“
“انتهى الزمن الذي نقبل فيه أي تهديد أو تخويف، ومن حقنا أن نبني حياتنا (…)، لماذا يواجهوننا بكل هذا الترهيب والتهديد؟[1]“. هكذا عبّر يوسف (20 سنة)، طالب في الجامعة اللبنانية، عن غضبه من التسجيل الصوتي الذي انتشر لرئيسة مدرسة راهبات عبرا والذي تضمّن تهديداً لمن ينوي من الطلاب المشاركة في التحركات الشعبية.
إلا أنه وبالرغم من التهديدات، شكّل الحراك الطلّابي الأسبوع الفائت أجمل مشاهد الثورة. جاب الطلّاب الشوارع واسترجعوا دورهم في الساحات على نحو لم نشهده منذ الانتفاضات الطلابية في السبعينيات. استرجعوا دوراً سياسياً محورياً غُيّبوا عنه قسراً. لم يتحدّوا السلطات السياسية والأمنية والحزبية فحسب، وإنما أيضاً إدارات المدارس المنبّهة والمتوعّدة. وكسائر الثوّار والثائرات، أتى الطلّاب من خلفيات مختلفة جداً. فهم طلّاب جامعات ومدارس وثانويات (وحتى الروضات!)، منها الخاصة والرسمية، من المدينة والمناطق، مدارس البنات والبنين والمختلطة، تلك ذات الأقساط المعقولة والأكثر غلاء في لبنان.
حملوا شعاراتهم قولاً وفعلاً. “مش رايح أدرس تاريخ، نازل أكتبه” قد يكون الشعار الرابح. لم تكن مشاركتهم إذاً “غير-سياسية” أو “شبابية – إجتماعية” بحت كما يحلو للبعض تصويرها. بل على العكس، إعتمد هؤلاء سقفاً سياسياً مطلبياً عالياً: إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء الدولة المدنية، العدالة الإجتماعية، تعزيز المدرسة الرسمية وتحسين التعليم في الجامعة الوطنية، مجانية التعليم، تعزيز دور النساء في الحياة السياسية، حق المرأة منح الجنسية لأولادها، إلخ. وقد رسموا حدود سياساتهم بالفعل، ففي زمن الثورة تتخطّى الأفعال السياسية الحيّز العام لتفكك موروثات إجتماعية لم تعد تمثّل جيلهم. هذا ما يمكن قراءته مثلاً في خروج تلميذات ثانوية القبيات الرسمية للبنات من مدرستهن وتوجهن نحو زملائهن في ثانوية القبيات الرسمية للبنين لإخراجهم.
وكانت الثورة قد شهدت منذ إنطلاقتها استعادة الأطفال لمساحاتهم العامة. هؤلاء الأطفال نفسهم كانوا قد حرموا من الشارع وباتت المراكز التجارية مساحتهم “العامة” الآمنة الوحيدة. أعادتهم الثورة إلى إحياء مدينتهم: يلعبون، يرقصون، يهتفون، ويفرضون نفسهم على الثورة. تستضيف خيم “العازارية” نقاشات معهم ونشاطات لهم، حتى بات روّادها الصباحيّون من “الكبار” يتلطّون خوفاً من طابة “فوتبول” تخطئ الهدف وتحطّ على رؤوسهم.
ظهّرت الثورة إذاً مما لا شك فيه بعد الآن: لا يمكن إقصاء الطلّاب عن السياسة، فهي في همومهم ويومياتهم واهتماماتهم. هم ليسوا مواطني درجة ثانية يعيشون في عالمهم الخاص، هم أبناء هذا الوطن ووقود ثوراته. إلا أن هذا الوطن لا يعترف بمواطنيتهم الكاملة. وإذ يفرّق القانون، بين القاصرين والراشدين منهم، فإن الفئتين تعانيان من الإقصاء نفسه. فالطلّاب الراشدون (أي من هم بين 18 و 21 عاماً) مقصون عن الحق بالإقتراع في الانتخابات النيابية والبلدية، ولا يحق لمعظمهم الإنضمام إلى الجمعيات والأحزاب كما سنبيّن أدناه. أما القاصرون منهم، فلا يقتصر إقصاؤهم عن هذه الحقوق (علماً أن هنالك تيّار فكري يعتبر أنه من حق الأطفال اختيار ممثليهم أيضاً، إلا أننا لن نغوص في هذا النقاش في هذه المرحلة)، وإنما أيضاً بعدم إشراكهم في صنع القرار ولا الإستماع إلى رأيهم ولا تأمين حقهم بالوصول إلى المعلومات الضرورية لتكوين رأي حول قضايا الشأن العام.
حق الطفل في المشاركة يغيب عن السياسات العامة
شكّل إقرار إتفاقية حقوق الطفل عام 1989 قفزة نوعية من حيث تكريس مكانة الطفل كحامل للحقوق وليس فقط كمتلقّ للخدمات والإهتمام. وقد جاءت هذه الإتفاقية بروحية مختلفة عن سابقاتها، فأقرّت سلّة مهمة من الحقوق المتكاملة التي كانت تُعتبر حكراً على الراشدين، وذلك إنطلاقاً من الإعتراف بهوية وقدرات الأطفال. من أبرز ما أرسته الإتفاقية هو تكريس حرية الطفل بالتعبير وإبداء الرأي في الأمور التي تؤثّر مباشرة على حياته الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية وحق الطفلة بالإستماع إلى رأيها والأخذ به (المادة 12)، إضافة إلى حرية تكوين الجمعيات وحرية الاجتماع السلمي (المادة 15)، والحق بالوصول إلى المعلومات وتلقيها وإذاعتها (المادة 13 و 17) وحرية الفكر والدين (المادة 14). أبعد من ذلك، نصّت الإتفاقية على وجوب أن يكون تعليم الطفل موجّها نحو تنمية شخصيته واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة، وإعداد الطفلة لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين (المادة 29). وقد ضمنت الإتفاقية هذه الحقوق لكافة الأطفال، والتي تعرّفهم في المادة الأولى منها بمن لم يتجاوز 18 سنة، على أن تُعطى آراء الطفل الإعتبار الواجب وفقاً لسنه ونضجه (مادة 12).
في الإطار نفسه، أكّدت لجنة حقوق الطفل في التعليق العام رقم 12 (2009)[2] حول حق الطفل في الاستماع إليه على وجوب دعم الأطفال وتشجيعهم على تشكيل منظماتهم ومبادراتهم التي يقودونها بأنفسهم. ولوضوح أكثر، أعطت اللجنة بعض الأمثلة التي تراعي حق الطفلة بالمشاركة، فأكّدت على امكانية الأطفال أن يساهموا بمنظوراتهم، على سبيل المثال، في تصميم المدارس، وأماكن اللعب والحدائق والمرافق الترفيهية والمكتبات العامة والمرافق الصحية ونظم النقل المحلي. وأشارت اللجنة إلى أنه ينبغي أن تدرج آراء الأطفال بشكل صريح في خطط التنمية المجتمعية. كما رحّبت بعدد من المبادرات التي من شأنها تعزيز حقوق الأطفال بالمشاركة، ولا سيما البرلمانات الشبابية المحلية، المجالس البلدية للأطفال والمشاورات المخصصة حيث يمكن للأطفال الإعراب عن آرائهم في عمليات اتخاذ القرار، مع التنبيه على وجوب اعتماد أطر وهياكل تطال الأطفال من مختلف الشرائح والطبقات الإجتماعية كافة.
صادق لبنان على اتفاقية حقوق الطفل عام 1991 من دون أيّ تحفّظ، وقد إنعكس ذلك إيجاباً على المنظومة القانونية الوطنية لحقوق الطفل، لا سيما في إقرار قانون حماية الأحداث المخالفين للقانون او المعرضين للخطر (قانون 422/2002). إلا أن هذا التطور لم يترجم بتغيير جذري في النظرة إلى الأطفال كأصحاب حقوق، ولم يحدّ من إقصائهم في الفضاء العام. أكثر من ذلك، تكرّس هذا الإقصاء ليشمل أيضاً فئات من الراشدين كما سنبيّن لاحقاً.
يتبلور هذا الإقصاء بعدة أساليب. فناهيك عن غياب أي بنية تحتية قانونية تضمن مشاركة الأطفال في صنع القرارات المتعلقة بهم، نجد نظاماً إجتماعياً مبنياً على الأبوية، يتبلور بإتجاهين: الأوّل، في حماية “فائضة” للطفل، حيث ينظر إليه كـ “حامل سلام” لا يجوز إدخاله في العالم السياسي “الوسخ” وتلويث براءته. ولعل السياسية اللبنانية بمعناها الحزبي والطائفي تمنح مجالا خصبا لهذه المقاربة. أما الثاني، فهو في الإستخفاف بإمكانية الأطفال على تكوين آراء سياسية، والنظر إليهم على أنهم “لا يفهمون” بالسياسة أصلاً.
من جهة أخرى، يساهم النظام التربوي بدوره في إقصاء الأطفال عن قضايا الشأن العام عبر سياسات تربوية تهمّش أي تنشئة سياسية للأطفال. فما زال كتاب التاريخ يقف إلى حد الإستقلال (1943)، ومنهج التربية المدنية ما زال تنظيراً قيمياً على الأطفال ولا يعزز بأي شكل الوعي السياسي لديهم ولا يكسبهم مهارات العمل السياسي، وما زالت مناهج الفلسفة تفتقد إلى حد كبير إلى التفكير النقدي. وفي حين أن بعض المدارس باتت تعتمد أنظمة أكثر تشاركية مع الطلّاب، كوجود ممثلين للصف مثلاً، إلا أن ذلك يبقى غير كاف ولا سيما أن هذا النظام غير ممأسس ويبقى رهن الطاقم التربوي، وغالباً ما ينحصر في المدارس الخاصة.
جاء الحراك الطلّابي في ظلّ (وربما بنتيجة؟) عالم من الراشدين تعوّد ألا يستمع إلى الأطفال، مما أنتج شحّا في فرص هؤلاء في المشاركة في العمل السياسي المعترف به. فقلب الحراك الطلّابي المعادلة وفرض قواعد جديدة: السياسية لم تعد حكراً على الراشدين، الأبوية لم تعد بإمكانها إسكاتنا، وعلى المدارس مواكبة تطلعاتنا. هكذا، رفضوا المساومات التي يقوم بها أهاليهم تحت ضغط المدارس (مثلاً، نشر الطالب مالك عبد الخالق على صفحته “فايسبوك” عن تعرّضه للإعتداء من قبل مدير مدرسته بسبب إصراره على التظاهر، علماً أن والد الطالب كان قد أصدر بياناً أنكر فيه الحادث بناء على طلب المدرسة)، وتحدّوا إدارة مدارسهم (الشرارة التي أطلقت هذا الحراك كان تسجيل صوتي للراهبة في عبرا)، حتى أنهم تحدّوا التقاليد الإجتماعية التي ميّزت بينهم (الطالبات الفتيات يلاقين الطلاب البنين). وقد برز دور الفتيات بقيادة هذا الحراك الطلّابي بشكل خاص، ومعه فرضهن لدورهن في المساحات العامة. وكما البالغين، إنخرط الأطفال في الورشة الإصلاحية، فباتوا يناقشون المواضيع المطروحة[3]، ويتوجهون إلى الإدارات العامة الأكثر تأثيراً على حياتهم، كوزارة التربية.
بهذه الأفعال السياسية، إسترجع الطلّاب مواطنتهم التي كانوا حرموا منها. يلتقي هذا الفعل مع “المواطنة من الأسفل” (citizenship from below)[4]، وهي نظرية طوّرها الباحث في حقوق الطفل ليبل، في إطار دراسته لسبل اكتساب المواطنة. فبموجب هذه النظرية، يكتسب الأطفال مواطنتهم عندما يعُون أنهم محرومون من حقوقهم ويتصرفون كما لو كانوا مواطنين كاملين بالفعل. بمعنى آخر، هم ينتزعون حقهم بالمواطنة بالممارسة. بذلك، تشير هذه النظرية إلى أن بناء هذه المواطنة قد يتطلب مقاومة فعلية لممارسات الراشدين[5]، لذا، غالباً ما يتهم الأطفال الذي يجرؤون على اتباع هذا المنحى بأنهم “مواطنون سيئون”[6]. هذا بالفعل ما نقرأه في ردّات فعل السلطة على الحراك الطلّابي اليوم، حيث جاء هذا الردّ في مشهد سرياليّ جسّد تقاطع الأبوية والسلطة، عبر بثّ إشاعات وأخبار “سمجة” عن تحريض الطلّاب من قبل العدو الإسرائيلي حيناً، وتقاضيهم مبالغ مادية ومخدرات حيناً آخر، ليصل الأمر إلى ترويج أخبار عن “إستياء هيئات دولية” من الحراك الطلّابي.
الطائفية “تمدد” الطفولة: هكذا يحرم “البالغون” من حق الاقتراع
“كانت هناك مسيرات وتجمعّات لجميع الأطراف في مواقف السيارات، أمام المتاجر، (…) ، وفي الحدائق العامة (…). معظم المشاركين كانوا صغارا ويبدو أنهم مراهقون، لذا افترضت أن سن الإقتراع في لبنان منخفض “[7]. بهذه الكلمات، وصف الكاتب ج. كوهين زيارته إلى شمال لبنان خلال الانتخابات النيابية عام 2005، ليتبيّن له، أن افتراضه خاطئ.
تبنّى القانون اللبناني سن الاقتراع من القانون الفرنسي خلال فترة الانتداب. وبذلك، حددت المادة 21 من الدستور اللبناني لعام 1926 سن الإقتراع بـ 21 سنة، كما كانت عليه الحال في فرنسا آنذاك. اليوم، ما زالت المادة 21 سارية المفعول بالرغم من تخفيض هذا السن في فرنسا الى 18 سنة، أسوة بأغلبية البلدان (أكثر من 200 دولة تعتمد سن ـ18، فيما خفّضت نحو 7 دول، ومنها بريطانيا، سن الإقتراع إلى 16 سنة).
إلا أن سن الإقتراع ليس وحده ما يقصي الأفراد عن الحياة السياسية. كذلك، قانون الجميعات الصادر عام 1909 والذي يطبّق على الجميعات والأحزاب السياسية على حد سواء – وهو أيضاً مستوحى من قانون الجمعيات الفرنسي لعام 1901- لا يسمح بانضمام إلا من أكملوا 20 سنة من العمر. وحدها جمعيات الشباب والرياضة، وهي الجمعيات الكشفية وحركات الشباب والتربية الشعبية، وجميعات ونوادي الشباب والرياضة واتحاداتها، تسمح بأن يكون المؤسسون قد أتموا الثامنة عشرة من عمرهم[8]، علماً أن هذه الجمعيات تنشأ بترخيص يصدر عن وزير الشباب والرياضة بناء على اقتراح المدير العام للشباب والرياضة وبعد استطلاع رأي وزارة الداخلية والبلديات، مما يؤشر إلى صعوبة إدارية أكبر بإنشائها.
يميّز القانون إذاً بين الرشد القانوني (18 سنة) والرشد السياسي، لا بل أنه يضع مراحل عدة للرشد السياسي: 20 سنة للإنضمام إلى الأحزاب والجمعيات، 21 سنة للإقتراع و25 سنة للترشح. وفي حين أن التمييز على أساس السن غالباً ما يكون مبرراً في ما يتعلّق بالأطفال، فإن تقييد حقوق الراشدين يبقى أكثر إستثنائية، وبذلك يقتضي أن يتناسب مع الخطر الناجم عن ممارسة الحق (مثلاً، الحرمان من التجوّل تناسباً مع خطر أمني، الحرمان من العمل تناسباً مع الحق بالراحة، إلخ.). فما هي الظروف الاستثنائية التي تبرر تقييد الحقوق السياسية للراشدين؟
لا يخفى على أحد ان الهاجس الطائفي هو أبرز أسباب هذا الاقصاء. فغالباً ما تجادل التيارات السياسية بأن خفض سن الاقتراع سيؤدي إلى تعميق الخلل في التوازن الطائفي من حيث زيادة عديد المسلمين في قوائم التصويت بالنسبة إلى المسيحيين. وقد أدى هذا السبب إلى الإطاحة باقتراح قانون خفض سن الاقتراع عام 2010، فيما طالب المعترضون حينها بمقايضة إقرار حق المغتربين بالاقتراع مقابل تخفيض سن الاقتراع، على أساس فرضية قوامها أن أغلبية المغتربين هم من المسيحيين.
إلا أن القوى السياسية غالباً ما تتلطى بحجج أكثر خطورة لرفع تهمة الطائفية عنها. فقد وثّقت الجميعة اللبنانية لديمقراطية الانتخابات عام 2005[9] الحجج التي تستخدم ضد تخفيض سن الإقتراع، ومنها أن الأفراد بين 18 و21 سنة هم أقل اهتماماً بالعمل السياسي من غيرهم، وأنهم غير قادرين على اتخاذ القرارات السياسية، إضافة لكونهم الأكثر عرضة للاستلاب والتأثير.
يأتي الحراك الطلّابي اليوم ليدحض هذا الخطاب. فمن جهة، هو يعيد تأكيد اهتمام فئة الشباب بالسياسة، علماً أن هذا الإهتمام ليس بجديد، بدليل أن للأحزاب السياسية كافة أجنحة شبابية وطلابية (حتى ولو لم تكن ممثلة في القيادة الحزبية[10]). مع الإشارة في هذا المجال إلى أن الإحصاءات التي أجرتها منظمة “خدمات الإغاثة الكاثوليكية” (CRS) في عام 2008 والتي بيّنت أن 80٪ من الشباب مهتمون بالمشاركة والتصويت في الانتخابات البرلمانية والبلدية[11]. من جهة أخرى، فقد أسقط الحراك الطلّابي حجة عدم قدرة الشباب على تكوين آراء سياسة مستقلة، حيث برهن هؤلاء، حتى القاصرون منهم، على وعي ووضوح في الرؤية السياسية.
ولعله من المهم التذكير في هذا الإطار، أن حجج عدم الوعي والقدرة كانت قد استخدمت لإقصاء النساء عن الحياة السياسية في السابق ومنعهن من الإقتراع. وبذلك، فإن إستخدم الخطاب المبني على عدم “وعي” الأطفال لإقصاء فئة من الراشدين (18-21) يؤدي فعلياً إلى “تطفيل” هذه الفئة مع ما يترافق معها من أوصاف بعدم المعرفة وعدم الكفاءة والطيش[12]، وآراء مسبقة خاطئة عن الأطفال والراشدين معاً. ولعل الجوّ العام “المطبّع” مع التمييز على أساس العمر يخلق بيئة آمنة وحاضنة لهذا الخطاب.
يأتي إقصاء الشباب من العالم السياسي من قبل نظام بنى نفسه خلال الحرب الأهلية عبر ميليشيات كان فيها الأطفال عناصر قتال أساسية، وهم لا يزالون يشاركون حتى اليوم في النزاع المسلّح[13]: فالمجتمع الذي يوافق على رؤية أطفاله كمقاتلين وليس كناخبين أو على الأقل كأصحاب حقوق، هو بالتأكيد مجتمع منافق. وبكل الأحوال، من المهم التذكير بأن حق الاقتراع – والحقوق الملاصقة للإنسان بشكل عام – لا ترتبط بأهلية أو وعي حاملها. فهل كل الراشدين يتمتعون فعلياً بالحكمة؟ فلو كان ناخبو الأمس من العقّال فقط، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.
ماذا بعد الحراك الطلّابي؟
إن الحديث اليوم عن “إعطاء” حقوق سياسية إلى الطلّاب قد بات فارغاً: فهم لم ينتظروا اعتراف القانون بهم، وسبقوه إلى الساحات وفرضوا واقعاً جديداً. وقد بات من الضروري أن يتواكب هذا الحراك مع تغييرات وإصلاحات قانونية تلبّي حاجات الشباب.
فمن جهة، يمكن التعويل على “الوثيقة الشبابية” كإنطلاقة أولى للإصلاح. فقد أقرّ مجلس الوزراء في نيسان 2012 ما سمي بال “وثيقة الشبابية”، وهي وثيقة أقرّت في إطار شراكة بين جمعيات شبابية في المجتمع المدني ومجموعة عمل الأمم المتحدة الخاصة بالشباب ووزراة الشباب والرياضة. تضمنت الوثيقة توصيات وخططا واستراتيجيات للإعتراف بحق الشباب في صنع القرار وتأمين الخدمات والتسهيلات اللازمة لدخولهم إلى معترك الحياة العامة. وقد عرّفت هذه الوثيقة الشباب أي من هم بين 15 و29 سنة، وكرّست حقهم في المشاركة في العمل المدني والنشاط السياسي على مختلف أشكاله وتحفيز هذه المشاركة. وقد أوصت هذه الوثيقة، من ضمن عدة أمور، على تخفيض سن تأسيس الجمعيات والانتساب اليها إلى سنّ 15 عاماً، وتخفيض سن الاقتراع في الانتخابات النيابية والبلدية إلى 18 عاماً، وتخفيض سن الترشح للانتخابات النيابية والبلدية إلى 21 عاماً. كما أوصت الوثيقة بإعادة إحياء إتحاد طلّاب الجامعة اللبنانية مع ضمان إجراء الانتخابات بشكل دوري واستقلالية عمل مجالس الفروع ودعم الدولة للجمعيات الشبابية مالياً لتمكينها من المشاركة الفاعلة في الحياة العامة. لم تطبق أي من بنود هذه الوثيقة لحينه.
إضافة لتفعيل وإقرار بنود الوثيقة الشبابية، يقتضي أن يترجم الحراك الطلّابي في المناهج التعليمية، المدرسية والجامعية على حد سواء، وذلك من حيث ترسيخ مبادئ المواطنة وتعزيز التنشئة السياسية لدى كافة الفئات العمرية، كل حسب قدرتها. فقد برهنت الدراسات أن الأطفال يكتسبون الكثير من اللغة السياسية لحياة البالغين بحلول سن التاسعة[14]. ولعل تجربة “المفكرة الصغيرة” كمنصة تشاركية للأطفال خير دليل على أن هؤلاء، وإن منحوا المعلومات والوسائل الكافية لتكوين آرائهم، يبرهنون عن فهم كاف لأكثر القضايا تعقيداً. فالأطفال والشباب لا يعيشون على كوكب آخر: هم الأكثر تأثراً بسياسات اليوم، وحياتهم، أصلاً، مسيسة إلى حد كبير[15].
أخيراً، نأمل أن يشكل هذا الحراك مدخلاً لتعزيز حقوق الأطفال في الحيّز الخاص، وتكريس مصلحة الطفل الفضلى كمعيار أساسي لكافة الإجراءات القضائية والإدارية المتعلقة به، لا سيما الحضانة والوصاية والولاية. فإن الوعي الذي برهن عنه الطلّاب في الحيّز العام يقتضي أن ينعكس في تفهم وإدراك أكبر لحاجاتهم وقدراتهم، وأخذها بعين الإعتبار لإطلاق ورشة إصلاحية للقوانين المتعلقة بهم. ألم يحن الوقت لتكريس مبادئ المساواة بين الأطفال، من دون تمييز على أساس الجنس أو الطائفة أو الجنسية، في القوانين الدينية والمدنية على حد سواء؟ ألم يندد الأطفال بنظام الزبائنية والذي يتجلّى بأبرز حلله في منظومة الرعاية البديلة؟ هل من المعقول أن يستبيح قانون العقوبات أجساد الأطفال ويسمح بتأديبهم؟ أي حماية للأطفال داخل العائلة؟ أي حماية لهم في العمل؟ أي حق لهم بالخصوصية والحياة الخاصة دون تدخل من أحد؟ أي حقّ للمراهقين بالحياة الحميمية دون عقوبات الجزائية؟ أي حماية للفتيات من الزواج القصري؟ نأمل أن تطرح هذه الأسئلة ضمن جو من التشاركية، يؤمن السبل والوسائل الكافية للإستماع والأخذ بآراء الأطفال.
في عام 1974، ألزمت الحركة الطلّابية الرئيس فاليري جيسكار ديستان بتخفيض سن الإقتراع (والرشد) من 21 إلى 18 سنة. فهل سنتبنى التجربة الفرنسية هذه المرة أيضاً؟
- لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
Lebanese Student: We Want to Make History
[1] المفكرة القانونية، الطلاب في طرابلس: الكلمة لنا!، 6 تشرين الثاني 2019.
[2] لجنة حقوق الطفل، التعليق العام رقم 12 حق الطفل في الإستماع إليه، الدورة الحادية والخمسون (2009).
[3] راجع صفحة المفكرة الصغيرة على الفايسبوك لفيديوهات الأطفال حول قانون الوصول للمعلومات، ومشروع قانون استقلالية السلطة القضائية.
[4] Liebel, Manfred (2008) ‘Citizenship from Below: Children’s Rights and Social Movements’ in A. Invernizzi & J. Williams (eds) Children and Citizenship (London:SAGE), pp. 32–43.
[5] Roche. J. (1999). Children: Rights, Participation and Citizenship.Childhood. 6 (1), p. 478.
[6] Milne, Brian (2007) ‘Do the Participation Articles in the Convention on the Rights of the Child Present US with a Recipe for Children’s Citizenship?’ in B. Hungerland et al. (eds) Working to Be Someone (London & Philadelphia: Jessica Kingsley),pp. 205–9.
Smith, Noel, Ruth Lister, Sue Middleton & Lynne Cox (2005) ‘Young People as Real Citizens: Towards an Inclusionary Understanding of Citizenship’, Journal of Youth Studies, 8(4), 425–43.p. 437
[7] Cohen, J. (2007). The Calm Before the Storm, Lebanon 2005. In:Children of Jihad: A Young American’s Travels Among the Youth of the Middle East . New York: Penguin. NA. p.
[8]قانون تنظيم وزارة الشباب والرياضة رقم 629 تاريخ 20/11/2004، المادة 16.
[10] كارمن جحا، دور مجلس النواب في تفعيل مشاركة الشباب اللبناني في الأحزاب السياسية وفي الانتخابات، مشروع التعاون بين مجلس النواب وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2013).
[11] كما وجد الاستطلاع أن 47٪ من الشباب شعروا بأن أصواتهم لم تكن تُسمع وأنهم لا يؤثرون على سياسات اليوم، علماً أن 61٪ شعروا أنه سيكون لهم دور في تشكيل مستقبل دولتهم.
نشرت نتائج الإستطلاع في:
Save The Children, Child Rights Situation Analysis for Lebanon (2008), p. 50
[12] Roche. J. (1999). Children: Rights, Participation and Citizenship.Childhood. 6 (1), p. 477
[13] Macksoud, M.S. and Aber, J.L.. (1996). The War Experiences and Psychosocial Development of Children in Lebanon. Child Development. 67 (1), 70-88.
[14] Stevens, O (1982). Children Talking Politics: Political Learning in Childhood. Oxford: Martin Robertson. 148.
[15] Holzscheiter, A. (2010) Discourses of Childhood – the ‘Communicative Ecology’ of the Child” Children’s Rights in International Politics: The Transformative Power of Discourse. Basingstoke and New York: Palgrave MacMillan. P. 105
“