قبل شهر بالتمام من الذكرى السنوية لجريمة تفجير مرفأ بيروت، لا يزال الجرحى ممن أصيبوا بإعاقات دائمة متروكين ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم، بعد أن تخلّت الجهات الرسمية عنهم وحرمتهم من أدنى حقوقهم. لم يحصل الـ 800 معوّق جراء التفجير(أعلنت الرقم رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً) على الحد الأدنى من التعويضات، أو الحق في الطبابة المجانية الشاملة، أو رواتب شهرية بعد أن أعيق معظمهم عن متابعة أعمالهم وحياتهم وإعالة عائلاتهم. صحّياً، هناك 20 جريحاً على الأقل من بين هؤلاء عاجزون عن إجراء عملية جراحية، إلى جانب تهميشهم وإهمالهم. وعليه، خرج هؤلاء إلى الوقفة يوم الأحد 4 تموز 2021، ليطالبوا بحقوقهم ومستحقّاتهم وبكشف المسؤولين عن التفجير وبرفع الحصانات عن جميع من يستدعيهم القضاء، سواء النيابية منها أو السياسية أو الطائفية.
800 شخص على الأقل استجدّت لديهم إعاقات جرّاء التفجير
ليست المرّة الأولى التي يشارك فيها جرحى تفجير المرفأ بتحرّكات مع أهالي الضحايا، لكن وقفة الأحد الماضي، وهي شهرية دورية منذ وقوع جريمة بيروت ، نُظمت بالتعاون مع “الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً” وأهالي الضحايا عند البوابة رقم 3 للمرفأ، حاملين لافتات كتب على بعض منها: “لا خروج من الكارثة من دون حماية اجتماعية تشمل جرحى انفجار المرفأ”. وحصلت الوقفة بمن تمكّن من الحضور بسبب أزمة المحروقات والأوضاع الصحية السيئة للعديد من بينهم، والتي تؤثر على قدرتهم على الحركة وتلبية الدعوات النضالية.
وإلى جانب جرحى التفجير، حضر عدد من الأشخاص ذوي الإعاقة، بدعوة من الاتحاد، للمطالبة بـ”إنصاف 800 شخص استجدّت لديهم إعاقة جرّاء التفجير والوقوف إلى جانبهم لتحقيق العدالة”، وفق ما قالت رئيسة الاتحاد سيلفانا اللقيس في كلمتها. فبعد البحث في بيانات المخاتير، والمستشفيات، ووزارة الصحة، ووزارة الشؤون الاجتماعية، والجمعيات، ومراجعة دراسة أعدّها الصليب الأحمر تبيّن أن 3% من الأفراد من ضمن 6 آلاف عائلة شملها المسح أصيبوا بإعاقات، وفوق ما أكدت، وبالتالي، يكون الرقم 800 لأشخاص أعيقوا أو تطوّرت لديهم إعاقة كانت موجودة في السابق. و”يبقى هذا الرقم الحد الأدنى الذي استطعنا إحصاءه بالتعاون مع المفكرة القانونية”، بحسب اللقيس.
معوّقو التفجير يعانون التمييز والإقصاء
جاءت اللقيس “لتكشف أكاذيب” حاولت “الدولة” تمريرها من أجل “إلحاق معوّقي التفجير بـ15% من سكان لبنان المعوّقين الذين يعانون التمييز والإقصاء”، كيف؟، تجيب: “أصدرت قانوناً يساوي ضحايا التفجير بشهداء الجيش اللبناني ويحرم جرحى التفجير من مساواتهم بجرحاه بحجّة أنّهم سيستفيدون من مفعول القانون 220/2000 للأشخاص المعوّقين، علماً أنّ هذا القانون المُنتهك من القطاع العام لا يشمل حقوق جرحى التفجير وأهمها الحصول على تعويضات”. يسعى الاتحاد من خلال تحرّك الأحد إلى تفعيل قانون “يُنصف” الجرحى، لا سيّما المعوّقين منهم ويمدّهم بالتعويضات اللازمة ويدرس كل حالة على حدة، “فربّ الأسرة المسؤول عن عائلته ولم يعد قادراً على الإنتاج جرّاء إصابته يجب أن تتبنّاه الدولة وتتبنّى أسرته”، تؤكد اللقيس.
أكثر من 20 جريحاً عاجزاً عن إجراء عملية جراحية
ركّز معوّقو التفجير الأحد على الجانب الصحّي “باعتباره أولوية”، كما تراه اللقيس، لكن، “سنسعى لانتزاع كلّ حقوق المعوّقين بالتدريج”. بنبرة محتدّة، تفيد اللقيس بـ”وجود ما يزيد عن 20 جريحاً جرّاء التفجير لم يجروا إلى اليوم عمليات جراحية، لعجزهم مادياً عن تأمين فرق الضمان الاجتماعي أو فرق وزارة الصحة، وتأمين كلفة الفحوصات المخبرية والأدوية التي لا تغطّيها الوزارة، بالإضافة إلى المبلغ الذي تشترط المستشفى تسديده قبل الدخول”. وتشير في حديث مع “المفكرة” إلى أنّها “تمكّنت من جمع بعض المبالغ من أفراد وجمعيات بعد إطلاقها حملة تبرّعات لتجري عمليات جراحية لعشرة من بينهم”، لكن “هذا لا يكفي لتغطية الكلفة كاملة ومساعدة الجميع”. وتضرب اللقيس مثلاً عن: “تعرّض شاب لخطأ طبّي أثناء إجراء عملية جراحية لرجله يوم التفجير ما اضطره لدخول المستشفى ثانية. وزارة الصحة لم تغطِّ تكلفة علاجه بالكامل فجمعنا تبرّعات لتغطية فرق الضمان. ويحتاج الشاب اليوم إلى عملية مستعجلة لرأسه، فهناك فجوة لا بدّ من معالجتها ونحاول تأمين المبلغ”.
سبق لجرحى التفجير أن نظّموا ثلاث تحرّكات على الأرض بالتنسيق مع “الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً” لانتزاع حقوقهم المبتورة. ويحاولون أن ينتظموا في جمعية تضمّهم، وتحدّد مطالبهم وترفعها إلى الجهات المعنيّة. “بعدنا ببداية الطريق”، تقول اللقيس التي “تدعمهم مع الإتحاد”. لجنة أهالي الضحايا “تقف إلى جانبهم أيضاً لإنشاء جمعية تحكي باسمهم”، وفق ما أفاد الناطق الرسمي باسم اللجنة إبراهيم حطيط. فمنذ البداية “اعتبرنا جرحى التفجير شهداء أحياء وتبنّينا قضيّتهم، لذا نتابع شؤونهم مع وزارة الصحّة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”. ويتأسّف حطيط لعدم تمكّن جرحى التفجير من انتزاع “حقهم الأساسي” الذي يساويهم بجرحى الجيش اللبناني.
الجرحى: “الدولة أهدتني التفجير ثم أهملتني”
توسّطت الطفلة سما الحمد، التي فقدت عينها اليسرى جرّاء التفجير، الجموع المتراصّة. ودعت على من تسبب بمأساتها: “الله ينتقم من يلّي عمل الانفجار وتروح عينو متل ما راحت عيني”. ثم غنّت ابنة الست سنوات ببراءة ووجع أدمعا عيون الحاضرين: “لبنان رح يرجع…”. في حديث له مع “المفكرة” يشير والدها مكحول الحمد، إلى أنّ “المستشفى التي استأصلت عين ابنتي استضافتنا ليوم واحد فقط ثم طردتنا لأنّها تتعالج على حساب الوزارة وليس على حسابي الشخصي”. بعد شهرين، زرعت سما عيناً اصطناعية، وطبعاً ليس على نفقة وزارة الصحة التي تبخل على جرحى التفجير بالطبابة، بل على نفقة الهلال الأحمر الإماراتي.
حال سما كحال عباس مظلوم الذي أصيب بشلل نصفي أثناء تواجده في عمله في مطعم في بيروت. يشكو: “الدولة أهدتني التفجير ثم أهملتني ولم أر شيئاً منها بعد ذلك”. مظلوم أجرى علاجه على نفقة الوزارة، ودفع فرق الضمان من جيبه. لكن، عندما أصيب بمضاعفات في الشهر الثاني بعد الإصابة اضطر أن “يطلب من من الناس تأمين مبلغ خمسة ملايين ليرة حتى يدخل المستشفى التي تركته في الطوارئ إلى حين تأمين المبلغ، ثم ردّ له الضمان مليوني ليرة فقط”. اليوم يعاني مظلوم من التهابات “تبشّر” بدخول المستشفى مجدداً، لكن، كيف سيؤمن هذه المرة المبلغ المطلوب؟ يجيب: “أطلب من إخوتي وأقاربي لكنني لن ألجأ إلى وزارة الصحة”.
إنّها المرة الأولى التي يلتقي فيها مظلوم بعوائل الضحايا، ينظر إلى صورهم تحملها أيادي ذويهم ويردد: “يا حرام”. يتأسف على حاله أيضاً: مقعد على كرسي متحرّك وإلى جانبه أولاده الخمسة أكبرهم يبلغ من العمر ثماني سنوات. ثم ينظر إلى عناصر من قوى الأمن ترتدي سترات مكتوب عليها: “أمن دولة”. ويقول: “ما في أمن ولا في دولة. لو في أمن ما كان صار الانفجار. ولو في دولة ما كنّا متروكين بلا تعويضات ولا حقيقة”.
عبد الرحمن بشناتي الذي بُترت رجله اليسرى جراء التفجير يوافق مظلوم الرأي ولا يؤمن أن الحقيقة ستظهر. بشناتي عنصر في الدفاع المدني خسر رجله في مركز الدفاع المدني في الباشورة التابع لبلدية بيروت عندما كان يستعدّ للمشاركة في إطفاء الحريق في المرفأ. يسأل: “أنا خدمت البلد عشرين عاماً ثم أصبت في طريقي لإنقاذ الناس ألا يحق لي أن أعوّض عن هذه الإعاقة التي ستلازمني؟ ألا يحق لي تخصيص راتب شهري بعد أن صرت عاجزاً عن العمل؟ ألا يحق لي أن أنال خدمات صحية مجانية؟”.
خطوة أولى في مسيرة الألف ميل نحو الحقيقة
يتقدم أهالي الضحايا خطوتهم الأولى في مسيرة الألف ميل لمحاسبة المسؤولين عن التفجير، كما يرون، تزامنا مع تقدم المحقق العدلي في قضية التفجير القاضي طارق بيطار باستدعاءات أولية “تراعي كل الجوانب والأصول القانونية في الشكل والمضمون بما لا يسمح بالهروب باتجاه موجة الاستنسابية”، كما جاء في كلمة لحطيط خلال الوقفة. خطوة بيطار “المحفوفة بمخاطر التسييس وألغام التمييع والتضييع” أثلجت قلوب الأهالي التي أضناها طول الانتظار، فنوّهوا، على لسان حطيط، بـ”بجرأة بيطار ومهنيته وكفاءته”. وتوجّه حطيط إلى بيطار الذي “يتعرّض للتهجّم”: “امضِ بكل عزم وقوة في طريق الحق والعدالة وسنكون سيفك الذي تحصد به كل المجرمين والفاسدين والقتلة “. وشكر حطيط نقابة المحامين، وعلى رأسها النقيب ملحم خلف على “مجهودهم وتعبهم ومتابعتهم لقضية التفجير التي لم عادت قضية إنسانية تخص مجموعة وإنما قضية وطنية”.
لا للحصانات النيابية والحمايات الطائفية
من جهة ثانية، وجه حطيط كلاماً حادّاً إلى وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي على خلفية ما أشيع في وسائل إعلامية حول تغيير فهمي لموقفه بإعطاء الإذن بملاحقة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والقول إنه لم يصله شيئا رسميا حول الإدعاء على الأخير، وإلى حين يصله سيتم تحويله إلى الدائرة القانونية فإما يقتنع به ويوقع عليه أو لا يوقع، فجاء رد حطيط من باب الاستنكار لأي استنسابية في منح إذن الملاحقة، مؤكدا أنه “لن نسمح هذه المرة بحماية أحد من المتهمين تحت مظلة الحصانات والحمايات خاصة الطائفية منها”. وشدد على “رفع الحصانات من دون تلكؤ عن أي نائب يستدعيه بيطار للتحقيق معه”، معتبرا أي كتلة نيابية لا تصوت على رفع الحصانة “شريكة في الجريمة”.
رئيسة جمعية أهالي الضحايا ماريان فودوليان جددت في كلمة لها خلال الوقفة مطلب الأهالي ب”رفع الحصانات سريعا وإعطاء إذن الملاحقة من دون تأخير أو لعب على الوتر السياسي والطائفي”. وأشادت بـ”جهود” بيطار معلنة “دعمها له حتى النهاية”. وقالت والدة الشهيد الياس خوري ميراي خوري إن “رفع الحصانة هو امتحان العدالة للقضاء والمجلس النيابي”. خوري استنجدت بعواطف النواب وزوجاتهم: “انظروا إلى أولادكم، كيف ستطلبون من الله أن يحميهم بينما نحن متروكون بلا عدالة؟”.
عند الساعة السادسة وسبع دقائق مساء، بتوقيت التفجير، أضاء أهالي الضحايا الشموع قبل أن يتوجّهوا إلى المجلس النيابي الذي صار “هدفا لهم”، على حد قول حطيط. الأخير حمّل مسؤولية إزهاق دماء ضحايا التفجير للنواب، وكرر من أمام بوابة المجلس المقفلة: “ليس هناك حصانات ولا حمايات، هذه المرة الثانية التي نوجه إليكم إنذارا حتى لا نصطدم بالقوى الأمنية التي لا ذنب لها”.