“
عادت الحياة في صيدا وسوقها التجاري إلى شكلها الطبيعي اليوم 30 تشرين الأول 2019، على الأقل في الظاهر. تجسد الأمر من خلال حركة السيارات والمارة. لكن الإضراب استمرّ في المدينة حتى اليوم فلم يعد التلامذة إلى مدارسهم، واستمر الإعتصام في ساحة إيليا.
بيد أن الساحة التي اعتادت صباحات هادئة بدأت فيها مظاهر الإحتجاج ورفع شعارات “كلن يعني كلن” منذ الساعة التاسعة صباح اليوم. إذ أدّت الأخبار التي تناقلها سكان المدينة عن نية الجيش فتح الطريق، حتى ولو بالقوة، إلى توافد المتظاهرين إلى الساحة لمراقبة ما سيحصل، وإلى إثارة نقاشات عديدة في الساحة بين مؤيد لفتح الطريق ومعارض.
“منذ ساعات الصباح الأولى، أمهلنا الجيش وقتاً كي نزيل كل الخيم والأدوات الثابتة مثل ماكينات بيع القهوة والصاج”، يقول أحد المتظاهرين. على إثر ذلك، أزال العديد من الباعة أدواتهم “خوفاً من تكسيرها” وفق أحدهم.
على أثر هذه المهلة، وعلى وقع الأغاني الثورية في الساحة، شكّل المتظاهرون حاجزاَ بشريا وسط الساحة من أجل حماية الخيم والمعدات معبّرين عن إصرارهم على إغلاق الطريق. غير أن عناصر من “أمن الدولة” و”مخابرات” الجيش أجبروهم قرابة الساعة الـ11 على إزالة المكبرات الصوتية التي واصلت إذاعة الأغاني الثورية حتى الدقائق الأخيرة.
وفيما دارت النقاشات في الشارع بين مؤيد لفتح الطريق ورافض لها، كانت مجموعة من حوالي “70 شخصاً يمثلون مختلف الأطياف والانتماءات في المدينة ويمثلون الشارع، أخذوا على عاتقهم منذ أيام الثورة الأولى تنظيم هذه المظاهرات”، وفق جمال عيسى، وهي من أفراد المجموعة، في حديث مع المفكرة، وتعمل على صياغة بيان مفاده “فتح الطريق الرئيسي عند تقاطع إيليا والاستمرار بالتواجد على أرصفة الساحة والمستديرة الخضراء في وسطها ومتابعة المراقبة والمحاسبة في الشارع”.
بعد تلاوة عيسى البيان أمام كاميرات المحطات الإعلامية وعلى الملأ، ساد جو من الأخذ والرد والتوتر بين المعتصمين الذين رفض الكثير من بينهم “تمثيل الشارع، فلا أحد يمثلني”، وفق إحدى المتظاهرات التي اختارت أن تجلس في الأرض تعبيراً عن رفضها. وبعد نقاش بين الحاضرين، وإزالة عوائق المرور، عادت حركة السيارات في الساحة ليعود المكان إلى دوره السابق كـ “تقاطع”. “اعتادت الناس النزول إلى الشارع. ومن الصعب ترك الساحة”، وفق إحدى المتظاهرات التي فضلت “عدم المواجهة مع الجيش والاستمرار بمراقبة ما سيحدث”.
أما عصر الثلاثاء 29 تشرين الأول 2019، فلم تكن مدينة صيدا اليوم مستثناةً من مشهد “الاحتفال الوطني” الذي امتد على مختلف المناطق اللبنانية بسبب استقالة الحكومة، إذ تلقّت المدينة الخبر بالتصفيق والهتافات الشعبية في “ساحة إيليا”، وهي ساحة الاعتصام الأساسية في المدينة، حيث بُثّت كلمة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري على الملأ. وترافق المشهد الاحتفالي مع هتافات رافضة للإنسحاب من الساحات مُذكّرةً المعتصمين بالأهداف الأساسية للثورة، أي إسقاط السلطة الفاسدة بكافة أفرادها.
لكن نهار المدينة لم يكن مستقراً على الرغم من عودة الحركة الطبيعية إلى السوق التجاري وشوارع المدينة. إذ توجّه حوالي 50 معتصماً عند قرابة الساعة الثانية عشر ظهراً إلى “ساحة النّجمة” حيث تقع بلدية صيدا من أجل الإعتصام أمام مدخل البلدية. ردّد المتظاهرون هتافات ضد الفساد، مطالبين البلدية بفتح أبوابها. “قررنا التوجه إلى البلدية لانها السلطة التنفيذية في المدينة ومتورّطة بالفساد في عدد من المشاريع، مثل مشروع التخلص من مكب النفايات وتلزيم الشركات الخاصة لصيانة البنى التحتية، وهي مشاريع أدّت إلى هدر المال العام. في خضم هذه الثورة، نريد أن نقول للمجلس البلدي: أوقفوا الفساد”، يقول محمد أبو زيد، 35 عاماً، أحد المشاركين في التظاهرة أمام البلدية في حديث مع المفكّرة.
تفاقم المشهد تدريجياً عندما أقبل المتظاهرون على “اقتحام” البلدية عبر دفع بابها الحديدي بالقوة، ما استدعى تدخّل عناصر الجيش التي كانت متواجدة في الساحة منذ ساعات الصباح من أجل إبعاد المتظاهرين عن البلدية، مشكّلين حاجزاً بين باب البلدية الرئيسي والمتظاهرين، فعاد المتظاهرون أدراجهم إلى ساحة إيليا.
عاد الجو إلى طبيعته في الساحة مع عودة المتظاهرين إليها. وعند قرابة الساعة الواحدة والنصف، بدأ الرياضيون وهواة ركوب الدرجات الهوائية بالتوافد للمشاركة في “مسيرة الدراجات الهوائية” رافعين العلم اللبناني”، بتنظيم من هواة ركوب الدراجات والناشطين في صيدا، وبمشاركة نحو 100 شخص من أجل تسليط الضوء على”الطاقات الكبيرة في صفوف اللبنانيين، من مثقفين وأصحاب كفاءات ورياضيين قادرين على رفع الشأن الرياضي في لبنان وكي نقول أن الظلم يطال الرياضيين أيضا”، وفق المدرب الرياضي أحمد عنتر، أحد منظمي هذا النشاط.
لكن الجو اللطيف الذي أضفاه نشاط الدراجات الهوائية في الساحة خرقه جو التوتّر والبلبلة الذي أثارته الاعتداءات على المتظاهرين في ساحات الاعتصام في بيروت. على أثر ذلك، أُشيعت في المدينة أخبار كاذبة مفادها أن مجموعة شبان من منطقة “حارة صيدا”، المؤيدة بغالبيتها لـ”حركة أمل” يتجهّزون لتكرار ما حدث في ساحات بيروت في ساحة إيليا.
وفي حين تفاقمت البلبة مع مرور الوقت، وهو أمر ترجمه المتظاهرون بالتجمّع في مجموعات صغيرة عند مداخل ساحة إيليا، فإن عدد الوافدين إلى الساحة تزايد مع مرور الوقت “من أجل مراقبة ما يحصل” عن قرب، وفق إحدى المتظاهرات. في الوقت نفسه، حرص المتظاهرون على مخاطبة “الثوار” وتأكيد أن كل ما يتم تناقله عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلامية هي إشاعات، متمنين من وسائل الإعلام توخّي الدقة في نقل المعلومات درءاً للفتنة.
ومع حلول الساعة الرابعة وإعلان رئيس الحكومة استقالته، عاد جو الاحتفال “المعتاد” إلى الساحة وتزايدت أعداد المتظاهرين تدريجياً مع حلول المساء. وأكدت الهتافات أن ” استقالة الحكومة هي خطوة الأولى باتجاه هدفنا لأن استقالة رئيس الحكومة تعني أن الكتل النيابية باقية وهي من يقوم بتسمية الحكومة الجديدة في حين نريد أن نتخلص من كل من في هذه السلطة الفاسدة”، وفق هناء اليمن، 38 عاماً.
“