حمل أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت أحزانهم صباح الأربعاء 11 تشرين الثاني 2020، وصور ضحاياهم وقصدوا قصر العدل في العاصمة في ذكرى مرور مئة يوم على مجزرة بيروت التي أودت بحياة أحبّائهم. والأهم أنهم لم يبدلوا تبديلا، جاؤوا بمطالبهم الثابتة والمحقّة:
الدعوة إلى جلسةٍ نيابيةٍ استثنائيةٍ يتمّ خلالها البتّ في مسألة مشروع القانون الرامي إلى اعتبار ضحايا الانفجار بمثابة شهداء في الجيش اللبناني، إضافة إلى دعوة قاضي التحقيق العدلي فادي صوّان إلى التنحّي عن مسؤوليّاته إن لم يكن “على قدر الحمل”.
صبيحة الاعتصام، بدأ أهالي الضحايا بالتوافد، توحّدهم المصيبة والدماء، بدوا عائلة واحدة، يتحلّقون حول بعضهم البعض، يحتفون بوصول أحدهم من المناطق البعيدة خارج بيروت، ويتعاونون على إنجاز المهام: والد الضحية قاسم المولى يعلّق اليافطات على حائط قصر العدل، شقيق الضحية أمين الزاهد يوزّع المناشير، وجميعهم، لا تفارق ملامح الحزن وجوههم. وحدها ابتسامات الضحايا في الصور المرفوعة تكسر مأساوية المشهد وتزيدها في الوقت عينه.
بعد الوقوف دقيقة صمتٍ عن أروح الضحايا، سلّط إبراهيم حطيط، شقيق الضحية ثروت حطيط، باسم أسر الضحايا، الضوء على مطلبين أساسيين: الأوّل يتعلّق بالقضاء ومجريات التحقيق وشفافيّته، ويرتبط الثاني بـ”مساواة شهداء الانفجار بشهداء الجيش”.
وخاطب حطيط المسؤولين واصفاً إيّاهم بـ”مرتكبي المجزرة، عصابات السّلطة”، ليطالب قاضي التحقيق فادي صوّان بالوفاء بوعده الذي قطعه عليهم بتاريخ 8-10-2020، ومفاده إيجاد آليةٍ مع وزير العدل لإطلاع الأهالي على مجريات التحقيق، وهو وعد لم يتحقق. كذلك طالب صوّان، باسم الأهالي، بعدم الاكتفاء بتوقيف “الرؤوس الصغيرة”، بل ضرورة “استدعاء كبار الرؤساء والمسؤولين، وبالتنحي عن مسؤولياته إذا كان غير قادر على مواجهة الضغوطات السياسية”، بخاصة وأنّ اللجنة “لم تلمس أيّ نتيجةٍ لتجاوب القضاء اللبناني معها”. وفي لهجةٍ تصعيدية أضاف حطيط أنّ “اللغة الدبلوماسية انتهت… فمن الآن وصاعداً لا مقامات أمام دماء شهدائنا ودموع أطفالنا”، مؤكّداً على حق العائلات في متابعة مجريات التحقيقات ومثول الكبار كمتهمين رئيسين من دون أي حصاناتٍ أمام القضاء. ورفع الأهالي خلال الاعتصام لواء محاربة الفساد انطلاقاً من قضية شهدائهم، آملين أن يروا “الجناة يتأرجحون على أعواد المشانق”.
وبالنسبة لمساواة ضحايا الانفجار بشهداء الجيش، يقول حطيط أن اللجنة نالت وعود الرؤساء الثلاثة بتوقيع مشروع القانون في أول جلسةٍ تشريعية لمجلس النواب، ولكن لم تنعقد أي جلسةٍ لغاية الآن. من هنا تطالب اللجنة رئيس مجلس النواب نبيه بري بعقد جلسةٍ إستثنائيةٍ “لقضيةٍ أكثر من أستثنائية لإقرار المرسوم بمفعولٍ رجعي”، مهددين بفتح إعتصامٍ مفتوحٍ أمام مقر الرئاسة الثانية في عين التينة لحين إقرار موعد للجلسة، “رح ننزل نعتصم بنسائنا وأطفالنا شيبنا وشبابنا دون موعدٍ سابقٍ أو إنذار”، وهو ما سينفذه الأهالي غداً الجمعة عند الساعة 3 بعد الظهر من دون الإعلان عن برنامج الإعتصام أو مدى استمراره.
بعدها دعا حطيط المشاركين إلى التوجه لقطع الطريق أمام المارة على وقع النشيد الوطني اللبناني لمدة دقيقتين كل عشر دقائق، معلناً أنهم سيستمرون بتسكير الطريق حتى يقوم القاضي فادي صوان بطلب مقابلتهم، “نحن ما رح نروح نقابل حدا من هلق ورايح، هني واجبهم يبعتوا ورانا ويوقفوا عند حاجياتنا”. وفعلاً، بعد مرور حوالي نصف ساعة على قطع الطريق، أرسل القاضي صوان يطلب ممثلين عن اللجنة للإستماع إلى شكوى الأهالي ومطالبهم.
إستمر الإجتماع مع القاضي صوان نحو ساعةٍ ونص الساعة، خرج بعدها الممثلونن عن العائلات بـ”انطباعٍ إيجابي”، على حد قول رئيس اللجنة كيان طليس الذي نقل لـ”المفكرة القانونية”، تأكيد صوّان بأنه “لن يساوم على القضية ولا يرضخ لأي ضغوطاتٍ سياسيةٍ”. من جهةٍ ثانية اعتبر طليس أن مسألة “الإسراع في إنجاز التحقيق ليست أولوية بل الأهم إجراء تحقيق دقيق وجدّي”، مؤكداً أنّ القاضي صوّان يقوم بالتعاون مع نقابة المحامين بالإطّلاع تباعاً على فحوى الدعاوى المقدمة من العائلات والبالغ عددها حوالي 1700 قضية. ولم يكشف طليس أي معلومات إضافية حول اللقاء مع صوّان “في معطيات ما فينا نكشف عنها”، كما قال للإعلام.
خلال الاعتصام، وتحت شجرةٍ وارفةٍ وقفت مجموعة من النساء قريبات الضحايا، تحتضنّ صور ضحاياهنّ، بتن خبيرات بمتطلّبات وسائل الإعلام يرفعن صور ضحاياهنّ عالياً، نسين للحظةٍ أنّ لهن أسماء، صرن يعرّفن عن أنفسهنّ بـ”زوجة الشهيد، والدة الشهيدة، أو أخت الشهيد، وابنة الشهيد”.
“جريمة هزّت العالم بس ما هزت حدا من السياسيين”
“زوجي حبيبي موّتني غيابك”، يافطة ارتأت سامية دوغان، زوجة الضحية محمد دوغان رفعها. دموعها الحارقة التي انهمرت بغزارةٍ أمام قصر العدل أبكت المشاركين جميعاً، هي خسرت زوجها الذي كان يعمل في إحدى الشركات في المرفأ، ويعيل أطفالها، بين ليلةٍ وضحاها. تقول أنّ محمد تناول غداءه الأخير مع العائلة قبل أن يتوجّه إلى عمله، أمّا هي فقد أودعت ابنتيها (9 سنواتٍ) في النادي الرياضي، لكنها ما إن غادرت المكان حتى سمعت من المارّة أنّ إسرائيل تضرب الضاحية الجنوبية، عادت إلى النادي لاصطحاب طفلتيها، وهناك شاهدت التلفاز مع بناتها ورأين الدمار الذي حلّ بالمرفأ. حاولت سامية قدر الإمكان المحافظة على رباطة جأشها، أوصلت ابنتيها اللتين طلبتا منها الإسراع في إحضار والدهما، وعند بوّابة المرفأ لم تسمح لها القوى الأمنية بالدخول، فقصدت المستشفيات بحثاً عنه حتى وجدته في برّاد الموتى في مستشفى المقاصد.
عادت سامية إلى ابنتيها بلا والدهما. وفي المنزل واجهت أصعب موقفٍ في حياتها، على حد قولها. كان عليها إخبار البنتين بأنّ والدهما قد توفي. وهناك في غرفتهما أبلغتهما بأنّ والدهما انتقل للعيش في الجنّة بجوار جدّتهما. أسئلة عدّة طرحتها الفتاتان، “يعني بابا مات؟، ما بقى رح نشوفه “؟ لم تستطع سامية الإجابة اكتفت باحتضانهما بقوةٍ. تمسح سامية دموعها وترفع صوتها “اليوم الدولة عندها مسؤولية، أنا بدّي أمّن بناتي”. مطالب عدّة رفعتها سامية منها “معرفة الحقيقة، ومحاسبة المجرمين عبر تعليق المشانق، والأهم مساواة شهداء الانفجار بشهداء الجيش”. بالنسبة إليها هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان حياة كريمة لابنتيها.
جوزها “أبو عيون عسلية”
على حافّة قرب مبنى قصر العدل جلست علا العطّار (25 عاماً) زوجة الضحية حمد العطار (28 عاماً) الذي عرفه الجميع بـ”إبني الحلو وعيونه عسلية”، كما كانت تسأل عنه والدته ليلة الانفجار وهي تبحث عنه في المستشفيات. كان حمد يعمل في وظيفتين كي يستطيع إعالة زوجته وأولاده وأهله. كان يقود شاحنة نقلٍ تابعة لشركةٍ خاصةٍ في مرفأ بيروت، ويعمل أيضاً كسائق “فان” في أيام العطل.
نهار الانفجار وعد حمد عائلته بالذهاب إلى البقاع بعد الانتهاء من العمل. عندما تأخّر في الوصول، انتظرته علا طويلاً حتى علمت أنّ انفجاراً وقع في المرفأ، فجاءت مع والدته تبحثان عنه في المستشفيات. صارت الساعة الثالثة فجراً ولم يظهر حمد، عندها أصرّ والده على دخول حرم المرفأ، فوجد جثته ملقاة على الأرض بجوار جثث زملائه من دون أن ينتشلها أحد. لم يسمح للوالد بأخذ الجثة، كان عليه الانتظار لغاية الساعة الحادية عشرة من قبل الظهر لاستلامها. تربّي علا اليوم طفليها، تقول إنها تخضع لعلاجٍ نفسي جرّاء ما حدث. حالة التوتّر لا تقتصر على علا فحسب بل طاولت ابنتها زهراء ( 7 عاماً)، التي لا تنفكّ تشاهد الأغنية التي ألّفها الملحّن فارس اسكندر خصيصاً لوالدها، “هيدي الغنية لبابا” تقول زهراء وهي تنظر إلى صور والدها وجدّتها الظاهرين في الفيديو كليب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.