“عندما يتحدّث علي عن الرابع من آب يبدو وكأنّه يتحدّث عن فعل غبن مستمر ولا نهائي: “ابنتي رحلت وصورتها شاهدة على وجعنا، أنا أصبحت معوّقًا وهذا واقع لن يتغيّر يومًا، واقع زاده كوني غريبًا، ليتني أستطيع محو ذلك اليوم والعودة إلى حين كنت قبله”.
“هذه صورة ابنتي سيدرا (16 عامًا)” يقول علي الكنّو (44 عامًا) “خسرناها في انفجار الرابع من آب، هذه ابنتي هدى تحتاج إلى عملية جراحية في رقبتها، وهذه زوجتي فاطمة تحتاج إلى علاج لظهرها، وأنا فقدت النظر في عيني اليسرى والسمع في أذني اليمنى، وإصابة رأسي أثّرت على التوازن، أقع باستمرار، كلّنا في هذه العائلة ضحايا الرابع من آب”.
يتحدّث علي وهو سوري الجنسية لـ “المفكرة” كيف جُمعت بعائلته كلّ مآسي الانفجار، وكيف تكون المآسي أكثر إيلامًا وأصعب عندما تُصيب “الغريب”. ويوضح: “أنا سوري يعني أنا غريب، وهذا ما أدركته منذ الأيّام الأولى التي تلت الانفجار” يقول، راويًا كيف اشترطت عليه إحدى المستشفيات وبعد أيام قليلة من الانفجار دفع مبلغ مالي مقابل بقائه فيها وهو الذي كان يُعاني نزيفًا في الرأس، وكيف تدخّلت إحدى الصحافيات التي صودف وجودها في المستشفى فتواصلت مع وزارة الصّحة التي بدورها أعادت تذكير المستشفى بضرورة استقبال جميع جرحى الانفجار وليس اللبنانيين منهم فقط.
لا يذكر علي الكثير من ذلك اليوم سوى أنّه كان يُشاهد حريقًا شبّ في المرفأ من منزله الكائن في مبنى مواجه مباشرة للمرفأ حيث كان يعمل ناطورًا. “أغمي عليّ فورًا ولم أصحُ إلّا بعد أيّام” يقول. أمّا زوجته فتذكر كيف وقعت على الأرض من عصف الانفجار وكيف استفاقت بعد دقائق لترى أبناءها وزوجها على الأرض جنبها ودماؤهم تسيل. “نظرت إلى هدى رأيتها تتحرّك، نظرت إلى زوجي، نظرت إليهم واحدًا واحدًا، كلّهم كانوا يتحرّكون إلّا هي، إلّا سيدرا، عرفت أنّها ماتت”.
تشعر فاطمة بغصّة وحرقة لأنّها لم تستطع توديع سيدرا، فحين سحبوها من جنبها لم تقوَ على الحركة ولم تتمكّن من الطلب من حامليها أنّ يقربوها منها لتقبّلها. “دُفنت وأنّا في المستشفى، لم أحضر إلى قبرها، لم أضمّها، دُفنت ولم أتمكّن من توديعها، دُفنت في لبنان في البقاع، كنت أريد أن أدفنها في سوريا كي لا نتركها وحيدة يوما مًا، موت الغريب أصعب”. تقول
تُشير فاطمة إلى صورة لسيدرا معلّقة وسط غرفة تُقيم فيها العائلة، تتحدّث عن كيف تشرُد في الصورة وتتخايل ابنتها عروسًا. “عمرها اليوم عشرون عامًا، الفراق صعب جدًا، بالأمس أحضرت ثيابها، ضممتها وشممتها طويلًا، سيدرا رحلت، استُثنت من التعويضات لأنّها سوريّة، لا شيء يعوّض رحيلها، ولكنّ فكرة استثنائها مؤلمة، فالانفجار لم يميّز بين لبناني وغير لبناني”.
موضوع التعويضات أيضًا يتحدّث عنه علي معتبرًا أنّ التعويض لن يُعيد سيدرا ولكنّ استثاءها منه يُشعر العائلة وكأنّ ابنتهم غير مرئيّة، هذا فضلًا عن أنّ هذا التعويض أو حصول العائلة على راتب شهري يُساعد بعلاج باقي أفراد العائلة الذين كانوا ضحايا للانفجار أيضًا، ومنهم هو، مُعيل العائلة الذي بات غير قادر على العمل كما السابق. “لا زلت أعمل ناطورًا، ولكنّي لم أعد أستطع القيام بأي عمل إضافي كان يمثّل دخلًا إضافيًا لعائلتي قبل إصابتي” يقول.
توقّف علي ومنذ فترة طويلة عن متابعة علاجه وبطبيعة الحال عن تناول أدويته نظرًا لعدم قدرته على تأمين كلفتها، وهو يعلم أنّ هذا يعني إمكانيّة تدهور وضعه الصحي ولاسيّما بصره. “يجب أن أتناول وباستمرار دواء يساعدني على التوازن، سعره تقريبًا 20 دولارًا ولكنّني لا أستطيع تأمينه، توقّفت عن تناوله، ولا أجري فحوصاتي الدورية للسمع والبصر”.
كما علي توقّفت زوجته عن متابعة علاج ظهرها وقدمها المتضرّرين من تفجير الرابع من آب” لا أستطيع المشي بشكل صحيح، أعرج كما ترين، أمّا ظهري فيؤلمني طوال الوقت ويُعيق حركتي، أكتفي بتناول المسكّنات”.
بالإضافة إلى علي وزوجته تحتاج ابنتهما هدى (15 عامًا) إلى عملية جراحيّة ثانية في رقبتها بعدما كانت أُجريت لها عملية بعد تفجير المرفأ مباشرة على إثر إصابتها بالتفجير، وكانت العملية على حساب إحدى الجمعيات. ولأنّه لا يستطيع تكبّد كلفة العمليّة الثانية، قرّر علي تأجيلها إلى أن تسمح الظروف بذلك، أو “إلى أجل غير مسمّى ” كما يقول.
ما يزيد معاناة هذه العائلة وكما يقول علي، هو أنّه تمّ استثناؤها من مساعدات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين منذ خمسة أشهر تقريبًا بعدما اضطّرت الأخيرة إلى تخفيض عدد العائلات السورية اللاجئة في لبنان المستفيدة بسبب التمويل”.
ويُشار إلى أنّ السلطات اللبنانيّة أصدرت قوانين ومراسيم عدّة لمنح أهالي الضحايا مساعدات مالية، منها لم يميّز بين ضحية لبنانية وأخرى أجنبية مثل مساعدة الهيئة العليا للإغاثة البالغة 30 مليون ليرة لبنانية لورثة كلّ ضحية فوق العشر سنوات من العمر، والقانون رقم 196 /2020 الذي سمح لهم بالاستفادة من التعويضات والتقديمات المقدمّة لأهالي شهداء الجيش، فيما ميّز القانون رقم 194/2020 بين اللبناني والأجنبي في نصّ المادة الثامنة منه لجهة الاستفادة من تقديمات صندوق الضمان الاجتماعي وتغطية وزارة الصحّة.
حصلت العائلة على الملايين الثلاثين من هيئة الإغاثة، إلّا أنها استُثنت من تطبيق القانون 196/2020، كسائر الضحايا الأجانب الذين لم يحصلوا على راتب شهيد بالجيش اللبناني كما نصّ القانون على الرغم من عدم تمييز نصّه بين لبناني وغير لبناني.
عندما يتحدّث علي عن الرابع من آب يبدو وكأنّه يتحدّث عن فعل غبن مستمر ولا نهائي: “ابنتي رحلت وصورتها شاهدة على وجعنا، أنا أصبحت معوّقًا وهذا واقع لن يتغيّر يومًا، واقع زاده كوني غريبًا، ليتني أستطيع محو ذلك اليوم والعودة إلى حين كنت قبله” يقول.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.