طرابلس: خلية نحلٍ لابتكار التحركات ومساحات نقاش


2019-11-01    |   

طرابلس: خلية نحلٍ لابتكار التحركات ومساحات نقاش

أصبح لساحة عبد الحميد كرامي (النور) في طرابلس سكّانها. من يأتي يومياً إلى الساحة يتوجّه بشكل بديهي إلى زاويته كَمَن يضغط على رقم طابق منزله في المصعد من دون جهد ذهني. على الأرصفة، في وسط الساحة أو على الفواصل الترابية، حلقات نقاش دؤوبة وخلايا نحلٍ لابتكار تحرّكات جديدة.

“أبناؤنا للتصدير”

تفضّل أم بلال (64 عاماً) الجلوس بالقرب من أحد الأكشاك متظللة بخيمة. هكذا إذا ما احتاجت أي غرض بإمكانها شراءه أو إذا ما طلبت حفيدتها، المتظاهرة الصغيرة، لوح شوكولا، اشترته لها فوراً.

منذ حوالى الستة أشهر وصلت أم بلال إلى سن التقاعد. كانت مديرة مدرسة رسمية ولم تحصل حتّى اليوم على تعويضها ولا حتى على مساعدة من تعاونية موظفي الدولة: “كنت أشاهد صبايا وشباب يحملون شهادات عُليا، يجولون من مدرسة إلى أُخرى بحثاً عن تعاقد، ولو لساعة دراسية واحدة في الأسبوع.. لا يمكن الحصول على وظيفة من دون واسطة من أحد السياسيين”.

تُكوّر يديها المليئتين بالعروق كأنّها تُجمّع كل ما حملتها طيلة سنوات عملها من صُورٍ مؤلمة. “في قلبي حسرة كبيرة، إبني طبيب مختص في الصحة العامة، لم يجد وظيفة براتب ملائم فقرّر السفر”. تصمت قليلة وهي تمج سيجارتها “نربي أولادنا ونصدّرهم إلى الخارج”.

تلملم أم بلال تعباً قديماً وتحوّله إلى غضب “أنا مع العصيان المدني ولنتوقف عن دفع رسوم الميكانيك والكهرباء والإتصالات وتسكير الدوائر الرسمية حيث المافيات الكبيرة”.

ينادينا شابٌ حوَّل دراجته النارية إلى مقعد. يعرّفُ عن نفسه من دون سؤال: “إسمي بهاء قاسم، عمري 32 سنة، أُوقِفت ثم خرجت بواسطة وهناك ظبط مخالفة بحقي لأنني شاركت بقطع الطريق، أقول من دون خوف نعم لقد قطعت الطريق من قهري”، ويسأل “لماذا لا يمكنني المطالبة بحقي؟”، مؤكداً أنه سيعود لقطعها حتى ولو تعرّض للضرب والتوقيف.

توقيف من نوع آخر شهدته المدينة، إذ تفاعلت مسألة المنصة في ساحة النور في طرابلس. الإعتراضات حول إدارة المنصة توالت لا سيّما بعدما جرى تداول فيديو على مواقع التواصل الإجتماعي يظهر شاباً يقوم بشتم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وقد جرى توقيفه للتحقيق معه. كذلك اعترض المتظاهرون في طرابلس على تحيّات وُجّهت إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، مشددين على أنّ هذا الخطاب لا يُمثّلهم، كما لا يمثلهم الخطاب الذي تعرض لنصرالله.

وعلى إثر هذه الاعتراضات أُقيمت منصة أُخرى في الساحة ووضعت تحت إدارة مجموعة “حرّاس المدينة”.

يسقط حكم المصرف

عشرات المعتصمين افترشوا الرصيف أمام مصرف لبنان على طريق البحصاص في طرابلس. حلقة نقاش و”فتح قلوب”. تناوب المتظاهرون على الكلام عبر المذياع، محاطين بعناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. استطاعت أم زياد شد انتباه جميع الحاضرين بحديثها المؤلم: “أبلغ 55 عاماً، كلفة أيجار منزلي 500 ألف ليرة لبنانية شهرياً، في وقت أعمل في تنظيف المراحيض في أحد مقاهي طرابلس”. لا تكترث لعبارات التشجيع وتُكمل: “أحصل في الأسبوع على 90 ألف ليرة لبنانية. زوجي مريض ولديّ 5 أبناء. أسكن في البداوي وأعمل في طرابلس ولا يكفيني راتبي لدفع المواصلات”. تشارك أم زياد في رفع الصوت أمام مصرف لبنان لأنها طلبت قرضاً ولكنّه جوبه بالرفض في وقت “سمعت على التلفزيون أن كبار المسؤولين يحصلون على قروض بمبالغ طائلة”.

أعطت قصة أم زياد دفعاً لحناجر المتظاهرين: “يسقط يسقط حكم المصرف.. حرامي حرامي، رياض سلامة حرامي”.

يأخذ مُشارك آخر المذياع ويطالب بخطة للسكن وخطة للنقل العام “الدولة لا تُفكّر بالناس ونحن هنا لأنّنا نريد نظاماً اقتصادياً منتجاً وليس ريعياً ومصرف لبنان متهم أساساً بكل ما آلت إليه أوضاعنا المعيشية”.

أما إيلي فيشير إلى ازدياد عدد المشاركين في الوقفة أمام مصرف لبنان مقارنة بالمرات السابقة: “لقد سقط خطاب الفتنة ولن يستطيع أحد تحريف الحقيقة. يجب ألا ننسى من هو معلّم الوتسآب ومعلّم السوليدير”.

بحر المينا ما بينبلع.. بيبلعكم

ينتهي الاعتصام أمام مصرف لبنان. عدد من المشاركين يعود أدراجه نحو ساحة النور وتحديداً نحو خيمة “مدرسة المشاغبين”. الحصة الأولى اليوم تحت عنوان “الأملاك البحرية وملف العقار الوهمي في الميناء”.

تكتمل حلقة النقاش بأشخاص من مختلف الأعمار، يجلسون إما على الكراسي البلاستيكية أو يتربعون على التراب أو الحصيرة. ينطلق النقاش ويبدأ سامر أنّوس (أستاذ جامعي) بسرد تاريخ عقار وهميّ اشترك في “اختراعه وتزوير وثائق ومستندات لتبرير وجوده وزراء وقضاة ومسّاحين وغيرهم”. منذ عدة سنوات رفعت “الحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء” لواء هذه القضية ووضعتها أمام الرأي العام والقضاء، وهي تتابع هذا الملف قضائياً مع “المفكرة القانونية”.

يشرح أنّوس كيف جرى إصدار صك ملكية بأرض هي في الحقيقة في المياه أي أنّها غير موجودة (وهي تقع مقابل مبنى الجامعة العربية في الميناء)، لافتاً إلى وجود عدد من كبار المتواطئين ومنذ سنوات التسعينات.

يلقي أنّوس الضوء على دور وزارة الأشغال العامة والنقل “بدل أن تكون الوزارة المؤتمنة على الأملاك العامة البحرية قامت بتمليك الشاطئ”.

أسئلة وأجوبة بين الحاضرين ومن قاموا بالحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء وتبادل للخبرات حول آليات الضغط التي تساهم في تحويل قضية مُحقة إلى قضية رأي عام. منذ بداية الحوار، بقي علي (14 عاماً) رافعاً يده بحماس شديد. عندما أتى دوره قال: “منيح لي ما عم ياخدوا مصاري من الصياد لأنو عم يصيد بالبحر”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، انتفاضة 17 تشرين



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني