“صيدنايا” باب الجحيم في سورية: 4 ملاحظات حول عمق المأساة واستغلالها لبنانيًا


2024-12-13    |   

“صيدنايا” باب الجحيم في سورية: 4 ملاحظات حول عمق المأساة واستغلالها لبنانيًا

تفتح المفكرة القانونية صفحاتها لنشر مقالات رأي بشأن التحدّيات الحقوقية والاجتماعية للتطوّرات الحاصلة في سورية ولبنان وفلسطين والأسئلة الملحّة التي تطرحها. هذه المقالات التي تهدف إلى إثراء النقاش، لا تعبّر بالضرورة عن رأي المفكرة القانونية (المحرّر). 

1- مقارنات بين الجمال والبشاعة وبين البشاعات

كم هو جميل دير سيدة صيدنايا الذي تعود إشادته إلى عام 547 ميلادي ويقع على بعد 35 كلم في شمال شرق دمشق على تلته المشرفة على البلدة وداخله الشاغورة (وهي إحدى الأيقونات المنسوبة للإنجيلي لوكا. وكم هو قبيح سجن صيدنايا الذي لا يبعد عنه كثيرا، ببناءيه الاثنين، واحد على شكل حرف الL اللاتيني وهو مخصّص لاعتقال جنود معاقبين والآخر على شكل نجمة ثلاثية للمعارضين المدنيين. وإذا كان الدير يبدو بجدرانه البيضاء كأنه يتنطّح ليدرك قبّة السماء، يشعرك السجن بلونه الرماديّ وشكله اللولبي أنه لا يطمح إلا للغوص في أدنى طبقات الجحيم. 

بعد ذلك، المقارنة لم تعد تجدي نفعًا. المقارنات التي قد تجدي هي في مكان آخر: أسوة بشكله، لعب سجن صيدنايا ثلاثة أدوار دفعة واحدة. “ثلاثة بواحد”‘ كما كانت تقول دعاية لمسحوق غسيل شهير في الستينيات والسبعينيات. دور “المسلخ البشري” ومعمل للتعذيب واخيراً مركز للاعتقال. على سبيل المثال، من الممكن مقارنة صيدنايا بمعسكر أوشفيتس Auschwitz  النازي. هذا الأخير أكبر بكثير، وهو محاط بخمسين معسكر أصغر. أوشفيتس كان يلعب دورين فقط: أولاً، دور الإبادة من خلال القتل الممنهج بواسطة الغاز أو الحرق بواسطة الأفران. أما الدور الثاني فكان دور المعتقل لتجميع يد عاملة مجانيّة يستعين بها النازيون عن جنودهم الموزّعين على جبهات القتال. وليس تقليلاً من بشاعة صيدنايا القول أن أداءه يعدّ “حرفيّا” بالمقارنة مع “تصنيع” أوشفيتس حيث مرّ ملايين الناس وحيث تضاهي ضحاياه المليون، وأكثرهم من اليهود. أيضاً 

وإذ مورست في صيدنايا أساليب تعذيب “كلاسيكية” رائجة في كل الأمكنة والأزمنة من تعذيب جسدي ونفسي وجنسي الخ… وهنا أيضا. ليس تقليلا من بشاعة صيدنايا إنما تذكير بأنها لم تصل إلى درجة تفنّن الجنرالات الأرجنتينيين في السبعينيات والثمانينيات والمدرّبين في الولايات المتحدة والذين أدخلوا فئران في الأعضاء التناسلية للمعتقلات وأحياناً أمام أزواجهم، أو رموا المعتقلين أحياء في المحيط من الطوافات والطائرات أو خطفوا رضّعا  فور ولادتهم  ليتم “زرعهم” في عائلات عسكرية. 

كما يمكن من دون التقليل من بشاعة صيدنايا التذكير بأنه يوجد حتى اليوم في دول مسمّاة نامية ولكن أيضاً في دول “حضارية” وحتى غربية أبشع وأقسى وأشرس منه في تعاطيه مع المعتقلين. في الوقت ذاته، لا شكّ لديّ أنّه كلما تمّ توثيق ما حصل داخل صيدنايا، سيتدرّج “وحشه” في سلم ترتيب البشاعات وقد ينال أيضاً ألقابا و”أوسكارات ” لقدراته الخلاقة. ولكن الأهم – ربما المهم الوحيد – هو أن نستخلص ما حصل لكي يقول الشعب السوري بالفم الملآن وبكل اطمئنان أن ما حصل لن يحصل  Nunca más (كما يقول الأرجنتينيون) أي أن ما حصل لن يحصل ابداً بعد اليوم.

2. من هيكلية النظام إلى قضية المفقودين

من الطبيعي والمنطقي والإنساني والمستحسن أن تشمئز النفس الإنسانية ممّا رأته أو ستراه بعد في دهاليز “مجمّع” صيدنايا. والعكس كان ليكون هو المستغرب  لو تقبل المرء هذه المشاهد ببرودة. ورغم كونه المعتقل الأشرس والأكبر والأكثر رمزية، ليس معتقل صيدنايا إلا غيضا من فيض، إلا رأس جبل الجليد لشبكة سجون ممتدّة في كل محافظات سورية (مثل سجن تدمر الذي أسسه الفرنسيون عام 1920 حيث حصلت مجزرة رهيبة عام 1980 أو سجن فرع فلسطين أي القسم 235 التابع لمخابرات الجيش، أو سجن عدرا أو غيره). ولكل هذه الشبكة موقعها ووظيفتها في “مملكة الصمت” كما وصفها المحارب القديم ، “ابن العم” ( رياض الترك) -تحيّة لروحه-. وهو نظام متكامل لم يعرف بالرغم من الفرص التي أعطيت له إلا أن يعرض على معارضيه لوحة من الخيارات تبدأ بالاعتقال وصولاً إلى الإعدام مروراً بالتعذيب. وهو النظام نفسه القائم على التخويف الذي جند جيشاً موازياً من سلالة “الشبيحة”،  ذات الأدوار المختلفة: هنا شبيحة بصفة مخبرين وهم “آذان الجدران”، وهناك شبيحة مافيويون  يلتصقون على هامش أي مشروع منتج ل “مصّ دمه مثل الطفيليات”. وهنالك شبيحة ميليشياويون يتطوّعون للقيام بالمهام القذرة التي لا يريد أهل النظام أن تتسخ أياديهم بها. هكذا ينشأ نظام هرمي على رأسه الطاغية لا “رقم 2” فيه، بل عدد “أرقام 5 أو 6” يتنافسون بين بعضهم على رضى الرئيس، وكل واحد على رأس جهاز يراقب الآخرين الذين يراقبونه بدورهم. وأنشئت هذه الهيكليّة وكذلك شبكة السجون على قاعدة الصراع السياسي وأحياناً المسلّح القائم مع الأخوان المسلمين (والقوى الديمقراطية الأخرى) منذ السبعينيات. ومن أجل خوضه، حوّل النظام الأسدي ما يسميه “ائتلاف الأقليات” الذي ادّعى حمايتها إلى بوليصة تأمين له وإلى آلة لتخويف الناس من بعضها البعض، يتبدّى حتى الآن (دقّوا ع الخشب) زيفها. هكذا، دام “نظام صيدنايا” أكثر من نصف قرن تقاسمه الأب (30 سنة) والإبن (24 سنة)، وهي حقبات طويلة تنتمي أكثر إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر منه إلى القرنين العشرين والواحد والعشرين، ما جعل قسما كبيرا من السوريين الذين أدركوا سن الرشد عام 1970 (مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة) وغادروا الدنيا بالموت الطبيعي لم يعرفوا في دنياهم إلا تسلّط هذه العائلة. من هنا أيضا الذهول، ومن هنا أيضاً الصدمة…وعلى أهمية خلع أبواب السجون، لم يُستوعب بعد معنى الفارق المريب بين عدد المعتقلين في السجون وعدد الناجين الخارجين منها. هنا أيضاً، عامل الوقت وتعفّن النظام وانهيار المجتمع، كلها عوامل لعبتْ دورًا في ما وصلت  الأمور إليه. إذ أن صيدنايا 1987 غير صيدنايا 2011 وغير صيدنايا 2024، فكأنما آلة الموت أفلتت من قيودها مع تدفق عقارب الوقت قبل هيجانها كما تدلّ مجموعة صور “سيزار” بعشرات الآلاف. عاجلاً قبل آجلاً، ستفتح صفحة في سورية تتطلب آليات وتقنيات وتشريعات للكشف عن مصير ناس  قد ترتفع أرقامهم إلى عشرات الآلاف. في الدول النصف بربرية، المفقودون يوما من الأيام نكتشفهم معتقلين. في دول أخرى – يا للهول- المعتقلون يتقمصون مفقودين.

3- من علاقة الطبقة السياسية اللبنانية بالنظام الأسدي

بعض الملاحظات اللبنانية السريعة إذا صح التعبير، لا لسبب فقط لئلا يلوث دخان “الأراكيل المعسّلة المحلية النتئة” نقاوة ما يحدث هناك… بداية، لا لا، لم يتحرّر لبنان منذ ثلاثة أيام: إما كان محرراً وإما لم يتحرر بعد؛ اختاروا السردية التي تفضلون. ولكن في الحالتين، تخلّوا عن السردية التي تريد أن توحي لنا (وأحياناً  تقولها صراحة) بأن آخر حلفاء نظام الأسد (تحديداً حزب الله ) “مسؤول” عن سجن صيدنايا. هذه محاولة معيبة للرسملة فوق عذابات الآخرين والأهم لحجب مسؤولية كثيرين من خلال مركزة المسؤولية في بعض القوى دون سواها. حزب الله مسؤول عن أشياء كثيرة في سورية بدءا من صعوده إليها أو عن أي انتهاكات قد تكون حصلت في منطقة القصير والزبداني وغيرهما، وصولاً إلى الاستماتة من أجل إطالة بقاء الطاغية. أما عن سجن صيدنايا، فمن المهمّ أن نتذكر أن السجن أنشئ عام 1987، وحلفاء بيت الأسد في لبنان أطياف وطبقات مكدّسةً لا تحصى قبل وبعد ال 1987 بدءاً من القوى التي دعته إلى لبنان والتي سلّمته معتقلين لديها من الأخوان وأهدت الضباط السوريين  قطع أسلحة “مميزة” لكي يحتفظوا بها (من؟) والتي نسقت معه لاقتلاع العماد ميشال عون من بعبدا، وصولاً إلى اليسار الذي حارب معه خلال فترة ضد التوحيد في طرابلس، ومروراً بغيرهم وغيراتهم من سياسيين أغرقوا المسؤولين السوريين بالهدايا والسيارات ومن “سياديّي اليوم” الذين كانوا يخيّمون عند غازي كنعان ليلاً نهاراً أو من عونين بدأوا يتاجرون مع النظام الاسديّ بعد انتهاء المتاجرة ب “حرب التحرير”… واللائحة تطول والنماذج لا تحصى ولا تنتهي. نماذج، نماذج… أيها المحققين الجدد، ماذا تريدون؟ حلفاء ما قبل ال87 مسؤولون عن مجازر سجن تدمر، وحلفاء ما بعد ال87 عن مجازر سجن صيدنايا…الحقيقة تقال إن من لم “يعرّص” في لبنان مع نظام الأسد هم قلّة أفراد… وبعض اتجاهات أخوانيّة والبعثيين العراقيين… المسؤول الأول والأخير عمّا حدث داخل سجن صيدنايا هو النظام الأسدي ومن ستحدّده العدالة الانتقالية التي نأمل أن تتوفّر ظروف ملائمة لإجرائها في سورية.

4- عن علاقة المفقودين في سورية بقضية المفقودين في لبنان

على المنوال نفسه، أي بعد تجديد الطلب للقليل من الحياء، وفيما تعمل لجنة أهالي المفقودين من دون كلل ليلاً نهاراً بقدراتها المحدودة للتدقيق بالأسماء التي يتمّ رميها عشوائيا على وسائل التواصل الاجتماعي،  ولترشيد  قدر الإمكان انتظارات الأهالي ولتحفيز دولتنا الغائبة للقيام بدورها وتحمّل مسؤوليّتها والاتصال  بالهيئات الشقيقة في سورية لطلب مساعدتها والتنسيق معها، قامت ولم تقعد همروجة مقرفة تلحّنها وتخرجها  ميليشيا سابقة بالتنسيق مع إحدى القنوات التلفزيونية لاستغلال الموضوع وتحويله إلى “كرنفال” مقيت وغثيان والدوران به في الشوارع حتى قيل عن حق “في حزب مشارك باخفاء لبنانيين عم يبرم بالسيارات احتفالا بسقوط نظام أخفى لبنانيين”. كل الصلوات والتمنّيات لخروج أيّ كان من “كوريدورات الموت” بكامل صحته الجسدية والنفسية، ولكن ولوضع الأشياء في نصابها، أسمح لنفسي بالاستلهام بروح غازي عاد – وهي ساطعة وشفّافة كشخصه، (التحية له)، وأنا اتحمّل مسؤولية الملاحظات بين هلالين بعد كلامه. ففي حين كلّفه الجنرال ميشال عون (قبل أن يصبح رئيساً) بعد خروجه الأول من قصر بعبدا بمتابعة ملف المعتقلين العونيين في سورية، أخبرني غازي ذات مرة أكثر من عشرين سنة بعد هذا التكليف “سرعان ما اكتشفتُ أن العونيين المعتقلين أو المفقودين قلّة بين الموجودين في سورية (أكثريتهم من بيئات أخوانيّة أو  بعثية عراقية، وقد فقدوا في السبعينيات والثمانينيات) وسرعان ما استوعبت أن المفقودين في سورية قلة قليلة بالمقارنة مع المفقودين في حروبنا اللبنانية (1 إلى 5% لا أحد يدري). وتابع غازي: “منذ ذلك اليوم، بدأت أعمل على هذا الأساس”. 

ضيعانك يا غازي، ضيعانك يا آدمي، كم قلائل أمثالك. الآن، يا شباب، من يهمّه عن جدّ موضوع المفقودين  لا ينتظر فتح سجن صيدنايا للتحرّك. لدينا قانون أقر منذ 5 سنوات في مجلس النواب وقد نتج عن نضال عقود خاضته باللحم الحي لجنة أهالي المفقودين وهو ينتظر التطبيق، هو قانون لا يقاضي أحدا على ارتكاباتِه، بل يطالب كلّ شخص لديه معلومات عن مصير مفقود أو عن مكان مقبرة جماعية أن يقدّمها للهيئة الوطنية/ لتحديد مصير المفقودين مشكوراً. لا هيك مش ظابطة، تفضلوا، تعالوا أنتم وغيركم، ساعدونا، فنحن والأهالي بانتظاركم. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

اختفاء قسري ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، سوريا ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني