنا بلا أوراق يعرّضنا للكثير من المشاكل، ولكنّني أعرف أكثر ماذا يعني أن نكون خلف أبواب موصدة تحت نظام الكفالة”.
حين جاءت ميزيرت وماري والعاملة التي رفضت الإفصاح عن اسمها، إلى لبنان، كانت لديهنّ أحلام كثيرة، واعتقدن أنّهنّ في لبنان سيحققنها حتمًا، تمامًا كما هيلين التي تقول لـ “المفكرة”: “كنّا نرى العاملات العائدات من لبنان وهنّ قادرات على شراء ملابس جديدة، وسيّارة وهاتف، كنّا نرى الجانب الإيجابي، العاملات العائدات لا يتكلّمن عن الجانب المظلم، يخفن على مشاعر عائلاتهنّ وأزواجهنّ وأولادهنّ، أو ربما يردن طيّ صفحة الماضي”.
كانت هيلين التي قابلناها في الاحتفال الذي نظّمته “كفى” بمناسبة يوم العمال، في السابعة عشرة من عمرها وكانت تحلم أن تأتي إلى لبنان حيث ظنّت أنّها ستعمل لسنتين وكانت تتخيّل نفسها خلالها تقطف الأموال منها، ولكنّها فوجئت بأنّ رحلة الحصول على الأموال دونها انتهاكات في حقّها كإنسانة، انتهاكات يصعُب عليها عدّها أو حتى شرحها.
لدى وصولها إلى لبنان اضطرّت هيلين للعمل 16 ساعة يوميًا، إذ كان صاحب العمل يُجبرها على العمل في منزلين، منزله ومنزل والدته، وحين شعرت بأنّها لم تعد تقوى على الأمر بعد عام تقريبًا، تواصلت مع سفارة بلادها وانتقلت للعمل في منزل آخر، ومن ثمّ باتت تنتقل من منزل إلى آخر إلى أن انتهى بها المطاف عاملة ناشطة تدافع عن حقوق زميلاتها.
“تجربتي في المنازل الأخرى لم تكن أفضل، حُرمت من الخروج من المنزل، من حقّي في الحصول على هاتف، من راتب، من حقّي في ساعات راحة، وحتّى من حقّي في الحزن على أحبّائي، حيث توفيت خالتي وهي بمثابة والدتي، ولم يُسمح لي أن أعيش حزني بل كان عليّ أن أعمل وكأنّ شيئًا لم يكن”.
أكثر ما يُزعج هيلين هي النظرة إلى العاملات وكأنّهنّ لا يتعبن ولا يحقّ لهنّ الراحة “كنت أشعر بالضيق عندما أرى صاحبة المنزل تنزعج حين أرتاح، كنت أستيقظ عند السادسة صباحًا وبعدما أن أنهي كلّ واجباتي، كان أفراد العائلة يعودون إلى المنزل من أعمالهم ليرتاحوا، أمّا أنا فعليّ أن أخدمهم، أن أجلب لهم العصير والماء، أن أجعل ساعات راحتهم أفضل، وراحتي غير مدرجة في بالهم، هذا حال الكثير من العاملات حتّى يومنا هذا” تقول.
الأحلام التي تراود العاملات ليست كلّها من صنع خيالهنّ، فمكاتب الاستقدام في بلادهنّ وفي لبنان أيضًا تضلّلهنّ في الكثير من الأحيان، إذا تروي إحدى العاملات من الجنسيّة البنغلادشيّة بأنّها أتت على أساس أنّها ستعمل في معمل خياطة، وبساعات عمل محدّدة “صوّروا لي الأمر كما كنت أتمنى، عاملة خياطة أعمل نهارًا وأرتاح ليلًا، لأجد نفسي في منزل، وواجباتي لا تنتهي، تنظيف واعتناء بمسنّ وبأطفال، حتّى أنّه بعد سنوات كانت صاحبة المنزل تطلب مني أن أخرج للعمل في منازل أخرى كي تُجدّد لي إقامتي على حسابي الخاص، عملت داخل المنزل وخارجه حتّى تمكّنت من الانتقال إلى منزل آخر كانت حالي داخله أفضل”.
عاملة أخرى أخبرتنا قصّتها التي بدأت بعمل براتب 45 دولارًا وصولًا إلى راتب 400 دولار، وما بينهما من تعنيف وحرمان من الطعام وليال باتت خلالها مرّة في ممرّ المنزل ومرّات في المطبخ. “عشت بعض الأيّام الجميلة والكثير من الأيام المرّة، ولكن ما يعزّ عليّ اليوم هو أنّ هذه الأيام كانت عمري، أتيت من سريلانكا ابنة 20 عامًا اليوم بلغت 54، حصلت مؤخرًا، وبعد تعب سنوات ونضال على راتب جيّد وعلى معاملة كنت أحلم فيها، ولكنّني لم أعد شابة لديها الأحلام التي أتيت من أجلها، لم يعد بإمكاني إنجاب طفل، أتيت لأجله قبل 34 عامًا”.
كما هذه العاملة، تتحدّث العاملات اللواتي قابلناهنّ عمّا يسمّينها انتهاكات “غير مرئيّة” هي تفاصيل نمرّ عليها مرور الكرام أو لا نذكرها من الأساس لدى تعداد الانتهاكات، ولا تُذكر إلّا في جلسات خاصّة بينهنّ أو في سرّهنّ حين يخلدن للنوم. تفاصيل من الصعب أن تُدرج في أي عقد عمل، وهي برأيهنّ لا تُرى لأنّ نظام الكفالة يعطي صاحب العمل سلطة مطلقة عليهنّ فيصبحن ملكًا له. تفاصيل تبدأ من قرار قصّ الشعر “كيف يقصّوا لي شعري من دون موافقتي، من أعطاهم الحق على شعري” تقول إحدى العاملات من الجنسية السيرلانكية. تفاصيل تتعلّق بملابسهنّ التي رتّبنها بعناية قبل وصولهنّ إلى لبنان واستدنّ ثمنها “رمت كلّ ملابسي حين وصلت، فهمت من الإشارات وتعابير وجهها أنّها تشعر بالقرف من ملابسي” تقول إحدى العاملات من الجنسية البنغلادشيّة. عن خصوصيتهنّ المستباحة “كانت تفتح عليّ باب الحمّام لتتأكّد أنّني أنظف جسمي جيدًا، حتى لا أنقل الأمراض لأطفالها الذين تعتني بكلّ تفاصيلهم” تقول إحدى العاملات. عن رغبتهنّ في ارتداء فستان “ولو ليلًا داخل غرفة لم أحصل عليها يومًا” عن حقّهن بالشوق إلى أبنائهنّ “منعت أن أضع صورة ابنتي فوق سريري”.
هذه التفاصيل كلّها جُمعت في قصّة كانشا العاملة من الجنسيّة السيرلانكيّة، التي أرادت من رواية قصّتها في احتفال منظمة “كفى” أن تقول للعاملات إنّ معاناتهنّ ستنتهي يومًا، ويجب ألّا يتوقفن عن إخبار قصصهنّ.
تحدّثت كانشا عن شعورها لحظة أخذوا جواز سفرها منها لدى وصولها إلى المطار، عن رمي ملابسها فور وصولها إلى المنزل مشيرة إلى أنّها استدانت ثمن الملابس لتبدو بصورة جميلة. تحدّثت عن ألبوم صور ابنتها الذي أخذته منها صاحبة العمل قائلة لها إنّه لا يُسمح لها أن تتصفّحه. تحدّثت عن ضربها في أوّل يوم وصلت فيه، وعن قصّ شعرها من دون سؤالها. لكن أكثر ما يؤلمها أنّ صاحبة العمل أخبرتها بأنّها لن تعطيها راتبها شهريًا بل ستجمعه لها لتعطيها إياه بعد انتهاء العقد. “جئت إلى لبنان لأنّ ابنتي مريضة، تحتاج إلى علاج، أتيت لأرسل لها المال من لبنان شهريًا، وها أنا لن أتقاضى هذا المال” تقول.
روت كانشا رحلة هروب عبر القفز من شرفة في الطابق الثاني، تحدّثت عن طعام حُرمت منه لتأكل من فضلات طعام معدّة للرمي، عن ظروف صعبة ولكنّها ختمت حديثها قائلة “أنا اليوم في عائلة أجلس معهم على الطاولة نفسها، انتهت معاناتي”.
من احتفال كفى ومعرض الصور الذي أقامته العاملات
هل واقعهنّ أفضل اليوم
تحمل بعض القصص التي سمعناها إشارات عن تحسّن في الأوضاع ولكنّها قد تكون فرديّة، إذ لا توجد حاليًا دراسات أو أرقام جديدة تخوّلنا أن نُحدّد إن كان واقع العاملات المهاجرات في لبنان يسير نحو التحسّن أو لا، ولكنّ معظم الجمعيات المعنيّة التي تواصلنا معها كما العاملات، تُشدّد على أنّه لا يمكن الحديث عن تحسّن حقيقي طالما لم يُنظر إلى العمل المنزلي كعمل، وطالما هذا العمل لا يزال مستثنىً من قانون العمل، وطالما نظام الكفالة الذي يُعطي سلطة مطلقة لصاحب العمل على العاملة لا يزال مطبّقًا حسب ما ترى غنى العنداري من قسم مناهضة الإتجار في منظمة “كفى”. وتشير عنداري إلى أنّ الانتهاكات لا تزال موجودة بدءًا من عدم دفع الرواتب، إلى ساعات العمل الطويلة، إلى ظروف العمل السيئة إلى السكن غير اللائق، إلى العنف بأشكاله.
وتُشير عنداري في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ ما شهدناه في موضوع العاملات المهاجرات هو تغيّر في الأعداد التي تراجعت لفترة وحاليًا تعود إلى الارتفاع، وتغيرًا في الجنسيّات وفي عقد اتفاقيّة بين لبنان وإثيوبيا ودخول لبنانيات وسوريات على خط العمل المنزلي، مذكرة بأنّه، وإن كان لا يشملهنّ (السوريات واللبنانيات) نظام الكفالة لكنهنّ مستثنيات من قانون العمل ما يعرضهنّ بدورهنّ لانتهاكات وحرمان من حقوقهنّ.
وقد بلغ عدد العاملات المقيمات بطريقة شرعية (الجدد والسابقات) في لبنان في العام الماضي حوالي 73778، في ارتفاع عن العام 2022 حين بلغ العدد حوالي 64563 عاملة، في حين كان عددهنّ قبل الأزمة وتحديدًا في العام 2018 يفوق 217516 عاملة بأوراق نظامية. وهذا الأمر يعني أنّ عدد العاملات اللواتي يعملن بصورة نظامية في لبنان قد انخفض بفعل الأزمة إلى ثلث ما كان عليه في 2018.
عاملة التقطت صورة ليدها تحمل آثار عنف قديمة خلال عملها في منزل أحد كفلائها (من احتفال “كفى)
وفي موضوع التغيّر في جنسية العاملات النظاميات التي تُشير إليه “كفى” بيّنت أرقام حصلت عليها “المفكرة” من وزارة العمل اتجاهًا نحو استقدام جنسيات من دول أكثر فقرًا وقابليّة للاستغلال، إذ إنّ عدد العاملات النظاميات من التابعية الأثيوبية انخفض بوتيرة أسرع ليصل إلى قرابة 23% مما كان عليه في تلك السنة. في المقابل، انفتح سوق العمل في الخدمة المنزلية على دول أفريقية أخرى مثل كينيا وسيراليون وبنين وكاميرون وغانا وغينيا وغيرها. وهذا الأمر إنّما يؤشر إلى مسعى لتخفيض الرواتب الشهرية مع مضاعفة مخاطر الاستغلال.
وتُشير منسقة العمالة المهاجرة في منظمة العمل الدولية زينة مزهر إلى أنّ هناك مبادرات يمكن اعتبارها إيجابيّة ولكن طالما لا يوجد جوّ عام للتشريع لحماية العمّال والعاملات الأجانب، يجب أن نطرح علامات استفهام حول تحسّن أوضاعهنّ. وتذكّر مزهر في اتصال مع “المفكرة” من هذه المبادرات إجراءات وزارة العمل التي باتت أكثر تشدّدًا بالنسبة للمكاتب غير المرخّصة أو حين تصل الوزارة شكاوى عنها، مشيرة إلى أنّ وزارة العمل قامت بإغلاق أو وضع مكاتب على اللائحة السوداء فلم تجدّد لها. وتعتبر مزهر أنّ هذه الخطوة مهمّة لأنّ مكاتب الاستقدام لطالما كانت في صلب الحل أو المشكل، فلا يمكن تحسين وضع العاملات من دون التزام المكاتب بمبادئ التوظيف العادل والعمل اللائق.
وفي الإطار نفسه، يوضح رئيس نقابة أصحاب مكاتب استقدام العاملات في الخدمة المنزلية جوزيف صليبا أنّ ما تقوم به الوزارة والأمن العام من التحقّق من أهلية الشخص المستقدِم والذي على أساسه تحصل المكاتب على سمة دخول العاملات ساهم في تحسين الوضع، وكذلك إلغاء الرخص ووضع نقاط سوداء على المكاتب، ونشر هذه القرارات على صفحة وزارة العمل بحسب قرار تنظيم عمل المكاتب 41/1 والذي يحدد المخالفات وما يترتّب عليها. ويشير في اتصال مع “المفكرة” إلى أنّ عدد المكاتب المرخّصة حاليًا هو 540، وأنّ وزارة العمل أقفلت وسحبت رخص 50 مؤسسة منذ العام 2019 حتى اليوم.
ويوضح صليبا أنّ نقابة أصحاب المكاتب أنشأت لجنة “متابعة المكاتب ومحاربة الفساد والاستقصاء” وتراقب المكاتب وتبلغ وزارة العمل عبر كتب عن أي انتهاكات تحصل من قبل المكاتب كاقتطاع الراتب، أو تعامل المكاتب مع سماسرة عبر ختم موافقات مسبقة مقابل مبلغ مالي. ويضيف صليبا أنّ النقابة توثّق هذه الانتهاكات وتتوجّه إلى وزارة العمل التي تتحرّك سريعًا.
ويعتبر صليبا أنّ الانتهاكات التي تحصل داخل المنازل تراجعت وذلك بسبب التوعية واتخاذ تدابير من الجهات المعنيّة حيث باتت الأسر تعرف أنّ العاملة ليست متروكة وأنّ الانتهاك يعرّض صاحب العمل للملاحقة، من دون أن ينكر استمرار حصول بعض الانتهاكات.
ومن الإجراءات التي اتّخذت مؤخرًا، تُشير مزهر إلى إصدار وزارة العمل قبل أيام قرارًا يطلب فيه من دائرة مراقبة عمل الأجانب وحماية العمال السوريين ودوائر العمل الإقليميّة “عدم قبول أي عقد عمل لعاملة في الخدمة المنزلية لا يتضمن الأجر الواقعي، على ألّا يقلّ الأجر الشهري للعاملة المذكور في العقد عن 150 دولارًا أو ما يعادلها بالليرة اللبنانية”. وفي حين تُشير مزهر إلى أنّ هذا الراتب لا يزال أقل من الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص المقدّر بـ 200 دولار، تعتبر أنّ القرار يبقى إيجابيًّا ولاسيّما أنّ بعض كتّاب العدل كانوا يصرّون على أن يكون الراتب المحدّد في العقد 200 ألف ليرة على اعتبار أنّ هذه القيمة المعترف فيها، مع العلم، وحسب مزهر، أنّ هذا ليس دقيقًا فلا وزارة العمل ولا الأمن العام يمنعان أن يُحدّد الراتب بأكثر من القيمة المعترف بها.
صحيح أنّه على الرغم من أنّ العاملات اللواتي وُقّعت عقودهنّ على أساس القيمة المعترف بها أي 200 ألف ليرة كانت رواتبهنّ لا تقلّ عن 150 دولار عمليًا، إلّا أنّ هذه العقود يتمّ استغلالها بشكل واضح من قبل أصحاب العمل، كما تؤكّد رئيسة الوحدة القانونية في الاتحاد الوطني لنقابات العمال المحامية فرح عبدالله. وتُشير في اتصال مع “المفكرة” إلى أنّه غالبًا ما لعب تحديد المبلغ المعترف فيه، أي 200 ألف ليرة، دورًا لصالح صاحب العمل عند وصول النزاع إلى وزارة العمل وتحديدًا في القضايا المتعلّقة بعدم تقاضي العاملة راتبها لفترات، إذ يعتمد صاحب العمل على العقد فيبدو كأنّه أعطاها رواتبها بل أكثر.
كما الجمعيات والمؤسسات المعنية، ترى عاملات مهاجرات ناشطات أنّه لا يمكن الحديث عن تحسّن الأوضاع، وتقول ميسّي وهي مؤسّس شريك في جمعية “إنيا لنيا” Egna Legna التي تناصر العاملات المهاجرات إنّها، من خلال عملها على الأرض، ومنذ العام 2017، تصل إلى الجمعيّة الشكاوى والمراجعات بالوتيرة نفسها مع ارتفاع مع الأزمات (الانهيار الاقتصادي وكورونا). وتشير في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ الشكاوى التي تتعلّق بالعاملات ضمن عقود عمل هي ذاتها تتكرّر وهي عبارة عن العنف على أنواعه والحرمان من الطعام وعدم دفع الراتب الشهري والحبس داخل المنزل وإقفال الأبواب عليهنّ وأخذ هواتفهنّ منهنّ. وتُشير ميسّي إلى أنّ الجمعية ساعدت منذ العام 2019 إلى اليوم حوالي 15 ألف عاملة وأنّه لا يمرّ يوم منذ ذلك الحين إلى اليوم إلّا وتأتي إلى الجمعية على الأقل 5 مراجعات.
عاملات مهاجرات من الجالية الإثيوبيّة يحتفلن بأحد الشعانين
العاملات خارج عقود العمل
لا تتوفّر حاليًا أرقام رسمية لعدد العاملات المهاجرات اللواتي يعملن خارج عقود العمل وعدد غير النظاميات منهنّ، ولكن من المتوقّع أنّ يكون عددهنّ في ارتفاع بعد العام 2019 وذلك لأنّ عددًا كبيرًا من أصحاب العمل تخلّوا عن العاملات بعدما أصبحوا غير قادرين على دفع راتبها فضلًا عن ترك الكثيرات منهنّ بيوت أصحاب عملهنّ نتيجة عدم تقاضي رواتبهنّ أو انتهاكات أخرى.
وتعتبر مزهر أنّ العمل بدوام جزئي وعدم المنامة في منزل أصحاب العمل هما مطالب للعاملات ولأصحاب العمل، إنّما الإشكالية تكمن في المقاربة الرسمية للعمل المنزلي خارج حماية قانون العمل وارتباطه بنظام الكفالة. من هنا مع انهيار الوضع الاقتصادي بدأ سوق العمل بإعادة تنظيم نفسه استجابة للحاجة الفعلية، ووجدنا اتساعًا للعمل الجزئي.
وترى مزهر أنّ السوق لا يزال في حال فوضى ويحتاج إلى تنظيم مع تغيير السياسات المتبعة تجاه العمل المنزلي مع مراعاة الاعتراف به كعمل ووضعه في إطار رعائي يُساهم في إزالة الوصمة عنه، وعن طريق عقود جديدة تنطلق من مقاربة مختلفة تلبّي حاجة أصحاب العمل وتضمن حقوق العاملة.
وتُشير مزهر إلى أنّ الخطورة في الوضع حاليًا هو أنّ العاملات خارج العقود بتن يعملن من دون علاقة تعاقدية ومن دون استقرار بالمدخول هذا فضلًا عن غياب الحماية القانونية ما يجعلهنّ أكثر عرضة للاستغلال. وتُشير مزهر إلى أنّه بطبيعة الحال تكون العاملات المهاجرات أكثر تأثرًا بأي أزمة اقتصادية أو سياسية أو أمنية.
وفي هذا الإطار، ترى عنداري أنّه لطالما كان هناك عاملات غير نظاميات أو خارج بيوت أصحاب العمل، وبشكل غير قانوني ومن دون أوراق ثبوتية، ولكن الوضع الاقتصادي كان أفضل فكنّ يحصلن على دعم ومساندة من زميلاتهنّ ولاسيّما ضمن الجالية نفسها، أما بعد الأزمة فبات الوضع صعبًا “فبتنا نرى اكتظاظًا بالسكن وتهديدات بالإخلاء وصعوبة إيجاد عمل فضلًا عن حالات استغلال جنسي بشكل أكبر”.
هذا الوضع أيضًا تتحدّث عنه كانتينا التي تحدثنا عنها في بداية هذا التحقيق، فتخبر أنّ وضع العاملات خارج العقود سيئ إذ إنّ قيمة بدل الساعة تراجع من 5 دولارات إلى 3 في وقت ارتفعت فيه أسعار السلع والخدمات الأساسيّة هذا فضلًا عن صعوبة الحصول على طبابة ولاسيّما في حال الحاجة إلى عمليات جراحية.
ولعلّ المشكلة الأكبر، حسب كانتينا، تكمن في تأمين السكن إذ تضطر العاملات إلى السكن في منازل تفتقر إلى الحد الأدنى من السلامة وبأعداد كبيرة كما تتعرضنّ لمضايقات وتهديدات بالإخلاء بسبب عدم قدرتهنّ على دفع الإيجار، فضلًا عن الاستغلال ولاسيّما من لا يملكن أوراقًا قانونيّة.
وتُشير كانتينا إلى اضطرار العاملات للسكن في مناطق تشهد الكثير من التوترات وداخل بيوت غير لائقة، وفي مناطق غير آمنة وذلك مقابل مبالغ مالية كبيرة. “عم يطلبوا 200 دولار مقابل غرفة، تشبه قفصًا للحيوانات، ونحن نضطّر للقبول، لا خيارات أمامنا” تقول.
يقودنا الحديث عن العاملات خارج المنازل إلى موضوع تسوية أوضاعهنّ، وفي هذا الإطار تشرح فرح عبدالله أنّ تسوية أوضاعهنّ ترتبط بموافقة كفيل إلّا في حال كانت التسوية بهدف تسفيرهنّ وذلك يعرضهنّ للاستغلال من عدد من الكفلاء الذين يطلبون مبالغ تصل إلى 3 آلاف دولار للتنازل عن كفالتهنّ.
وفي هذا الإطار يوضح مصدر في الأمن العام لـ “المفكرة” أنّه يمكن للعاملات تسوية أوضاعهنّ منذ فترة كورونا من دون كفيل ضمن ترحيل طوعي إلّا في حال وجود مانع جرمي أو قضائي. فإذا كان الموضوع مقتصرًا على ترك منزل صاحب العمل، تُسفّر العاملة من دون الحاجة إلى كفيلها بعدما تدفع الغرامات والتي هي 300 ألف ليرة عن كل سنة، ويتّخذ في حقّها قرار منع دخول إلى البلد. ويُشار إلى أنّ قيمة الإقامة حاليًا ارتفعت إلى 13 مليون ليرة لدى الأمن العام فيما حُددت إجازة العمل في وزارة العمل بـ 6 ملايين ليرة.
بالإضافة إلى كون هذا الإجراء يشترط السفر ويمنع العاملة من العودة إلى لبنان مجددًا، إلّا أنّه أيضًا قد يعرضهنّ للسجن، إذ تروي ميسي أنّ هناك الكثير من الحالات التي يدّعي فيها الكفيل بأنّ العاملة قد سرقته وذلك بهدف الانتقام منها، وبالتالي تُحبس بدلًا من أن تُسافر. وهذا ما يمنع الكثير من العاملات من تسوية أوضاعهنّ.
العاملات جنوب لبنان
قبل حوالي 28 عامًا وتحديدًا في العام 1996 وصلت ماري من بنغلادش إلى لبنان. حينها كانت تعرف أنّ هناك حربًا دائرة فيه، لذلك أخبرها مكتب الاستقدام أنّ لبنان محطّة لتنتقل بعدها إلى بلد آخر. “كنت خائفة وأخبرتهم بأنني لا أريد الذهاب إلى لبنان، قالوا لي أنّني ذاهبة إلى بلد قريب منه، ولكن يجب أن أنزل إلى المطار لأنتقل إلى طائرة أخرى” تقول.
طبعًا بقيت ماري في لبنان، حيث عاشت الخوف والرعب، خلافًا لرغبتها، ولم تكن تعرف في أيّ منطقة تسكن، ولم تكن تفهم اللغة، ولكنّها كانت تشاهد المجازر الإسرائيليّة على التلفاز وتشعر بعدم الراحة.
تمامًا كما ماري، فاليوم قد يكون هناك عاملات مهاجرات يشعرن بالخوف من الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرة جنوبًا، ولا يملكن خيارًا غير البقاء، وإن لم تُبلّغ الجمعيّات حتّى اليوم بأيّ حالة تحتاج للمساعدة.
وفي هذا الإطار تقول المحامية فرح عبدالله إنّ التواصل صعب جدًا مع العاملات في الجنوب حاليًا، وإنّ الاتحاد ليس لديه معلومات دقيقة عن وضع العاملات جنوبًا، مشيرة إلى أنّ عددًا من السفارات مثل سفارة بنغلادش وزعت لرعاياها معلومات وإجراءات يجب اتباعها في حال تطوّر الوضع.
ولفتت عبدالله إلى أنّ الاتحاد أمّن عددًا من المنازل عن طريق أوساط العاملات لاستقبالهنّ في حال تطوّر الوضع.
من جهتها تُشير عنداري إلى أنّه حتى اللحظة لم تصل “كفى” شكاوى من عاملات جنوبًا، معتبرة أنّ سبب ذلك يعود إلى أنّ العاملات خارج البيوت أكثرهنّ في بيروت وجبل لبنان، ومن هنّ داخل المنازل إمّا نزحن مع العائلات التي يعملنّ في منازلها أو أنّهن لا يستطعن التواصل. وتشير إلى أنّ عددًا من السفارات أعلن إمكانيّة السفر الطوعي لمن ترغب من العاملات بسبب الحرب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.