عائلات الشهداء والجرحى: “رصاصُكم مرض خبيث يسري في البَدَن”


2025-01-14    |   

عائلات الشهداء والجرحى: “رصاصُكم مرض خبيث يسري في البَدَن”

“فَلا وَاللَهِ لا أَنساكَ حَتّى أُفارِقَ مُهجَتي وَيُشَقُّ رَمسي[1]”، هكذا أسرّت والدة الشهيد مجدي منصري الّذي سقط يوم 12 جانفي 2011، للمفكرة القانونية، خلال حضورها في وقفة احتجاجية عقدتها مجموعة من عائلات شهداء الثورة وجرحاها، يوم 07 جانفي 2025، تزامنا مع الجلسة العامّة المُخصّصة للنظر في تنقيح المرسوم المُحدث لمؤسسة فداء التي تُعنى بالإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من القوات الحاملة للسلاح وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها. كانت الأمّ تمسك خمارها بيدها وتشيح به في وجه العدد القليل من الحاضرين خلال تلك الوقفة وتقول: “هذا اللحاف ملطّخ بدماء ابني الّذي حملته بين يديّ حين تمّ إطلاق النّار عليه. إلى الآن لا يزال فيه شيء من دمائه، ولم أشأ أن أغسله حتى لا تختفي منه آثار الدّماء”.

خلال تلك الفترة من سنة 2011، سقط أيضا الشابّ أحمد البولعابي شهيدًا، يوم 08 جانفي، في مدينة تالة الواقعة في الوسط الغربي للبلاد بعدما استقرّت رصاصة في صدره، وكانت أخته التي  تحمل إعاقة عضويّة حاضرة أمام البرلمان، وقالت في وجه الحاضرين إنّها لا ترضى ببطاقة “بيضاء” تُتيح لها الانتفاع بالتغطية الاجتماعية والتداوي في المستشفيات العمومية، لكنّها تريد حقّ أخيها الّذي تمّ إحضار جثمانه بعد خمشة أشهر من دفنه، وفق روايتها، ليتأكّد الطّبيب الشرعي من إصابته بالرّصاص، بعد أن أمعنت الرّواية الرسمية في تكذيب أخبار انتشار “القنّاصة” وضرب المتظاهرين واستهدافهم مباشرة بالسلاح. “هذا الملفّ لا يتمّ تحريكه إلا في الانتخابات. عندها فقط يتمّ الدّق على بابي لإبداء التعاطف والمساندة. أنا لا أشعر بأنني تونسية لأنّ دم أخي ضاع هدرًا. ليس دمه فقط وإنّما دم غيره من الشهداء الّذين سقطوا في تالة. الرّصاص الّذي استقرّ في جسد أخي وغيره من الشهداء والجرحى لا يشبه غيره. فهو رصاص لا يُمحى، ويسري في البدن كالمرض الخبيث”، تقول أخت الشهيد بحُرْقة، وسط الحاضرين.

مطالب لردّ الاعتبار

كانت مطالب المجموعة الحاضرة أمام البرلمان بالتزامن مع الجلسة العامّة تنحصر في ردّ الاعتبار المعنوي لشهداء الثورة وجرحاها، والمطالبة بفصل شهداء الثورة وجرحاها عن ضحايا العمليات الإرهابية من القوات الحاملة للسلاح المشمولين بمؤسسة “فداء” الّتي أحدثها الرئيس قيس سعيّد بمقتضى مرسوم صادر في 09 أفريل 2022، بمناسبة إحياء ذكرى عيد الشهداء. كما تحتجّ المجموعة على عدم تشريكها في الاستماعات الّتي تمّت داخل اللجنة البرلمانية المختصّة بالنّظر في مشروع التعديل الذي اقترحته مؤسسة الرئاسة.

يقول عبد الحميد الصغيّر منسّق مجموعة “فك الارتباط” الحاضرة في الوقفة من أمام البرلمان، إنّ المرسوم المتعلّق بإحداث مؤسسة فداء يُعدّ بمثابة “القفز على بحيرة من الدماء المتراكمة”، مؤكّدًا احترامه لتضحيات شهداء العمليات الإرهابية من القوات الحاملة للسلاح، ولكنّ “سياقات التضحية تختلف تماما عن سياقات وأهداف ضحايا الثورة”، إذ تندرج الأولى في إطار الواجب الوظيفي لأعوان الشرطة والديوانة والحرس وغيرهم من الأسلاك الحاملة للسلاح، فيما تأتي تضحيات شهداء الثورة في إطار حراك شعبي وثورة تهدف إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي. وذكّر بأنّ المرسوم عدد 97 لسنة 2011 المتعلق بالتعويض لشهداء ثورة الحرية والكرامة، الذي تمّ تنقيحه وإتمامه بالقانون عدد 26 لسنة 2012، يُعدّ الإطار المرجعي لقضية الشهداء والجرحى، معتبرًا أنّ إدماج ضحايا المؤسسة الأمنية وشهداء الثورة وجرحاها في المؤسسة ذاتها “يقلّل من رمزية الثورة”، خاصّة وأنّ بعضًا من الأجهزة الأمنية متورّطة في سقوط الشهداء والجرحى. وهو موقف تشترك فيه جمعية “أوفياء” لشهداء وجرحى الثورة، إذ تقول رئيستها لمياء الفرحاني للمفكرة القانونية إنّ “هذا الدّمج  يسير عكس المنطق التاريخي. فكيف لشباب خرجوا طواعية وخاطروا بحياتهم ومستقبلهم ومستقبل عائلاتهم وقاموا بثورة ضد نظام قمعي ومجرم يعتمد بالأساس على قوات الأمن أن تقع مساواة تضحياتهم بحوادث أعوان أمضوا على إقرار والتزام بتحمّل عاقبة عملهم مقابل أجر وامتيازات؟” تتساءل لمياء الفرحاني، لتضيف: ” اتّخاذ هذا القرار يعكس قصر نظر ومحدودية الرؤية، وكأنّه يسعى إلى فرض فلسفة “مصالحة” دنيئة أو يبحث عن تبرئة جهاز قمعي، وهو جهاز الداخلية بشقوقه من أمن دولة إلى وحدات التدخل وجرائمه إبان الدفاع عن المخلوع بتغطيته بمظلة الثورة بحجة أنّ منهم شهداء سقطوا في أحداث الثورة. نطالب بإفراد الشهداء وجرحى الثورة بمؤسسة مستقلة، ونعتبر أن من يقدّم التعويضات على المحاسبة هو خائن ومندسّ ولا نتشرف به”.

مؤسسات كثيرة وحقوق قليلة

وفق وثيقة شرح الأسباب المُرفَقة لمشروع التنقيح الذي تقدّمت به رئاسة الجمهورية، فإنّ الهدف من هذه المبادرة هو مزيد تطوير المنظومة القانونية للرعاية الصحية والاجتماعية والمادية والمعنوية للفئات المعنية بالمرسوم المُحدث لمؤسسة فداء، إلى جانب ضمان سلامة التصرف الإداري في إسناد المنافع إلى مستحقيها. وقد صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 10 جانفي القانون عدد01 لسنة 2025 المُنقّح لمرسوم “فداء”، الّذي جاءت فيه فصول تتحدّث عن منح أولي الحق من عائلات الشهداء والجرحى أولوية الانتفاع بمسكن في إطار برنامج السكن الاجتماعي، والبرامج المتعلقة بإحداث مواطن شغل، إلى جانب تمتيع أبناء شهداء الثورة وجرحاها بمنحة شهرية في جميع مراحل دراستهم، وإسناد جرايات إلى جرحى الثورة. لكنّ هذه التدابير سبق وأن جاء بها المرسوم عدد 97 لسنة 2011 الّذي تمّ تنقيحه وإتمامه بالقانون عدد 26 لسنة 2012، وهو يتحدّث عن جملة من المنافع المخوّلة لمُصابي الثورة مثل الحق في جراية شهرية يضبط مقدارها بأمر بشكل يتناسب والسقوط البدني الحاصل للمُصاب، والحق في مجانية العلاج والإقامة في المؤسسات الصحية والمستشفى العسكري، والحق في النقل العمومي المجاني. ولكنّ منظومة 25 جويلية -الّتي طالما نسفت المؤسسات القائمة وعوّضتها بأخرى لم تُثبت نجاعتها، مثل الشركات الأهلية وآليّة الصلح الجزائي والمجالس المحليّة والجهوية- مضت في فلسفة  الهدم وإقامة مؤسسات جديدة على أنقاض القديم.

“ما لاحظناه أن منظومة قيس سعيد -بالرغم أننا كنا أول من دعا إلى انتخابه في 2019- أكّدت توجهاتها الانقلابية على أهداف الثورة والتي يعتبر مسار العدالة الانتقالية ركيزة من ركائزها”، تقول لمياء الفرحاني للمفكرة القانونية، مؤكّدةً أنّ ملفّ الشهداء والجرحى ليس ملفًّا “فئويًّا” أو موضوع مؤسسة إدارية أو تصريحات لتهدئة الأوضاع. فهو “ملف مبدئي لا يمكن التفكير في إغلاقه”. وتضيف: “التركيز على التعويض في جانب تعاطي البرلمان أو الحكومة مع الملف دليل على أنّ هذا النظام يبحث عن شراء صمت أصحاب المشروعية أمام تعطل عمل الدوائر القضائية المتخصصة والتي كانت في وقت سابق مفخرة القضاء التونسي في حل نزاعات المجتمع في فترة حساسة من تاريخ تونس”.


[1] مقتطف من قصيدة للخنساء في رثاء أخيها صخر

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني