يمرّ كريم في ساحة السبيل، وهي ساحة الهرمل الرسمية حتى بعد أن استحدث مبنى السرايا في القضاء ساحة جديدة إثر افتتاحها في 2006، برفقة والدته التي تمسك بيده وتعبر به إلى الضفة الثانية من الطريق. لا يستطيع الشاب العشريني، عبور الطريق لوحده لسبب بسيط جداً وهو أنّه ولد في الهرمل، المنطقة حيث حق أبنائها في الحياة والصحة والعلم أقل بثلاث مرات من أبناء محافظتي جبل لبنان وبيروت، بحسب دراسة لبرنامج “اليونيسيف” أجريت قبل 30 عاماً.
فقبل 20 عاماً، ولد كريم مصاباً بـ”الصفيرة”، وهي الاسم الشعبي لمرض اليرقان الذي يصيب حديثي الولادة، وتتم معالجته بوضع الطفل في العناية الفائقة تحت الضوء ومراقبته لكي لا يُصيب اليرقان الدماغ بأيّ ضرر أو للتأكّد من عدم الاضطرار لتغيير دم الطفل. عندما ولد كريم لم يكن في الهرمل هناك غرفة عناية مركّزة خاصّة بالأطفال وحديثي الولادة. وأدّى عدم قدرة عائلته على نقله إلى خارج الهرمل إلى تضرّر دماغه وبالتالي إصابته بتأخّر ذهني. اليوم بعد عشرين سنة على ولادة كريم وحظه السيئ، كحديث ولادة غير معافى في الهرمل، وبعد 78 عاماً على الاستقلال، لم تجد الجهات الرسميّة ضرورة لاستحداث غرفة عناية مركّزة بحديثي الولادة في كلّ القضاء.
2006 عام حصول الهرمل على مستشفى حكومي
في العام 1996، حين لم يكن هناك مستشفى حكومي بعد في الهرمل، توفّي أحد شبّان المدينة نتيجة حادث عمل بعد أن عجزت الإمكانيات المتوفّرة عن إنقاذه. يومها وتحت ضغط الرأي العام وفضيحة موت مواطن في نهاية القرن العشرين بسبب الافتقاد للحق في الصحة، قرّرت الدولة تحويل المشفى الريفي إلى شبه مستشفى ووظفت 15 طبيباً خارج 6 و6 مكرّر كما تجري الأمور عادة. ويومها صار المركز يؤمّن معاينات لأطبّاء مختصّين من الطب النسائي إلى الرئة إلى الأعصاب والقلب وغيرهم. جهّزت منظمة الصحة العالمية المركز بغرفة عمليات لم يتمّ تشغيلها لأسباب غير معروفة، وحظيت غرفة الأشعة بالمصير نفسه وكذلك مختبر الدم. وكانت نساء الهرمل قبل هذا المركز يُعاينّ ويلدن خارج الهرمل قبل أن يعود بعض الأطباء الذين تخصّصوا بالطب النسائي إلى مسقط رأسهم في المنطقة.
يقول طبيب من عداد الذين تمّ توظيفهم في هذا المركز إنّ الطبيب النسائي كان يعاين في الشهر نحو 400 سيدة، ممّا يبرهن الحاجة الماسة إلى خدمات مماثلة في المدينة. بعد فترة من تشغيل المركز، تعطّلت آلة التصوير بالموجات فوق الصوتية (echographie) الخاصّة بالعيادة النسائية ولم يتم إصلاحها إلّا بعد سنوات طويلة وبعدما كانت وزارة الصحة قد حوّلت الأطباء الموظفين إلى أطباء مراقبين لحساب وزارة الصحّة وذلك في إثر افتتاح المستشفى الحكومي في الهرمل عام 2006. اليوم، ما زال المركز مفتوحاً ولكنه تحوّل إلى مركز للتدرّن الرئوي (مرض السل) وللترصّد الوبائي، وما زال إيجاره السنوي 25 مليون ليرة لبنانية ولا أحد يعرف ماذا يعمل تحديداً وكيف يخدم الناس وصحتهم.
وبالتالي بقيت الهرمل وقضاؤها من دون مستشفى حكومي لغاية العام 2006 وقبل ذلك كان أهل الهرمل والأودية والجرود يقصدون بعلبك التي تبعد عنهم من 60 إلى 100 كيلومتر (حسب موقع الجرد من مدينة الشمس) لإجراء فحص دم عادي، أو صورة شعاعية. ومن المفترض أن يخدم المستشفى مناطق القاع ورأس بعلبك والجديدة والفاكهة والعين واللبوة وصولاً إلى عرسال التي تقع في منتصف المسافة بين الهرمل وبعلبك.
وحتى لدى استكمال إنشاء المستشفى الحكومي، أدّى اختلاف الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، على المحاصصة في تعيين مجلس إدارته إلى تأخير وضعه في خدمة قاطني القضاء ست سنوات.
ويقول أحد الأطباء في المدينة، ممّن عملوا في المستشفى، إنّه بسبب التأخير في التشغيل أضحت بعض الأجهزة الطبّية خارج الخدمة، وتضرّرت بعض تجهيزاته ومعها أدوية ومحاليل. كما انخسف جزء من أرضيّات السيراميك فيه.
لا رنين مغناطيسي ولا ميموغرافي صالحة
اليوم يقدّم المستشفى الحكومي فحوصات الدم العادية وتصوير الأشعة السينية والتصوير المقطعي ولكنه يفتقر ومعه الهرمل وقضاؤها إلى تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي MRI وPet Scan الخاصّة باكتشاف الأورام، وغيرهما من تقنيات التصوير المتطوّرة. كما يرفض بعض الأطبّاء صورة الثدي الشعاعية أو ما يعرف بـ”الميموغرافي” التي تجرى في المستشفى الحكومي على ما تروي فريال ما حصل معها ومع شقيقتها بفارق 10 سنوات. قبل 10 سنوات، أجرت فريال “ميموغرافي” في مستشفى الهرمل الحكومي وتبيّن وجود ورم في ثديها فقصدت طبيباً مختصّاً بالأورام في بيروت. يومها، رمى الطبيب صورة الـ”ميموغرافي” التي جلبتها معها من الهرمل في سلّة المهملات وقال لها إنّه لا يوجد مستشفى في العالم ما زال يستخدم هذه التقنية في التصوير. قبل شهرين من اليوم تكرّر الأمر نفسه مع شقيقتها إذ رفض طبيبها النسائي صورة الثدي التي أجرتها في المستشفى الحكومي “كلّها ضباب مش واضحة أبداً” وطلب منها أن تقصد مستشفى آخر لإجراء صورة جديدة.
ومنذ تعيين مجلس إدارة لمستشفى الهرمل الحكومي في 2006، لم يتم تغييره رغم أنّ القانون ينصّ على تعيين مجلس إدارة جديد كل 3 سنوات. وعلمت “المفكرة” أنّه لم يبق من أعضاء مجلس الإدارة سوى عضو واحد بينما استقال البقية من دون الإفصاح عن الأسباب حيث اكتفى كلّ من استقال بالقول “لأسباب شخصية”. ويقول أحد المتابعين لملف المستشفى إنّ رئيس مجلس إدارته وهو المدير التنفيذي في الوقت عينه يحتكر كلّ القرارات ويفعل ما يشاء. ويعزو المصدر إلى المدير توظيف العديد من أفراد عائلته “مش بس لأنّهم من عشيرته، كمان لأنّهم إما من الحركة أو مناصرين لها”.
الموت على الطرقات أو بانتظار سرير استشفائي
اليوم وحتى مع وجود مشفيين خاصّين في الهرمل، أحدهما لحزب الله (البتول) والثاني خاص لآل علام (مستشفى العاصي)، ما زالت الهرمل تفتقر إلى غرفة إنعاش للقلب CCU، أو لفحص القسطرة القلبية أو ما يعرف بـ”التمييل”، وحتى لأي عمل جراحي صغير في القلب طبعاً. وتروي سناء فخرالدين أنّ جارهم في الجرد محمود الحاج حسين مات بسبب عدم وجود غرفة إنعاش خاصّة بمرضى القلب: “كان محمود سهران عنّا وذهب لتناول العشاء مع أخوته وفجأة أصيب بنوبة قلبية”. نقل محمود إلى مستشفى البتول وتمّ إسعافه بالمتوفّر ولكن كان يجب نقله إلى مستشفى مجهّز بغرفة عناية للقلب “ما تركوا أهله نائب أو وزير أو أي حدا وما قدروا يأمّنوا له سرير بأي مستشفى”. عاش محمود 4 ساعات منتظراً تأمين سرير خارج الهرمل ثم مات عن عمر 39 سنة.
وكما محمود، نقلت سيدة من الهرمل إلى مستشفى البتول لمعاناتها من وجع في الصدر. قال طبيب الطوارئ إنّها تحتاج إلى تمييل للتأكّد ما إذا كانت تعاني من انسداد في شرايين القلب أم لا. طبعاً هذا الفحص غير متوفّر في الهرمل كونه لا يوجد غرفة عناية فائقة متخصّصة ولا غرفة عمليات للقلب. خاطرت عائلة السيدة بإبقائها في الطوارئ حتى نجح طبيب من أصدقائهم في تأمين سرير لها في مستشفى بالقرب من زحلة على حساب وزارة الصحة. “ومع هيك دفعت العائلة مبلغاً كبيراً للمستشفى من خارج حساب وزارة الصحة. قال مدير المستشفى منستقبلها ع حساب الوزارة شرط أن تدفع العائلة مبلغاً من المال للمستشفى لأنّ وزارة الصحّة ما بتدفع كتير وأوقات بتتأخّر كتير لتدفع”، بحسب ما يروي أحد الأطباء. قبل محمود، وفي كل عام تفقد الهرمل عدداً من أبنائها، وإن كان لا يوجد إحصاء دقيق لعددهم، ولكن في العام 2018 وحده، توفي ثلاثة شبان في غضون شهرين تتراوح أعمارهم ما بين 50 و60 عاماً في أزمات قلبية على الأقلّ على طرقات الانتقال إلى خارج الهرمل سعياً وراء خدمة صحية إنقاذية غير متوفّرة.
نواقص إضافية
هذا الإهمال يطال أطفال الهرمل أيضاً حيث لم تقبل إدارة المستشفى الحكومي بافتتاح غرفة للعناية بالأطفال حديثي الولادة من دون أي مبرّر منطقي. ورشَح أنّ مدير المستشفى الدكتور سيمون ناصرالدين اختلف مع وزير الصحّة حمد حسن حول اسم الطبيب الذي سيتولّى مسؤولية الإشراف عليها، حيث أنّ المدير محسوب على حركة أمل وحسن محسوب على حزب الله. وأسعار التحاليل والصور في مستشفى الهرمل الحكومي تفوق الأسعار في مستشفى البتول. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تكلّف صورة مقطعية للرئة Scan في الهرمل الحكومي 200 ألف ليرة، برغم أنّ الآلة جاءت المستشفى كهبة، بينما تتلقّى البتول 56 ألف ليرة عنها بعد احتسابها على حساب وزارة الصحة و100 ألف ليرة من دون وزارة الصحة، وهكذا دواليك. وهناك فحوصات تغطيها الوزارة ولكن يدفع المريض ثمنها من دون أن يعرف إذا تمّت تغطيتها على حساب الوزارة أم لا. يقول أحد الأهالي إنّه لم يتمكّن من تحمّل كلفة فحوصات ابنته، بينما حضر رجل بسيارة حديثة وتلقّى موظفو المختبر تعليمات من الإدارة بعدم قبض ليرة واحدة منه عن الفحوصات التي أجراها. إحدى المريضات التي عانت من فيروس كورونا، أفادت “المفكرة” أنها كادت أن تموت من الصقيع داخل المستشفى الحكومي حيث لا يتمّ تشغيل التدفئة برغم وجود وقود خاص لهذا الغرض. حتى أنّها سمعت الممرّضات يتهامسن بأنّ الصقيع يشكّل بيئة مناسبة لانتشار ونمو فيروس كورونا. وتقول هذه السيدة إنّه جرى تشغيل “الشوفاج” مرة واحدة خلال تواجدها في المستشفى عندما جاء الوزير لتفقّد القسم: “شغّلوا التدفئة كم ساعة قبل ما يجي الوزير وبس فلّ وقفوها”.
مستشفيات الحالات الباردة
يختصر الدكتور أنور علوه، الذي يطبّب أهل المدينة منذ نحو 40 عاماً، الوضع الصحّي في الهرمل بجملة مفيدة: “المستشفيات بالهرمل للحالات الباردة فقط لا غير، وعلى أبناء المنطقة الذهاب من زحلة وما بعدها في حال حصول أية تعقيدات طبية”. وفي الذهاب نحو بيروت أو حتى زحلة تعقيدات وعوائق إذ أنّ “نحو 15% من سكان المدينة فقط يتمتعون بتغطية صحّية من الضمان أو الأجهزة العسكرية أو تعاونية موظفي الدولة، والباقي بدهم يدبروا حالهم إما على حساب الوزارة أو حسابهم الخاص”، كما يؤكد د. علوه بناء على خبرته الطويلة في التعاطي مع المرضى. أي أنّ الحصول على الخدمة الصحية الجيدة “ليس متاحاً بسهولة في الهرمل ومنطقتها”. ويشير د. علوه إلى وجود نحو 8 إلى 10 مستوصفات في الهرمل ومنها مركز التدرّن الرئوي، ولكن المستوصف في أقصى حالاته يؤمّن دواماً لعدد من الأطباء بكلفة رمزية. ولكن ماذا عن الفحوصات والصور والتحاليل؟ وماذا إن احتاج المريض لصور أو فحوصات لا تتوفّر تقنياتها في الهرمل؟”.
يرى الطبيب النسائي د. عبد السلام شاهين أنّ الحق في الصحة بشكل عام مؤمّن بنسبة 50% في الهرمل “يعني إذا شخّصت لسيّدة أنّها بحاجة لعملية استئصال ليفة من الرحم، يمكنني أن أجري لها العملية في اليوم التالي”، أي أنّ وزارة الصحة غالباً ما تؤمّن التغطية للذين لا يتمتعون بأي تغطية صحية. وماذا لو احتاج أي طفل ولد على يديك، إلى عناية للأطفال؟ يسكت د. شاهين قليلاً ويقول “ما في عناية للأطفال ولا لحديثي الولادة في الهرمل”.
نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل