ارتفعت مؤخراً أصوات احتجاجية بين طلّاب وطالبات كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية – الفرع الثاني ضدّ مدير قسم المسرح السابق جان داوود كشفت عن معاناة صامتة لسنوات عاشها طلّاب الكلية بسبب ما أسموه “استغلال سلطة” انتهجه داوود ضدّ عدد من الطلّاب والطالبات طوال سنوات ترؤسه لقسم المسرح فيها حتى تقاعده في العام 2019. وخرجت هذه القضية إلى العلن بعد استدعاء نعيم الأسمر وهو خرّيج هندسة معمارية في كلية الفنون وباسكال شنيص وشابتين أخريين خرّيجات مسرح في الكلّية نفسها، إلى التحقيق في مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتيّة في 4 حزيران 2021 بعد ادّعاء داوود عليهم بجرائم القدح والذم بسبب تعليقات بشأنه على فيسبوك. وانتهى التحقيق بإصرار باسكال ونعيم على موقفهما ورفضهما حذف تعليقاتهما فيما حذفت الطالبتان الأخريان تعليقاتهما.
ويرتدي هذا الموضوع أهميّة بسبب غياب أي آليّة لدى إدارة الجامعة اللبنانية لحماية الطلّاب والطالبات من ممارسات التنمّر واستغلال السلطة التي قد يمارسها أستاذ على طالب أو طالبة ولمحاسبة المرتكبين بما يضمن عدم تكرار هذه الأمور. وهذا ما يُضغف قدرات الضحايا على الشكوى والتوصّل إلى حلول تحميهم.
لعنة الـ”كلّن يعني كلّن”
بعد أقل من شهر من اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 التي رفعت شعار “كلّن يعني كلّن”، نشرت باسكال صورة داوود مرففة بعبارة: “وإنت يا جان داوود مش ناسيينك” وأضافت وسم #كلّن_يعني_كلّن، باعتباره في موقع سلطة ويعتبر شخصية عامّة بحكم عمله في مجال الإخراج وموقعه في الجامعة اللبنانية كرئيس لقسم المسرح وكونه كان مسؤولاً عن مركز الامتحانات في الكلية ويعود له وضع العلامة النهائية للطلّاب خلال الامتحانات النظرية والشفهية. فبحسب الطلّاب لدى داوود سلطة ترسيب طالب أو إنجاحه في الامتحانات.
تفاعل كثر مع منشورها، وأبدوا تأييدهم لما كتبته باسكال وعبّروا علناً عن دعمهم لها وبعضهم وجّه انتقادات مباشرة إلى داوود وهو ما يمكن وضعه في إطار تأثيرات الانتفاضة التي أخرجت مكنونات كثيرين وشجّعتهم على التعبير عن انتهاكات تعرّضوا لها وبقيت طي الكتمان لسنوات طويلة.
ومن المعلّقين نعيم الأسمر الذي شتم داوود بطريقة فكاهية، وفي تعليقات أخرى على المنشور نفسه أشارت طالبة في الجامعة نفسها إلى أنّ داوود ليس الوحيد الذي يستغلّ سلطته وأنّها تعرف “من هم أسوأ منه”. فتواصلت “المفكرة القانونية” مع نعيم وباسكال ومع طلّاب سابقين رووا تجاربهم التي تحفّظ معظمهم في الوقت الراهن عن نشرها.
باسكال: سنوات من المعاناة والصمت
حين قرّرت باسكال شنيص في تشرين الثاني 2019 أن تنشر منشوراً موجّهاً لداوود كان ذلك بعد سنوات من الصمت إزاء المعاملة القاسية التي تلقّتها منه. فهي التي تخرّجت في العام 2009 آثرت الصمت طيلة الفترة السابقة مؤكدّة لـ”المفكرة” “أنّني شعرت بعد 17 تشرين أنّ الوقت قد حان حتى نفضح كلّ شخص يستغلّ سلطته في غير محلها ويسيء استخدامها. وكانت مرحلة الانتفاضة محطّة أساسية كي نتوقف عن الخوف والخضوع لهكذا نوع من الأشخاص”.
تروي باسكال لـ”المفكرة” بأنّ المتفاعلين مع منشورها “هم غالباً من أشخاص لا أعرفهم لكنّهم كانوا طلّاباً معي في الكلية وقد عبّروا عن تأييدهم لما كتبته وهناك أشخاص أكّدوا لي أنّهم عانوا مع جان داوود لكنّهم غير قادرين على الكلام بعد لأنّهم لا يزالون طلاباً في الكلية ويخشون أن ينتقم منهم ويعرقل تخرّجهم”.
التحقيق معها بسبب منشورها المذكور، كان هادئاً بحسب قولها حيث أكّدت للمحقّقين في مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية “أنّني أنتقد شخصية عامّة وصاحب سلطة وهو ليس كأيّ شخص عادي وشدّدت على حقّي في انتقاده”. وأضافت: “المحقّق كان هادئاً جداً ودوّن ملاحظاتي على المحضر وحين طلب مني حذف المنشور، رفضت تمسّكاً بحقّي في النقد”.
وتعود باسكال إلى المرحلة التي درست فيها فنّ التمثيل في كليّة الفنون الجميلة بين عامي 2004 و2009، حيث تلفت إلى أنّها “بدأت التعامل مع جان داوود كأستاذ وليس فقط كمدير قسم في السنة الثالثة لي في كلية الفنون الجميلة أي في العام 2007 في قسم المسرح”. وتُضيف، “قبلها كنت أسمع وأرى أنّه قاسٍ جداً وأنّه يسيء معاملة الطلّاب فكنت أتجنّبه قدر الإمكان”.
وبدأت المعاملة السيئة، بحسب باسكال، بعد حصول أمر غير مفهوم بالنسبة لها، إذ تلفت إلى أنّه “في إحدى المرّات وضع لي علامة عالية على مادة الدراما التي كان هو يدرّسها، وفوجئ زملائي حينها لأنّ هذا الأستاذ غالباً ما يضع علامات جداً متدنّية للطلاب”. “ولكن بعد ذلك، بدأ يضع لي علامات متدنيّة لأسباب غير واضحة، وقد أرسل لي ذات مرّة مع صديقة أنّه وضع علامة 7 من 20 على مادّة التمثيل التي لا يدرّسها بل هو عضو لجنة التحكيم فيها”. وتلفت باسكال إلى أنّه “لا يحقّ للأستاذ أن يقول للطالب العلامة التي وضعها، فالطالب تصله العلامة النهائية فقط. وهنا لم أفهم ما الغاية من هذه الرسالة وكأنّه يريد أن يُعلمني أنّه ينتقم مني لسبب ما”.
وتروي باسكال حادثة أخرى حصلت معها توضح من خلالها مستوى التنمّر وإساءة المعاملة التي ينتهجها داوود مع الطلّاب: “كنت أجري امتحاناً في إحدى المواد النظرية، فقام بسلبي ورقة المسابقة في أوّل دقيقتين من الوقت وطلب منّي أنا وزميلتي الخروج من الامتحان، وتذرّع حينها أنّنا نقوم باستراق النظر إلى أوراق بعضنا. والمستغرب أنّه طلب منّا الانتظار خارجاً وأعلمنا أنّه يقوم بتأديبنا وسيعيد إدخالنا إلى الصف بعد تضييع جزء من وقتنا كنوع من القصاص. وبعد مرور نحو ساعة من الوقت سمح لنا بالعودة إلى الامتحان، ولحظة دخولنا، سمع داوود أحد الطلاب يتكلّم فطلب منه الخروج من قاعة الامتحان وبشكل غير مبرّر طلب منّا من جديد الخروج من القاعة، ومنعنا من العودة لاستكمال الامتحان”.
وتضيف: “كانت تلك الدورة الأولى من الامتحانات، وفي الدورة الثانية تعمّد ترسيبي على علامة واحدة في مادّة النقد الفني، وبسببه أعدت سنة دراسة كاملة. كنت متأكّدة أنّني أستحقّ أن أنجح وأنا أعلم أنّه تعمّد ترسيبي وتأكّدت أكثر حين أعدت السنة، وكان أساتذتي حين يلتقون بي يتفاجأون أنني معيدة ويستغربون عدم حصولي على تقييم قبل ترسيبي”.
لم تحاول باسكال تقديم شكوى رسميّة لأنّه، بحسبها، حين كانت تلجأ إلى مدير الكلية لشرح ما تواجهه وتفسّر له أنّه تم ترسيبها عن غير حق لم تكن تصل إلى أي نتيجة. وتضيف: “أخبرني زملائي في الجامعة أنّ داوود لديه نفوذ ولا يمكن الوصول معه لأي نتيجة لمصلحة الطالب”. وتتابع: “واجهت تراكمات من إساءة المعاملة والتنمّر المستمرّين. وكنت طيلة فترة دراستي أفكّر في أنّ عليّ أن أحصل على شهادتي فقط ولا أريد أن أخوض معارك خاسرة عبر تقديم شكاوى لا تؤخذ بجدّية من قبل إدارة الجامعة”.
نعيم الأسمر الذي عايش معاناة أصدقائه
لم يكن نعيم الأسمر، الذي خضع للتحقيق أيضاً، طالب مسرح بل هندسة معمارية بالكلّية ذاتها، إنّما عايش مع زملائه في الجامعة المعاناة التي يواجهها طلّاب المسرح ومن بينهم باسكال. ويتحدّث الأسمر عن التحقيق الذي جرى معه بشأن تعليقه على منشور باسكال، قائلاً: “أدليت أمام المحقّقين أنّ لي الحق الكامل في انتقاد أي شخصية عامّة أعرف عنها أنها تسيء استخدام السلطة ولا يقع على عاتقي تأمين الإثباتات، مثله مثل أي شخص في موقع السلطة يتعرّض للنقد”. ويُضيف: “أنا في الحقيقة لا أعرف داوود بالشخصي إنّما أعلم الكثير عنه وعن أسلوبه في التعامل مع الطلّاب والطالبات في قسم المسرح كوننا كنا نلتقي جميعاً في الكافيتيريا ونسمع أخبار بعضنا البعض”.
ويشرح الأسمر أكثر منتقداً إقدام داوود على تقديم شكوى بوجه أشخاص وجّهوا إليه انتقادات أو حتى شتموه بشكل يتناقض مع وظيفته التي تولّاها كرئيس لقسم المسرح. فبرأي الأسمر: “المسرح هو أكثر مساحة واسعة للأفراد للتعبير عن الرأي من دون أي قيود”. ومن هذا المنطلق، “تمسّكت بحقّي في التعبير عن رأيي ولو بالشتيمة، وهو كشخص مسؤول، عليه أن يكون صدره رحب ويتقبّل كافة أشكال النقد الذي يتلقّاه”.
ويلفت الأسمر إلى أنّه سجّل على المحضر رأيه بشكل مريح وأكد للمحققين، “أنني لن أزيل هذا التعليق ولو أنّ فيه كلمات نابية، بل هذا أسلوب مشروع تحت سقف حرية التعبير، وبطبيعة الحال فإنّ الشتيمة ليست موجّهة لشخص داوود بل لما يرمز إليه في الموقع الذي هو فيه بسبب استغلال السلطة”.
انتقم منها بسبب مقالة صحافية؟
شكّل الادّعاء على الطلّاب الأربعة دافعاً لطلاّب سابقين للتعبير عن مواقفهم من هذا الشكل من الانتهاكات التي تحصل في الجامعات، سواء عبر إعادة مشاركة منشور باسكال والتعبير عن دعمهم وتأدييهم لما تقوله أو مشاركة تجاربهم الخاصة.
من بين هؤلاء، الطالبة السابقة في كليّة الفنون نضال أيّوب التي سارعت إلى مشاركة تجربتها عبر صفحتها على فيسبوك حين علمت أنّ داوود تقدّم بشكوى بحق باسكال. وروت التجربة أيضاً في حديث لـ”المفكرة”. تقول نضال إنّها كانت من المفترض أن تتخرج عام 2010، وفي ذلك العام أعدّت تحقيقاً صحافياً ونُشر في ملحق شباب السفير بعنوان “سنوات من الدراسة والشغف.. والنتيجة: عاطلون عن المسرح”. وتناول التحقيق الصعوبات التي تواجه طلّاب وطالبات المسرح من ناحية إيجاد فرص عمل في مجال اختصاصهم ليجدوا أنفسهم في وظائف لا تمثل طموحاتهم، هذا عدا عن التقصير وعدم تحمّل المسؤولية من قبل إدارة الجامعة ولا نقابة الفنانين. تقول نضال إنّ التحقيق “لم يتناول أي أحد بالشخصي في الجامعة، وتضمن مقابلات مع بعض الطلاب، فقام داوود بالانتقام منّي ومارس مضايقات على الطلّاب الّذين شاركوا في التحقيق الصحافي”. وتوضح أنّ الانتقام تمثّل في معاملة قاسية لها بدأت بعد نشرها التحقيق وكانت في سنتها الأخيرة عام 2010 وتتهيّأ لتقديم الامتحانات النهائية ثم التخرّج. وتقول: “كنت أقدّم الامتحانات النهائية ورآني داوود فقال لي حرفياً: حتى لو أجريت امتحاناتك فأنتِ لن تنجحي”. وتُضيف: “وضع إشارة على ورقة الامتحان، وحين غيّرت الورقة عاد ووضع إشارة أخرى”. فهمت نضال أنّ هذه الإشارة كانت ستسمح له بتمييز ورقتها ليتمكّن من استعمال سلطته في إنجاحها في الامتحان أو ترسيبها. وتتابع: “خلال تقديمي امتحاناً ثانياً، كانت الأسئلة باللغة الفرنسية فيما لغة دراستي هي الإنكليزية، فطلبت المساعدة في ترجمة الأسئلة، فرفض داوود أن يساعدني أحد”. وتضيف، “بالنتيجة قام داوود بترسيبي في الامتحانات واضطررت إلى أن أعيد السنة الدراسية إلّا أنّي لم أرد تكرار المواجهة معه، فانتظرت إلى حين تقاعده في العام 2019 لأعود إلى الجامعة وأنهي الماجستير”.
تروي لمى (اسم مستعار) وهي طالبة سابقة في كليّة الفنون لـ”المفكرة” بأنّ: “العلاقة مع داوود كانت دائماً مريبة بشكل لا أعرف كيف أشرحه، وهو ينتقم من الطلاب لأسباب يصعب فهمها، عبر ترسيبهم عمداً في الامتحانات”. تذكر على سبيل المثال أنّه “استحدث مرّة ورشة عمل بعد دوام الكليّة وطلب من الطلّاب حضورها، وكونها غير ملزمة فلم يلتزم بها جميع الطلّاب، فأصبح يتصرّف بشكل عدائي مستمرّ مع الطلّاب الّذين لا يحضرون الورشة”.
حق انتقاد من هم في موقع السلطة
في معرض ردّه على مقالة نشرتها جريدة “المدن” الإلكترونيّة تناولت قضيّة داوود، كان وكيل داوود المحامي رشاد القزّي قد نشر بياناً شرح فيه أنّ “موكله أقام دعوى إثر نشر بوست عار من الصحة على صفحة فايسبوكية”. واعتبر أنّ استهداف موكّله “يعود … إلى مسؤولية سابقة تحمّلها كرئيس مركز للامتحانات، حيث ضبط محاولات غش من قبل بضعة طلاب، فحقدت قلّة من هؤلاء عليه. أو أنّ الضغينة حصلت لتطبيقه القوانين، بمنع غير المُستحقّين التقدّم من امتحان بسبب الغيابات المتكررة عن مادة ما. أو أنّ الكره وقع لأنّ قصوراً ما جعل قلّة ما تعيد مادّة ما درّسها ذات يوم”. ولفت إلى أنّه سأل داوود عمّا إذا أراد متابعة الدعوى بعد إعلامه أنّ شخصين من المدّعى عليهما ينويان حذف تعليقاتهما فأجابه: “أريد الحقيقة كاملة، كفى عبثاً بسمعة الناس وسمعة الجامعة”. وهذا ما يدلّ على أنّ داوود مصر على متابعة هذه الدعوى.
من جهته، يتمسّك المحامي أيمن رعد الذي تولّى الدفاع عن المدّعى عليهم الأربعة ودخل معهم إلى التحقيق بحق الطلّاب في انتقاد أستاذهم الذي يمثل شخصية عامّة. ويقول لـ”المفكرة” إنّ “التكلّم عن شخص وانتقاده أو حتى شتمه على وسائل التواصل الاجتماعي هي من الحقوق المجازة للفرد في حال كان الشخص المستهدف من الشخصيات العامّة ويأتي انتقاده على خلفيّة ارتكابه أفعالاً مخالفة للقانون”.
أمّا عن وجوب إثبات التّهم الموجّهة إلى داوود من قبل الطلّاب فيجد رعد أنّه في المبدأ فإنّ “تعدّد الشهادات ضدّه من قبل أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض يُشكّل داعياً لتفاعل القضاء”. ويُضيف، “اليوم بعدما تبيّنت خلفيّات الانتقادات التي طالت هذا الشخص فإنّ على النيابة العامّة أن تتحرّك وتفتح تحقيقاً في ما نسب للأستاذ الجامعي”. ومن خلال مقارنته هذه القضية باتهامات التحرّش التي ساقتها شابات ضد الصحافي والمسرحي جعفر العطّار ونشرنها على وسائل التواصل الاجتماعي، يجد رعد أنّ “النيابة العامّة في حالة العطّار تحرّكت عفواً، أي بدون تحريك دعوى شخصية من قبل الضحايا، وفتحت تحقيقاً واستدعت الشابّات للاستماع إلى إفاداتهنّ حول تعرّض العطّار لهنّ”. لذلك في حالة الأستاذ الجامعي، يرى رعد أنّ على النيابة العامّة أن تتحرّك ضده أيضاً وتفتح تحقيقاً معه حول التّهم التي وجّهت إليه من الطالبات والطلّاب في كلية الفنون.
ويلفت رعد إلى أنّ “ظروف هذا النوع من القضايا عادة لا تشجّع الضحايا على تقديم شكوى، ولكننا اليوم أمام حالة عبّر عدد من الأشخاص عن أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي لذلك لا شيء يردع النيابة العامّة من التحرّك وفتح تحقيق في هذه الوقائع”.
هل يحمي القانون ضحية التعنيف المعنوي؟
وإزاء حاجة الضحايا الّذين تعرّضوا لنوع من التعنيف المعنوي والتنمّر إلى التعبير عمّا يواجهونه ومحاسبة مرتكبيه، يستحضرنا القانون رقم 205 الرامي إلى تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه الصادر في كانون الأول 2020 الذي ووجه بانتقادات لعدم لحظه مسألة التعنيف المعنوي. وهذا ما يشير إليه المحامي العضو في “المفكرة القانونيّة” كريم نمّور الذي يقول إنّ “القانون لم يأت على ذكر التعنيف المعنوي كأحد أشكال التحرّش، وبالتالي لا يوجد بعد إطار قانوني لحماية شخص من التعنيف المعنوي”. ويذكر نمّور المرافعة النموذجية التي نشرتها “المفكرة” في محاولة لإيجاد آليّة للتعامل مع التحرّش المعنوي لاستصدار حجج يستخدمها المدّعون وهي حجج استخلصت غالباً من قانون العمل والمعاهدات الدولية. أمّا بالنسبة للمؤسّسات التربوية فيعتبر نمّور أنّه “من المؤكّد أنّه بالإمكان إيجاد حجج قانونية من القوانين اللبنانية لتوصيف التنمّر والتعنيف المعنوي”. لكن المشكلة ليست هنا، بل الموضوع يتّصل بإثبات التعنيف والتنمّر وهنا تكمن صعوبة الأمر. ويُضيف، “في حالة الطالبات اللواتي تعرّضن للترسيب المتعمّد، من الصعب تأكيد أنّ الأستاذ تعمّد ترسيبهنّ من دون وجود دليل مثل التسجيل أو الصور”. ويلفت إلى أنّ عبء الإثبات يقع على الضحية التي يكون عليها فعل ذلك بالأدوات الكلاسيكية التي لا تكون دائماً متوفّرة كوجود دليل خطّي أو مصوّر.
ويلفت نمّور إلى أنّ “الشهادات المتعدّدة قد تكون دافعاً لتحرّك القضاء”، في إشارة إلى القضاء المدني، مستبعداً القضاء الجزائي الذي يحتاج إلى جرم جزائي لفتح تحقيق. ومع ذلك، حتى لو تحرّك القضاء فإنّ الحاجة إلى الدليل ضروريّة لتكون النتيجة لصالح الضحيّة في الوقت الذي تغيب فيه آليّة واضحة لتوصيف التعنيف المعنوي في القانون.
وتستدعي هذه القضية استعادة مقابلة أجرتها “المفكرة” مع الدكتورة هلا كرباج الطبيبة المتخصصة في الأمراض العقلية والنفسية والباحثة في علم النفس قالت فيها إنّ التعنيف غالباً ما يُمارسه من هم في موقع سلطة وأصحاب نفوذ على من هم في درجة وظيفية أدنى. وشرحت أنّ “ضحية التعنيف المعنوي يستغرق الوقت لاستيعاب ما يحصل معه، وينعكس التعنيف عليه بشكل سلبي، إذ يشعر بأنّه غير مؤهّل لأداء وظيفته، ويفقد ثقته بنفسه، ويشعر بحالة ضياع…”.
ورأت أنّ مواجهة التعنيف تحتاج إلى أنظمة عمل ترعى حماية الموظّف (الطالب في حالتنا)، وقوانين تعاقبه، كما إلى بعض الجهود الشخصية. ويعني ذلك أن تؤمّن المؤسّسة (الجامعة اللبنانية في حالتنا) بيئة سليمة تُجنّب حدوث أفعال كهذه، ومرجعاً يتمكّن الضحية من العودة إليه لأجل الشكوى.
غياب آليّة محاسبة لردع الانتهاكات
مدير قسم المسرح في كلية الفنون الجميلة الفرع الأول الأستاذ وليد دكروب سبق أن طالب في أكثر من مناسبة بإيجاد آلية للمحاسبة ولحماية الضحايا. يقول دكروب لـ”المفكرة” إنّ “الانتهاكات غير محصورة في كليّة معيّنة، بل هي موجودة في كافّة الكليات كما في الجامعات المختلفة الرسمية والخاصّة”. ويُضيف: “أنا أدرّس في الجامعة اللبنانية منذ نحو 16 عاماً، وأدير قسم المسرح منذ أربع سنوات، ورصدت عدم وجود آلية لحماية الطلّاب والطالبات وأرجّح عدم وجود نيّة لمحاربة هذه الممارسات، فغالباً هناك من يتستّر على الآخر كي لا ينفضح هو أيضاً”. ويشدّد دكروب على ضرورة أن “تشكّل إدارات الجامعات لجاناً متخصصة لتلقّي الشكاوى والتحقيق والمحاسبة، فمن غير المنطقي اليوم أن تبقى الانتهاكات طيْ الكتمان وألّا تتمكّن الضحية من الإفصاح عمّا تواجهه”.
ومن ناحية أخرى، يجد دكروب أنّ الطلاب هم دائماً في الموقع الأضعف، وإن كانت هذه الانتهاكات تؤثر بشكل سلبي على سمعة الجامعة كما تؤدي أيضاً إلى وصم الأساتذة. وعليه فإنّ من يخشى على الجامعة من الوصمة عليه أن يسعى لردع الانتهاكات بدلاً من ردع الإفصاح عن الانتهاكات، وبالتالي محاسبة المنتهكين وليس محاسبة الضحايا. ويضيف: “الطلاب في موقع يحتاج إلى وجود شبكة أمان تمكّنهم من التعبير والشكوى بالطريقة المناسبة بدون أن يمسّ ذلك خصوصيّتهم أو يعرّضهم للانتقام من الأستاذ الذي تعرّض لهم”.
ويؤكّد الطالب علي نجدي حد مؤسّسي النادي العلماني في الجامعة اللبنانيّة، على “عدم قدرة الطلّاب على تقديم شكاوى بسبب عدم وجود هيئة خاصّة لتلقّيها وخشية الطلاب من أن يتمّ الانتقام منهم إذا قدّموا شكوى لإدارة الجامعة، عدا عن سيادة ثقافة لوم الضحية”. ويلفت نجدي إلى أنّ النادي العلماني بصدد البحث في تقديم كتاب إلى إدارة الجامعة اللبنانيّة للمطالبة بإنشاء هيئة خاصّة ووضع آلية محاسبة.
ويؤكد نجدي وجود حالات متعدّدة من التنمّر واستغلال السلطة في الجامعة اللبنانية على وجه الخصوص، مثال، “الانتقام من طالب بسبب آرائه السياسية، ويقوم بذلك إمّا أساتذة عبر ترسيبهم في الامتحانات وإمّا طلاب حزبيين يضيّقون على الطلّاب المعارضين سياسياً ويتنمّرون عليهم ويصل إلى حد ضربهم”، لافتاً إلى أنّ “لهؤلاء الطلّاب قدرة على التأثير على بعض الأساتذة والتلاعب بنتيجة الامتحانات.