في الصراعات المسلحة وفي الحروب، تتعرّض الكثير من العائلات للإنفصال عن بعض أفرادها، وتجد نفسها تواجه الغموض حيال مصائر أحبائها. يعرّف المفقودون بأنّهم “كل من لا تعرف عائلاتهم أخباراً عنهم و/أو يتم الإبلاغ عن فقدانهم، وفق معلومات موثوقة، بسبب صراع مسلح (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ٢٠٠٣). فالمفقود هو ضحية، وأفراد عائلته هم ضحايا أيضاً. ويؤثر الشك وعدم التأكد من المعلومات على مشاعر السعادة لدى هذه العائلات. في هذا المقال، سأناقش التأثير العاطفي والإجتماعي – النفسي على أهالي المفقودين التي لم تُحلّ قضايا ذويهم، وكذلك التأثيرات العلاجية لمعرفة الحقيقة، واعتبار النصب التذكارية كحاجة أساسية لعائلات الأشخاص المفقودين.
الأثر العاطفي والاجتماعي-النفسي على عائلات الأشخاص المفقودين
يمكن فهم الأثر العاطفي والنفسي للفقدان على العائلات التي مُنعت من الوصول الى الحقيقة، من خلال مفهوم “الخسارة الغامضة (ambiguous loss) . توضح أبحاث الأستاذة الأميركية بولين بوس أنّ حالات الخسارة الغامضة تؤدي إلى عوارض اكتئاب، وقلق، ومشاكل عائلية (بوس، ٢٠٠٤، ٢٠٠٦). ف”الخسارة الغامضة هي الخسارة الأكثر إجهاداً. فهي تعيق إيجاد الحلول وتخلق تشويشاً حيال من هو جزء من عائلة ما ومن هو ليس منها. الموت يترافق مع توثيق للخسارة، وتسمح مراسم الرثاء بالوداع. مع الخسارة الغامضة، لا يوجد أي من هذه الأمور. فالغموض المستمر يمنع المعرفة، والتأقلم، وصناعة المعنى ويجمد مسار الحزن (بوس، ٢٠٠٦).
فالاختفاء مختلف جداً لجهة تأثيراته عن أيّ حدث فردي صادم آخر، لأنه بطبيعته حالة مزمنة. فالخسارة الغامضة هي مفهوم علائقي يميز الاختفاء بطابعه الخارجي والمستمر، على عكس أي حدث يحصل لمرة واحدة. وتظهر دراسات أجريت في أماكن عدّة في العالم أنّ عائلات المفقودين تعاني من الاضطراب العاطفي التفاعلي (Reactive emotional distress) وليس من نوع محدد من الاضطرابات النفسية (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ٢٠١٣ ). وأغلبيّة العوارض التي تمَ توصيفها من قبل الأهالي تتمثل بالتفكير المستمر والأحلام الدائمة بالمفقود، واضطرابات النوم، والقلق المفاجئ، والشعور المزمن بالتوتر. حالة القلق المعممة هذه، هي الأكثر انتشاراً في مختلف الثقافات، فضلاً عن التعبير عن الألم الشديد (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ٢٠١٣). وقد تم وصف “صدمة الخوف (Shock of fear) بأنّها “حالة تنبيه” أو “زيادة في اليقظة” وهي تعتبر نتيجة عامة للصدمة. والقلق الذي عبرت عنه العائلات هو حيال مصير الشخص المفقود وليس حيال حادثة الاختفاء بحد ذاتها، ما يميّز عوارض القلق الخاصة بهم عن اضطراب ما بعد الصدمة (Post-traumatic stress disorder) الذي يرتبط بحادثة صادمة معينة.
“الأمر الأكثر صعوبة للتخطي هو حالة العصبية الدائمة والتي لا تغادرك بأنّ الباب قد يطرق في أية لحظة. كلما تسمع ضجة ما، أول ما يخطر ببالها أنّ ابنها قد عاد.” هذا ما قالته وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، في حديث لها مع المفكرة القانونية، وصفت فيه حال العديد من النساء اللواتي قابلتهن منذ العام ١٩٨٢، ممن فقدن إبناً أو زوجاً أو أخاً أو قريباً خلال الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠). وتعزز القصص التي نقلتها نتائج الأبحاث السابقة من التأثير العاطفي للاختفاء على عائلات المفقودين. تصف حلواني الأسى الجماعي للعائلات ومعاناتها العاطفية التي تمظهرت من خلال نوبات قلق فجائية، وكذلك من خلال كوابيس وأحلام يقظة تتمحور حول المفقود. وأضافت أنّ هناك إمرأة لم تخرج من منزلها لسنوات لأنها كانت لا تريد تفويت فرصة لقاء ابنها حين يعود. وأخبرتنا حلواني عن انتحار إمرأة أخرى في ذكرى عيد ميلاد ابنها لعدم قدرتها على تحمل الشك والخسارة. أجبرت على الانتحار كون السلطات لم تعترف بحقها في المعرفة”تقول حلواني واصفة تلك المرأة. كذلك تحدثت عن العائلات التي كانت تتشارك ألمها، ومعاناتها، والقلق المستمر على المفقود: “كنا نبكي سوية حين نلتقي للحديث عن أحبائنا. يساعدنا كثيراً حين نلتقي أشخاصاً آخرين في أوضاع مشابهة. نعرف كيف نشعر كلنا. لا نريد نسيانهم. هو تعذيب نفسي. ألم الاختفاء أقوى من ألم الموت. انتظرنا وانتظرنا على أمل عوتهم. انتظرنا طويلا بين الأمل والشك حيال عودتهم. لا تتقبل بعض العائلات حتى اليوم، أي بعد ثلاثين عاماً، فرضية أنّ يكون احباؤها قد توفوا”.
حين يختفي أحد أفراد العائلة، فإنّ التأثير النفسي على بقية أفرادها قد يكون كبيراً، كما ورد أعلاه. لكن الجوانب النفسية الفردية للتجربة (الأفكار، والمشاعر، والتصرفات) ليست منفصلة عن التجربة الاجتماعية الجماعية الأكبر. إنّ الأسى النفسي الذي يسببه الاختفاء يتعاظم مع نتائجه القانونية والاقتصادية والاجتماعية. الرجال هم الأكثر ترجيحاً للاختفاء من النساء، وأغلبهم يختفون في عمر تكون فيه مساهمتهم الاقتصادية في العائلة أساسية، مما يسبب مشاكل مالية لمن تبقى. تتذكر حلواني حالة امرأة كانت تعمل في السرّ لإعالة عائلتها، محاولة تجنب الوصمة التي تلحق بالنساء العاملات في مجتمعها. تفسر حلواني أنّ “المشكلة تتعاظم حين تصرف العائلة المال القليل الذي تملكه على العرافين، والمخبرين، والخطوات الإدارية المكلفة لمحاولة معرفة مصائر أحبائهم. ويعزّز إطار الحرمان الاقتصادي هذا الإجهاد الموجود أصلاً.
وفيما أنّ الصحة النفسية وعوارض اضطراب ما بعد الصدمة المحتملة هي مجال للدراسة أثناء محاولة فهم تصرف الضحايا حيال الاختفاء، فإنّ هؤلاء يحتاجون بدرجة كبيرة الى إجابات قانونية وإجتماعية لتساؤلاتهم.
الحاجة للحقيقة ولنصب تذكارية كجزء من المقاربة العلاجية
إنّ حاجات عائلات المفقودين عاطفية ونفسية ومادية وثقافية واجتماعية وقانونية. ويتمّ تحقيق هذه الحاجات عبر موارد التأقلم الخاصة بالأفراد والمجتمعات (روبنز، ٢٠١١) فتشكل معرفة الحقيقة بشأن مصير المفقود حاجة أساسية للعائلات وفق دراسات دولية هامة، وتسيطر هذه الحاجة على المطالب التي تقدم إلى الدولة وفي عمليات العدالة الانتقالية (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ٢٠١٣). وبالنسبة لأغلب العائلات، المسارات القانونية ليس أولوية كما هي الحاجة للحقيقة، نظراً إلى أنّ القانون استخدم تاريخياً كسلاح ضد المهمشين، مما يبرهن عن “عدم انسجام خطابات ما بعد الصراعات الدولية – التي تسيطر عليها تقليدياً المقاربات القانونية – مع أجندات الضحايا (روبنز، ٢٠١٣).
وبالنسبة لعائلات المفقودين، فإنّ وراء الحقيقة التي يسعون إليها هدفان:
• الأول هو تأكيد مصائر أحبائهم، وهذا أمر مفهوم من قبل الأغلبية كمطلب بعودة أقاربهم أو رفاتهم. فاستلام جثث القتلى تسمح بالعزاء، وبإقامة الواجبات الاجتماعية والروحية وخلق معنى اجتماعي (بوس، ٢٠٠٦)
• أما الهدف الثاني فهو تأكيد قيمة المفقود وعائلته عبر الاعتراف بسرديات العائلات، بشكل رسمي ومن قبل المجتمع. وتركز حلواني على أنّه “يجب الاعتراف بمعاناة عائلات المفقودين. معرفة الحقيقة هو الحاجة الأهم لنا”.
فعدم معرفة مصائر الأحبة يترك أفراد العائلة في معاناة عاطفية كبيرة، ومشاكل نفسية من ضمنها اضطرابات في النوم وأوجاع جسدية واضطراب وقلق عام. لكن التأثير الأكبر هو اجتماعي بطبيعته، إذ أنّ زوجات المفقودين اختبرن فقدان المرتبة داخل العائلة ومشاكل تتعلق بالهوية داخل المجتمع، ما يؤدي إلى وصمة سلبية. وبمعنى آخر، يتم إضعاف النساء أكثر من ذي قبل بسبب المظاهر الاجتماعية. وإنّ الدور الإيجابي الذي لعبته جمعيات ذوي المفقودين في مساندة من فقد أحد أفراد عائلته، يؤكد أنّ التضامن والمشاركة أساسيان لآليات التأقلم (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ٢٠١٣). وينسجم ذلك مع نموذج الخسارة الغامضة الذي يعتبر أنّ إعادة التركيبة الاجتماعية للمعنى والهوية هو شرط مسبق للعيش مع غموض الخسارة (بوس، ٢٠٠٦). وتتطلب نتائج هذا الغموض، مثل عدم القدرة على القيام بالمراسم المعتادة للميت، من العائلات ليس فقط معرفة مصير المفقود وحسب، بل أيضاً الوصول إلى جثته عبر مسار شامل من التحقيق واستخراج الرفات والتعرف على الهوية.
وتركز السرديات المتعلقة بالمفقودين على قضايا نبش الرفات والتعرف على هوية الميت بوصفها نتيجة مباشرة لمبدأ “الحق في المعرفة” أو “الحق في الوصول للحقيقة” المقتبس من القانون الإنساني الدولي (نافكي، ٢٠٠٦). فمن المفترض أن تروّج النصب التذكارية(memorials) للشفاء والمصالحة لتعزيز المرونة في تجربة الفقدان، ومن أجل تأثير إيجابي على الصحة الاجتماعية – النفسية لعائلات المفقودين. وقد تمنح النصب التذكارية “القدرة للذاكرة الجماعية كي تصبح تدخلاً علاجياً للشفاء من رواسب الفقدان، حتى لو بقي المفقود مفقوداً” (روبنز، ٢٠١٣). وعليه، ترتبط حاجة الضحايا لنصب تذكارية بحاجتهم لإيجاد معنى إيجابي لأحداث الاختفاء. فبما أنّ المعنى موجود علائقياً من خلال التفاعل الاجتماعي، تسعى العائلات لترسيخ فهمها للاختفاء من خلال ربطها بمعان ثقافية قوية. ويجعل هذا الرابط بين المعنى والذاكرة النصب التذكارية مليئة بقيمة علاجية؛ إذ انّ التذكر هو الفن الجماعي لتقبل سردية معينة من الماضي بوصفها ذات معنى. وفق نظرية الخسارة الغامضة، فإنّ المعاني التي تعطيها العائلات للاختفاء، وهي مبنية علائقياً على التفاعل الاجتماعي داخل العائلة والمجتمع، مهمة جداً لتمكين العائلات من التأقلم مع تأثيراتها (بوس، ٢٠٠٦). وتتحدد الكيفية التي ينظر من خلالها إلى المفقودين وعائلاتهم وكيف تنظر العائلة الى نفسها من خلال تحديد ما إذا كان القريب المفقود بطلاً أو إرهابياً، شهيداً أو ضحية، ميتاً أو غير معروف المصير.
التأقلم مع الخسارة الغامضة لقريب يرتبط بالقدرة على إنتاج نوع جديد من العلاقات مع المفقود أي بإنتاج رابط من نوع آخر بالمفقودrevising attachment . وإحدى الوسائل الأكثر فعالية لتحقيق ذلك هي اقامة نصب تذكارية تكريماً للمفقود من دون أن تجعل قبول موته رسمياً، أي “نصباً تكريمياً وحياً وليس فقط نصباً تذكارياً ينظر الى الماضي” (” (a tribute not only a memorialبوس، ٢٠٠٨ “. فعلى النصب التكريمي (tribute) أن يضمن إبقاء قضية الأهالي، قضية المعرفة، حية. هذه طريقة لاستيعاب صدمة الاختفاء بما أنّ “الحزن العادي ” (normal grief)لم يحصل والنسيان أمر دونه معوقات، نظراً إلى الحاجة للحفاظ على ذكرى المفقود وابقائها حية”. وبهذه الطريقة، من شأن النصب التكريمية والحية أن تشكل وسائل لتمكين العائلات من إنتاج رابط من نوع آخر بالمفقود وتقويم ذكراه مع إبقاء المفقود على مسافة مقبولة من حياتهم اليومية. فتتعزز قدرة العائلة على استيعاب التناقض الذي تشعر به تبعا لغموض مصائر أبنائها. فالتأقلم مع خسارة غامضة لشخص قريب عنصر اجتماعي مهم، والتطرق لذلك يتم عبر الطبيعة العلنية للتكريم الإجتماعي (نصب، احتفالات محلية) ويمكن لعملية تخليد الذكرى أن تكون في قلب المقاربة العلاجية للخسارة الغامضة.
نحو مقاربة تركز على الضحية من أجل استعادة العدالة
ليست عائلات الأشخاص المفقودين مجرد أفراد ينتظرون بشكل سلبي تحقيق العدالة وظهور الحقيقة. فلعائلات المفقودين مزيج معقد من الهويات، وأشكال مختلفة من مهارات التأقلم والموارد، وليست هوية الضحية إلا واحدة من ميزاتهم. إنّ إجراء تقويم معمق لحاجاتهم الفردية والجماعية، وكذلك لآليات التأقلم الخاصة بهم ولمرونتهم ستسمح للناشطين في مجال حقوق الإنسان بأقلمة جهودهم مع الحاجات الحقيقية لهذه المجموعة. فالحاجات الأساسية لعائلات المفقودين تتضمن الحاجة للمعرفة، والحاجة لتنفيذ مراسم تكريمية، فضلا عن الحاجة للحصول على مساندة اقتصادية واجتماعية – نفسية، والحاجة للاعتراف بالألم الذي عانوا منه. وتسيطر هذه الحاجات غالباً على مطالبهم من عمليات العدالة التي تصوغها العائلات، استناداً إلى النسق الثقافي المحلي. ولغاية تحشيد الضحايا في عملية الانتقال، لا بدّ من إعطاء الأولوية للبرامج التي يريدونها.
نشر في الملحق الخاص بقضية المفقودين:
المراجع
Boss, Pauline. 2004. “Ambiguous Loss Research, Theory, and Practice: Reflections After 9/11.” Journal of Marriage and Family 66(3): 551–66.
Boss, Pauline. Loss, Trauma and Resilience: Therapeutic Work with Ambiguous Loss. New York: Norton, 2006.
Boss, Pauline. 2008. “A Tribute, Not a Memorial: Understanding Ambiguous Loss.” SIGMOD Record 37(2): 19–20.
International Committee of the Red Cross (ICRC). 2013. Accompanying the families of missing persons. A practical handbook.
International Committee of the Red Cross (ICRC). 2003. ICRC Report: The Missing and Their Families: Conclusions Arising from Events Held Prior to the International Conference of Governmental and Non-Governmental Experts. Geneva, ICRC, February 19-21, 2003.
Naqvi, Yasmin. 2006. The Right to the Truth in International Law: Fact or Fiction International Review of the Red Cross 88(862): 245–73.
Robins, Simon. 2011. Towards Victim-Centred Transitional Justice: Understanding the Needs of Families of the Disappeared in Postconflict Nepal. International Journal of Transitional Justice 5(1): 75–98.
Robins, Simon. Families of the Missing: A Test for Contemporary Transitional Justice. NewYork: Routledge, 2013.