“صورنا العائلية، كيس من الأشلاء، كومة من الرماد، خمسة أكفان ملفوفة بجانب بعضها متفاوتة الحجم.
الصور العائلية في غزة مختلفة لكنهم معًا كانوا معًا ورحلوا معًا”، الشاعرة الفلسطينية هبة أبو ندى التي استشهدت في العدوان الإسرائيلي على غزة.
“صرنا نتمنى نموت كلّنا سوا كعائلة، ما يضلّ حدا منّا لحاله”، هكذا أضحت أحلام معظم الغزاويين الذين يواجهون وحشية العدوان الإسرائيلي عليهم والذي أدى حتى كتابة هذه السطور إلى مقتل 6546 منهم. ومع استمرار المجازر في غزة التي تصل إلى 23 كل 48 ساعة، ولدت مصطلحات جديدة مثل “مجازر العائلة” أو “الأطفال الذين لم يبق أحد من عائلتهم على قيد الحياة”. وفاق عدد مجازر العائلات 688 مجزرة راح ضحيّتها 4807 شهداء ولا يزال ضعف العدد تحت الأنقاض، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية. وقد فقدت 149 عائلة أكثر من 10 من أفرادها فيما مسحت عائلات بالكامل من السجلّ المدني بلغ عددها حتى 15 الجاري 55 عائلة.
واستهداف العائلات يبدو جزءًا لا يتجزّأ من العدوان الحالي ومسح عائلات بأكملها من سجلات القيد هو بمثابة محاولة مسح لجزء من الرواية الفلسطينية وذاكرة أصحاب الأرض، تمامًا كالتدمير الممنهج للبيوت ليس فقط في العدوان على غزة اليوم بل في كافة الأراضي المحتلة على مدى سنوات.
وعملية الإبادة الجماعية هذه التي تركتبها إسرائيل في غزة و”حتمية الاستشهاد” بالنسبة لأهاليها، حوّلت حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إلى فضاء لحفظ وصاياهم وسيَرهم الذاتية ونطق شهاداتهم، ومساحة لرمي كلماتهم الأخيرة في وجه العالم المتخاذل. ولكي لا يصبحوا مجرّد أرقام في عدّاد الشهداء، خلّدوا حيواتهم وأحلامهم رسائل صوتية أو مصوّرة أو مكتوبة على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبوا أسماءهم وأسماء أطفالهم على أجسادهم، هم وحتى في خضمّ إحساسهم بالخطر على حياتهم وجدوا طريقتهم في مقاومة المحتل وإعادة تصويب السردية المحوّرة من خلال كتابة قصصهم ليكونوا هم الرواية الحقيقية. وبعد موتهم ظهروا كما أرادوا أن يظهروا، كتبوا لنا ما يجب أن نكتب ونقول عنهم، لم ينتظروا أحدًا كي يروي القصة عنهم.
“المفكرة” واستنادًا إلى الأخبار والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، أحصت 61 عائلة (في الجدول أدناه)، أكثر من نصفها مسحت من السجلات المدنية فيما بعضها استشهدت نواة فيها. كذلك حاولت “المفكرة” جمع بعض ممّا كتبه عدد من شهداء هذه العائلات قبل مقتلهم وبعض مما كُتب عنهم وشيء قليل من قصصهم المروية لتساهم، كما أرادوا قبل استشهادهم، في نشر وصاياهم وقصص من حيواتهم.
عائلات مسحت من سجلات القيد
يومًا بعد يوم تزيد وحشية العدوان ومعها أعداد المجازر، حتى باتت عملية الإحصاء والتدوين صعبة جدًا، هنا بعض من قصص الشهداء.
من أقسى المجازر التي ارتكبها الاحتلال في غزة في العدوان الحالي هي مجزرة عائلة “شهاب” التي راح ضحيّتها أكثر من 44 فردًا، من ضمنهم 26 امرأة، و20 طفلًا أصغرهم الرضيع محمد شهاب الذي لم يتجاوز الـ 40 يومًا. جميعهم قضوا تحت أنقاض طبقات منازلهم في منطقة جباليا. وقضى الصحافي أحمد شهاب وهو يناشد العالم على الهواء مباشرة أن يتحرّك لوقف العدوان وكانت كاميرته صوته وصورته الحقيقة على قتل الأبرياء وعدم إنذارهم. كذلك قضى في المجزرة عبد الرحمن شهاب من مواليد جباليا العام 1968، وهو معتقل سابق أمضى 23 عامًا من حياته في السجون الإسرائيلية وخرج بصفقة تبادل “وفاء الأحرار” عام 2011. واظب وهو داخل المعتقل على تحصيل تعليمه، رغم العراقيل التي مارسها بحقه الاحتلال منها: نقله من سجن إلى آخر ومنع وصول العديد من الكتب إليه، لكنه تمكّن من التخصص في العلوم السياسية ونال الماجستير والدبلوم من جامعة تل أبيب المفتوحة. بعد خروجه من المعتقل أسس مركز أطلس للدراسات والبحوث في العام 2012 ونشر العديد من الدراسات.
ومن بين العائلات التي استهدفها العدوان، عائلة الكاتب والمدوّن، يوسف دوّاس الذي قضى مع 27 فردًا من عائلته، خلال القصف الإسرائيلي على منطقة بيت لاهيا في 14 تشرين الأوّل. في إحدى مقالاته يستبق دوّاس الأحداث قائلًا إنّ “هجوم غزة الأخير نجح في تدمير جزء مهم من ماضينا. تاريخ عائلتنا. تراثنا. لكن من نحن دون ماض أو تاريخ؟” ووردت هذه العبارة في مقالٍ له نشر في تاريخ 14 كانون الثاني العام 2023، بعنوان “من يدفع ثمن العشرين عامًا التي فقدناها”، يتحدث فيه عن المشاعر التي انتابته ووالده على إثر احتراق أرضه جراء القصف الإسرائيلي. وكان دوّاس حينها يحاول طمأنة والده قائلًا إنّ “الأرض ستتعافى ونستطيع العمل بدعم الأمم المتحدة لإعادة زراعة الأشجار التي فقدناها. ‘حتى لو ساعدنا شخص ما في إصلاح الضرر وزرع أشجار جديدة، من سيردّ لي تلك السنوات التي قضيتها في تربيتها ودعم نموها؟’ ردّ عليّ بغضب. من سيدفع ثمن العشرين عامًا التي فقدناها. ساد الصمت المحرج بيننا، وكلانا تأمّل في الطبيعة الرمزية لخسارتنا”. ويوسف كان مدركًا وواعيًا لأهمية “القصة”، فكان ناشطًا في مبادرة “لسنا أرقامًا” وهو مشروع قصصي أطلقه المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في أوائل العام 2015، يوفّر تدريبات مكثفة حول كتابة القصص والمقالات وكيفية التواصل مع الجمهور الغربي، ويهدف إلى توثيق معاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال. استبق يوسف المجزرة، ووثّق تاريخه وتاريخ عائلته التي اندثرت، من خلال مقالاته وتسجيلاته.
القصف أيضًا استهدفعائلة نفار في حي الشيخ رضوان التي قضى منها خمسون شخصًا منهم رضيع في عمر الأربعة شهور. لم تمسح العائلة بكاملها من السجلات، ولكن أن يموت خمسون فردًا منها يعني أنّ أكثر من نواتها قد مسحت من السجلات وإن بقي أحد من أفراد العائلة الكبيرة والممتدة على قيد الحياة. وأي حياة هي التي سيكملها شخص فقد 50 فردًا من عائلته.
تنعي إسلام نفار على مواقع التواصل الاجتماعي أفراد عائلتها وتتمنّى لو أنّها رحلت معهم “يا وجع قلبي يا حبايبي ليش رحتوا وتركتوني لييش…”، تروي في أحد منشوراتها كيف كانت والدتها مشغولة بحفل زفاف ابن شقيقها محمد، وفي منشور آخر تعرض مشاهد انتشال عائلتها من تحت الأنقاض والذي تابعت مجرياته عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
عائلة أبو دقة أيضًا استشهد 22 من أفرادها باستهداف منزلهم في منطقة عبسان شرق خان يونس، ومنهم فيصل حسن أبو دقة، شحادة فيصل أبو دقة، صقر فيصل أبو دقة، خالد شريف أبو دقة. يقول الجد فوزي أبو دقة في مقابلة مع “العربي 21” إنّ من بين الضحايا أطفال رضّع، وإنّ أفراد العائلة تناولوا طعام العشاء وناموا ليفاجئهم الموت وهم نيام. ويضيف أنّ “الاحتلال منع عناصر الإنقاذ من الاستمرار في عملية انتشال الجثامين تحت التهديد بقصف المكان، ليعود بعدها عناصر البلدية لانتشال الجثث بصعوبة”. ويظهر الوالد علي أبو دقة في فيديو على فيسبوك يقلّب صور أطفاله الشهداء “القمار” كما يصفهم والذين سقطوا في المجزرة. ولم ينجُ من أطفال عائلة أبو دقة سوى الطفلة تالا التي تبلغ من العمر 11 عامًا وصدمة ستغيّر حياتها إلى الأبد.
عائلة أبو قوطة قضى منها حوالي 24 فردًا، وقد استهدف سلاح الجو الإسرائيلي منزل العائلة في مدينة رفح، ويقول ابن عمّهم محمد أبو قوطة لصحيفة “العربي الجديد”، إنّ القصف استهدفهم في أولى أيام العدوان، وإنّهم كانوا نيام في منازلهم، ولا دخل للعائلة بأي تنظيم مسلّح، بل هم مدنيون من المفترض أن يكونوا آمنين في منازلهم.
في اليوم الثامن للعدوان أدّى الاستهداف الإسرائيلي لمنازل في أحياء تلّ الهواء، إلى استشهاد حوالي 15 فردًا من عائلة النجار وهم: فهمي محمد النجار، والقاضية فاطمة المخللاتي، المستشار محمد فهمي النجار وهو عضو مجلس إدارة الهيئة الوطنية لتوثيق وملاحقة جرائم الاحتلال، حنين الشوا وأولادها الستة، فراس فهمي النجار وسماح عكيلة وأولادها الأربعة. والقاضية المخللاتي هي قاضية في المحكمة العليا، عملت في سلك المحاماة لمدة 30 عامًا، ثم التحقت بالسلك القضائي وبقيت فيه مدة 12 عامًا. في العام 2019 نظم المجلس الأعلى للقضاء لها حفلًا تكريميًا لبلوغها السن القانونية.
كذلك مسحت عائلة الدكتور عمر الفراونة (1956)، وهو طبيب نسائي وعميد سابق لكلية الطب البشري في الجامعة الإسلامية. قضى الفراونة بعد استهداف الطائرات الإسرائيلية لمنزله في تل الهوى، هو وأولاده وأحفاده، وكانت ابنته الدكتورة آية الفراونة قد ودعت العالم في تسجيل صوتي في 10 تشرين الأول حكت فيه عن شعورها: “في خوف طبعًا، ولكن الدنيا مطّرت قبل شوي والله أنزل السكينة علينا” وختمت بالقول “أنا متأكدة أنّنا لن نعيش بعدها”. وخلال التسجيل يبدو صوت القصف مسموعًا.
قبل أشهر على العدوان كانت الطالبة شيماء أكرم صيدم، التي قضت وأفراد عائلتها جميعًا في غارة على مخيّم النصيرات، تحتفل بتفوّقها كالأولى في الثانوية العامّة على مستوى فلسطين. على فيسبوك صورة لها في ثوب التخرّج تتوسّط والدها ووالدتها وفيديو يوثّق فرحة العائلة مجتمعة بتفوّقها. تزغرد شقيقتها في الفيديو وتصفق العائلة على أنغام الموسيقى وتبدو شيماء في كامل فرحتها وهي تعلن أنّها حققت معدّل 99.6%. تبدو شيماء مفعمة بالأحلام، أحلام حصدها العدو الإسرائيلي في أقل من ثانية، ترى ما كانت أحلامك يا شيماء؟
ودّعوا العالم على طريقتهم
ورغم أنّ جيش الاحتلال لم يوجّه إنذارات مسبقة للسكان الذين استهدفت منازلهم، إلّا أنّ بعضهم شعروا بدنوّ ساعتهم، فسارعوا قبل لحظات من منيّتهم إلى إلقاء تحية الوداع عبر فضائهم الافتراضي، يخلّدون ذكراهم بكلمات ورسائل ووصيات. لدرجة تشعر أنّ الموت في غزة، لا يأتي أبدًا صدفةً بل بموعدٍ. ومن بقي على قيد الحياة أخذ على عاتقه مهمة “الإعلان” ونشر أسماء الضحايا بالتالي الرواية كي لا يكون الموتى مجرّد أرقام، على قاعدة “الحي يعلم الغائب بما جرى، والحي يعلم الغائب ويروي قصص الشهداء”.
على صفحتها، ودعت إيمان عودة أصدقاءها فنشرت قائلة: “لو استشهدت.. فأنا ما استشهدت فداء لشي أو من أجل أحد، أنا متت مظلومة ونفسي حاجات كثيرة لسا ما حققتها متت وأنا نفسي في الحياة”. أما المصوّر الصحافي رشدي سراج فكتب قبل وفاته: “لن نرحل، سنخرج من غزة إلى السماء وإلى السماء فقط”.
وكتب حمزة مصطفى قائلًا: “انتهينا اليوم من دفن جيراننا الأربعين، خمس عائلات تستيقظ في قبورها، منهم مازن ابن الست والثلاثين وزوجته وأبناؤه الأطفال، عبد الرحمن ورهف وأروى ورفيف، دفن اثنان مع أبيهم واثنان مع أمهم، انتهينا من دفن الأربعين ولكن نسينا جدّهم فأعدنا فتح القبور ورتبنا الجثث وأسكناه معهم”.
الكاتبة والشاعرة هبة أبو ندى كتبت قبل استشهادها: “إذا متنا اعلموا أنّنا راضون وثابتون وبلّغوا عنّا أننا أصحاب الحق”، وفي منشورٍ آخر كتبت: “نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكل الآن”، ونشرت أيضًا: “نحن بالكاد ننجو، يعلم الله ذلك، لكننا حفظنا عن غيب أسماء الذين خذلونا والذين نصرونا ليسوا بالآخرة بل بالأبدية سنحملهم في نعوشنا حين نموت سنحملهم حتى ينهزم الباطل وينتصر الحق”.
وفي كلماتها الأخيرة كتبت أيضًا عن عائلات غزة التي تباد: “صورنا العائلية، كيس من الأشلاء، كومة من الرماد، خمس أكفان ملفوفة بجانب بعضها متفاوتة الحجم. الصور العائلية في غزة مختلفة لكنهم معًا كانوا معًا ورحلوا معًا”.
جدول بأسماء 61 عائلة إما مسحت بالكاملة أو قتلت نواة فيها:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.