ظاهرة المبادرة البرلمانية في مجال المعاهدات الدوليّة: كي لا تتحول مخالفة دستورية إلى ممارسة مقبولة


2024-12-18    |   

ظاهرة المبادرة البرلمانية في مجال المعاهدات الدوليّة: كي لا تتحول مخالفة دستورية إلى ممارسة مقبولة

شهدت الحياة البرلمانية في السنوات الأخيرة ظواهر مستغربة من الناحية الدستورية نتيجة الأزمة السياسية المزمنة التي يعاني منها لبنان بسبب خلو رئاسة الجمهورية وطول فترات حكومات تصريف الأعمال. وإذا كان حلول مجلس النواب مكان الحكومة بسبب عجز أو فشل هذه الأخيرة عن القيام بواجباتها عبر إقرار قوانين استثنائية بات ظاهرة مألوفة كالتمديد لقادة الأجهزة الأمنية وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، لكن هذا التطور لم يقتصر على التدخل في صلاحيات الحكومة الداخلية لكنه بات ينسحب أيضا على العلاقات الخارجية لا سيما إقرار المعاهدات الدولية.

فقد أقر مجلس النواب سنة 2015 عند خلو رئاسة الجمهورية الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب. كما أقرّ في ظلّ حكومة حسان دياب المستقيلة سنة 2021 تعديل ملحق الاتفاقية مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. وقد تكرر الأمر نفسه في 29 آذار 2022 عند أقر مجلس النواب  اقتراح القانون الرامي الى الإجازة للحكومة إبرام اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. ومن الملاحظ أن جميع هذه الاتفاقيات الدولية تقدم بها نواب عبر اقتراحات قوانين أي أنها لم تكن بمبادرة من الحكومة التي لم تطلب عبر مشاريع قوانين الموافقة على إبرام تلك الاتفاقيات. لا بل أن الاتفاقية المتعلقة بحقوق ذوي الإعاقة أقرت في ظل وجود رئيس للجمهورية مع حكومة غير مستقيلة ما يطرح علامات استفهام جدية حول دستورية تلك الممارسة.

وقد تقدّمت النائبة بولا يعقوبيان مؤخرا باقتراح يجيز الموافقة على انضمام لبنان إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وقد استعاد الاقتراح حرفيا ضمن أسبابه الموجبة بوادر نشوء هذه الظاهرة،  الأمر الذي يفيد تطبيعا معها. 

وبغض النظر عن أهمية تلك الاتفاقيات الدولية وضرورتها من أجل تعزيز حقوق المواطنين لا بد من التساؤل حول دستورية تلك الممارسة التي باتت تشكل ظاهرة بارزة.

تنيط المادة 52 من الدستور صلاحية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وابرامها برئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء. ولا شكّ أن هذه الصلاحية تعتبر من الصلاحيات التقليدية للسلطة التنفيذية لا بل هي أخص خصائص تلك السلطة كون العلاقات الدولية تتم بين دول سيدة وتحتاج أحيانا إلى السرية عند مباشرتها. لذلك لا يمكن ايكال التفاوض إلى هيئة جماعية كمجلس النواب حيث تتعدد الأحزاب السياسية وتنقسم بين موالاة ومعارضة ما يحتم منح صلاحية التفاوض مع الدول الأجنبية إلى السلطة التنفيذية حفاظا على وحدة موقف الدولة وفعالية المفاوضات.

وهذا ما يظهر جليا من المادة 52 من الدستور التي تنص على أن بعض المعاهدات لا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب. فهذه الموافقة تأتي ليس فقط بعد الانتهاء من مرحلة التفاوض لكن أيضا بعد التوقيع على المعاهدة من قبل السلطة التنفيذية التي يتوجب عليها قبل إبرامها الطلب من مجلس النواب عبر مشروع قانون إجازة إبرام تلك المعاهدة.

وهكذا يصبح جليا أن النائب الذي يتقدم باقتراح قانون من أجل الموافقة على إبرام معاهدة دولية يكون قد تجاوز صلاحيات السلطة التنفيذية التي لم تفاوض مع الجهات الدولية المعنية من أجل إقرار تلك الاتفاقية. وفي حال أقر مجلس النواب اقتراح القانون المقدم من النائب يكون هذا القانون قد صادر صلاحيات رئيس الجمهورية والحكومة لأنه منعهما من التفاوض على الاتفاقية وجرّدهما من حقهما بإبداء التحفظات على بعض بنودها ما يشكل مخالفة دستورية جسيمة كونه يؤدي إلى مخالفة ليس فقط المادة 52 من الدستور لكنه يخرق مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها المنصوص عليه في مقدمة الدستور.

وهذا ما أجمع عليه الفقهاء في الجمهورية الفرنسيّة الثالثة التي تعتبر المادة الثامنة من قانونها الدستوري الصادر في 16 تموز 1875 المصدر المباشر للمادة 52 من الدستور اللبناني حين إقراره في سنة 1926. فقد اعتبر مثلا أحد الفقهاء[1] أن بإمكان السلطة التشريعية وحدها منح موافقتها أو حجبها على المعاهدة الدولية من دون إدخال أي تعديل عليها كون ذلك يدخل في الصلاحيات الحصرية للسلطة التنفيذية المخولة وحدها التفاوض مع الجهات الأجنبية، ما يعني أن طلب الموافقة يجب أن يأتي من الحكومة التي تكون قد تولّت التفاوض كونها تملك جميع المعطيات السياسية والاقتصادية التي تسمح لها بتحديد مصالح الدولة في علاقاتها الخارجية.

من جهة أخرى، إن حق مجلس النواب بالموافقة على إبرام بعض المعاهدات لا يعطيه الحق بإعطاء توجيهات مسبقة للحكومة خلال التفاوض على اتفاقية ما. إذ للسلطة التشريعية دعوة الحكومة إلى التفاوض مع جهة خارجية لكن ذلك يدخل في خانة الرغبة ولا يمكن في أي حال من الأحوال تقييد حق الحكومة في التفاوض وعقد الاتفاقيات كما تشاء[2].

وبطريقة أوضح، يعتبر “مالبرغ” أنه خلافا للقوانين العادية التي يسمح الدستور باقراراها إما بمبادرة من الحكومة أو من النائب، لكن المعاهدات الدولية لا يمكن تقديمها إلا عبر مشروع قانون تقترحه الحكومة على مجلس النواب. لا بل هو يدخل في التفاصيل فيقول أن الدستور لا يجيز للنائب حتى صياغة الاتفاقية الدولية على شكل مواد كونه ليس الجهة التي تفاوض.[3]

ولا شكّ أنّ التناقض في إقرار اقتراحات قوانين تتعلق بمعاهدات دولية تظهر بشكل ساطع في حق السلطة التنفيذية برفض إبرام تلك المعاهدات. فمجلس النواب لا يبرم المعاهدة كون تلك الصلاحية تعود لرئيس الجمهورية بل هو يجيز فقط إبرامها عبر قانون، أي أنه يسمح للسلطة التنفيذية بإبرام المعاهدة لاحقا، الأمر الذي يتم بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية. فحتى مع صدور القانون الذي يجيز الإبرام يمكن للسلطة التنفيذية رفض الاستفادة من هذا القانون والامتناع عن إبرام الاتفاقية. فعندما تكون الحكومة هي من تولت المفاوضة والتوقيع على المعاهدة يصبح من الجلي أنها ستعمد إلى إبرامها بعد صدور القانون الذي يجيز ذلك. لكن الحكومة التي لم تفاوض على المعاهدة في الأساس، لا بل لم تكن ربما تعلم بوجودها ولا أبدت رأيها بها، لن تكون راغبة في إبرامها، علما أن هذا الأمر قد يؤدي إلى توتر دبلوماسي في العلاقات مع الدول الأجنبية المعنية التي ستلاحظ أن الحكومة ترفض إبرام معاهدة وافق عليها مجلس النواب. لذلك تعمد الحكومات في الغالبية العظمى من الأحوال إلى إبرام المعاهدة التي أجازها مجلس النواب كونها تكون قد فاوضت عليها مسبقا ووافقت عليها والتزمت أمام الدول إبرامها وفقا للآلية التي يلحظها دستورها.

ويعكس النظام الداخلي لمجلس النواب الفرنسي خلال الجمهورية الثالثة هذه الحقيقة البديهية فيقول في المادة 90 منه أن المجلس عندما يصوت على “مشروع قانون”[4] لإجازة إبرام معاهدة يقتصر دوره على إبداء الموافقة أو رفضها من دون التصويت على مواد الاتفاقية أو إدخال تعديلات عليها[5].  وتكرس المادة 128 من النظام الداخلي الحالي للجمعية الوطنية الفرنسية المبدأ ذاته المنصوص عليه أيضا في المادة 86 من النظام الداخلي لمجلس النواب اللبناني التي تعلن التالي: “يمكن التصويت على مشاريع القوانين التي تجيز إبرام المعاهدات والاتفاقات الدولية والاتفاقات المعقودة بين الدولة والمؤسسات دون طرح مواد هذه المعاهدات والاتفاقات مادة مادة”.

ويصبح التناقض جليا في هذا الموضوع بخصوص إعلان الحرب الذي يعتبر أيضا من صلاحيات السلطة التنفيذية حتى لو كانت الدساتير تفرض الحصول على موافقة البرلمان عليها نظرا لخطورة هذه المسألة وتداعياتها على الحياة الوطنية. لكن الأكيد أن البرلمان لا يمكن له الموافقة على إعلان الحرب إلا بناء على طلب صريح تقدمه الحكومة التي تكون قد استعدت عسكريا واتخذت جميع التدابير الضرورية لحماية السلامة العامة وضمان أمن المجتمع، ما يعني أنه يستحيل أن يتقدم نائب بمفرده من مجلس النواب بطلب إعلان للحرب من دون معرفة السلطة التنفيذية التي تخضع لها القوات المسلحة. فعلاقات الدولة الخارجية بجميع اشكالها (إعلان الحرب، عقد معاهدات السلم أو التحالف أو أي اتفاقية دولية) تدخل في صميم صلاحيات السلطة التنفيذية وأي دور يقره الدستور للبرلمان يأتي على سبيل المراقبة والموافقة ولا يمكن أن يشمل حق المبادرة والحلول مكان الحكومة.

وهكذا يتبين أن تقدم النواب باقتراحات قوانين لإقرار اتفاقيات دولية يشكل مخالفة للدستور، وهو في الحقيقة يعبّر عن انسحاب السلطة التنفيذية وتخلّيها عن مسؤوليّاتها بسبب عجزها أو تقصيرها الناجم عن طبيعة النظام السياسي الذي يحكم لبنان. إذ أن إقرار مجلس النواب في السابق لاتفاقيات دولية من خلال اقتراحات قوانين لا يجب أن يتحول إلى ممارسة مقبولة من الناحية الدستورية لأن مخالفة الدستور مهما تكررت لا تؤدي إلى خلق سوابق يمكن الركون إليها، على الرغم من ادعاء السلطة السياسية خلاف ذلك كونها المستفيد الدائم من خرق الدستور عبر الترويج لمفاهيم اعتباطية خطيرة كالأعراف والميثاقية والمجلس سيد نفسه.


[1] « Lorsque les Chambres sont appelées à voter un traité, elles ne peuvent que l’approuver tel qu’il a été négocié par le pouvoir exécutif et rédigé par les plénipotentiaires ou refuser leur approbation; elles ne peuvent pas le modifier et l’amender. Elles n’ont pas qualité en effet pour négocier elles-mêmes et directement avec les puissances étrangères; ce droit appartient exclusivement au pouvoir exécutif » (Esmein, Eléments de droit constitutionnel, tome II, Sirey, Paris, 1921  p.186).

[2] « Les Chambres ne peuvent limiter d’aucune manière, par voie préventive, les pouvoirs de négociation du gouvernement. Sans doute elles peuvent inviter le gouvernement à négocier (…) mais elles ne pourraient pas lui interdire d’avance de conclure tel ou tel traité, d’y introduire telle ou telle clause. En le faisant, les chambres porteraient atteinte au droit constitutionnel du gouvernement de négocier les traités » (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4, Paris, 1924, p.795).

[3] Malberg, Contribution à la Théorie générale de l’Etat, Tome I, Sirey, 1920, Paris, p. 539.

[4] «Il n’était pas contesté que l’initiative de la loi d’autorisation appartenait exclusivement au Gouvernement. Les règlements le confirment, qui parlent de ‘projet’ » (Pierre Avril, Jean Gicquel, Jean Eric-Gicquel, Droit parlementaire, 2021, p. 388).

[5] « Lorsque la Chambre est saisie d’un projet de loi par lequel le Gouvernement, conformément à l’article 8 de la loi du 16 juillet 1875, lui demande l’approbation d’un traité conclu avec une puissance étrangère, il n’est pas voté sur les articles du traité, et il ne peut être présenté d’amendement à son texte ».

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني