صور: “أَعنَدْ مِنْ مين؟”


2024-12-01    |   

صور: “أَعنَدْ مِنْ مين؟”
يتفقّد العائدون الى صور منازلهم المدمّرة

ترقد سناء (55 عامًا) في مستشفى حمّود في صيدا منذ الأحد، حيث خضعت لعمليّة جراحيّة في القلب. دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ يوم الأربعاء، لكنّ أوامر الطبيب أقعدتها عن العودة إلى صور، مدينتها. أخّرها المرض عن العودة ثلاثة أيّام إذًا، والسبت، ستنهض من سريرها، متحدّية وهن جسدها، لتعود إلى منزلها العتيق. وصلت ابنة أختها نور (33 عامًا) قبلها بيوم. ندخل المنزل سويّة وفق كومة أنقاض سدّت مدخل المبنى، مقتحمين منزل الجيران في الطابق الأرضي، عبر أبوابه الخلفيّة المخلّعة، لنصعد الدرج المتشقّق المؤدّي إلى منزل سناء. ندخل منزلًا خرّبت إسرائيل أثاثه وتركت على جدرانه تشقّقات. على وجه نور، صراع المشاعر: فرحة العودة، وصدمة الدمار، وهمّ سناء، خالتها، التي ستعود من المشفى غدًا، لكن إلى ماذا؟ بالنسبة إلى نور، كان هذا المنزل ملاذا منذ كانت تهرب طفلة من منزلها إليه وقد كان آنذاك منزل جدّتها وبات لاحقًا منزل خالاتها، وهو لما يزال يختزن روح العائلة ورائحة جدّتها فيه. تركض إلى غرفة النوم، ألحق بها فأجدها قد وقفت تتأمّل في صدمة. هنا السرير الذي توفّيت عليه جدّتها، فحافظت عليه العائلة كنوع من التكريم، يبقى نظيفًا، ولا ينام عليه أحد، ودائمًا ما يقتربون منه باحترام وخشوع كأنهم في حضرة الراحلة. وهنا، وقعت الخزانة على السرير، فدمّرته، ومزّقت شظيّة مخدّة الجدّة. ومن النافذة، التي تكسّر زجاجها، دخل الكثير من الرمل حينما قصف الطيران الإسرائيلي مبنى مجاورًا فسوّاه أرضًا. 

ولا تزال مدينة صور تلملم آثار عدوان لم يعرف أهلها مثيلًا له عنفًا وتدميرًا. دمّر الطيران الحربي 50 مبنًى على الأقلّ، يتكوّن معظمها من 5 إلى 10 طوابق، وبعضها دور قديمة من طابقين أو ثلاثة، إضافة إلى مبان تراثية. وشمل التدمير الجزئيّ 5 أضعاف هذا الرقم، مع غياب إحصاءات دقيقة حتّى الساعة، وفق مصادر البلديّة. وشملت الأضرار كلّ حي من أحياء المدينة تقريبًا. يستقبلك زجاج متكسّر في حيّ مطبعة حيرام، وتعبر البورة إلى شارع أبو ديب، لينكشف لك دمار صادم يجتاح الشارع التجاريّ. يسير الدمار مع العائدين، من دوّار العَلَم، ثمّ دوّار الشهداء، وحّتى آخر نزلة أبو ديب. حي الآثار لم يسلم، وإلى صوت الفرح، وشارع الدينيّة، وشارع حيرام، غزا الدمار شوارع المدينة، وبدّل معالمها، وفوق الدمار، في كلّ زاوية، عائدون. 

بعد العودة: سؤال مقومات البقاء

تتراجع نور إلى غرفة الجلوس، الزجاج في الأرض هنا، لكن الكنبات سليمة. تنفض الغبار والزجاج عن كنبة بنيّة اللون، وتجلس عليها: “لوين بدها ترجع خالتي؟” تخاطبني، وكأنّها تحدّث نفسها. في الأثناء، يرتفع الصوت في الأسفل، تطل عن البلكون، فترى جيرانها قد عادوا، أحدهم مهندس، استدعته والدته للكشف على سلامة المبنى. تميل نحوه نور بنظرها: “الحمدلله على السلامة يا جار”، فيرد التحيّة بعيون قلقة. يدور حديث مقتضب، ويخبر الجار نور أنّ الأجزاء الشرقيّة من المبنى الصغير، قد تكون مهدّدة بالانهيار، ولا مجال للتحقّق من سلامة المبنى قبل أن تأتي فرق مختصّة للكشف على كامل الأعمدة والأساسات. ثمّ يقول: “البلكون الذي تقفين عليه، أحد أعمدته منفصل في الوسط بوضوح”، وهو بلكون مواجه تمامًا لمبنى مهدّم بالكامل. يُظلم وجه نور، ثمّ تضحك: “الله يبشّرك بالخير”. 

تلتقط نور الهاتف، وتتّصل بخالتها، تجادلها قليلًا بقرار عودتها، وتذكّرها أن منزل النزوح في عبرا لا يزال متوفّرًا، تبتعد عنّي، وتغدق على خالتها عبارات التحنّن، مجتهدةً باستعطافها كي لا تعود إلى منزل يسكنه القلق معها، ثم تعود وتقترب، وأسمع صوت خالتها يأتي ضعيفًا عبر الهاتف: “أنا راجعة يا نور، بيتنا أساساته دكّ، ما بقعد بغيره”. تبتسم نور وتمتم: “عنيدة.. عنيدة”.

ترسل لها صور الغرف المحطّمة على واتساب. لحظات، وتخبرني: “خالتي قررت أن تبيت بغرفة الجلوس، قالت إنها الأكثر أمانًا”، وكأنها تحاول إقناع نفسها. وتضيف أنّ هذه الكنبة كانت المفضّلة عندها، وجدتها سليمة وستعود إليها. الغرف الأخرى، بتدميرها الكامل، تبقى في نظر نور أشبه بصندوق كوابيس.

تلتقط نور حقيبتها الصغيرة وتغادر مسرعة من أجل التجهّز والعودة لتنظيف الغرفة الوحيدة التي تجرؤ على الاقتراب منها. مع كل خطوة تخطوها، يبدأ وجهها في الانفراج أكثر، وكأنّها تتخلّى تدريجيًّا عن القلق والجدال، وتصبح مجرّد شابّة متحمّسة لتهيئة منزل العائلة لعودة خالتها غدًا، بعد شهرين من الفراق. تسير نحو شارع الكورنيش البحري، تصل إلى عنصر بلدية يخبرها أنه وعلى الرغم من أن شركة كهرباء لبنان قد أمّنت الكهرباء 24/24 في صور، إلا أن هذا الحي تحديدًا لن تصل إليه الكهرباء قريبًا بسبب تدمير الخطوط فيه، وحاجته إلى بنية تحتية جديدة: “مش مهم، موجود بطاريّة، لكن والمياه؟”، تسأل فيجيب: أصلًا لا مياه في المدينة بأكملها.

دمّرت الغارات البنية التحتيّة وحصدت عددًا كبيرًا من أنظمة الطاقة الشمسيّة في صور

عصب الحياة الذي قطعته إسرائيل

في 18 تشرين الثاني 2024، وقبل أسبوع واحد على وقف إطلاق النار، أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على شركة مياه صور، ودمّرها، قاطعًا المياه عن الصامدين، خلال الحرب، وعن العائدين، بعد عودتهم. 

تقع شركة المياه على كتف موقع البصّ الأثريّ، لناحية الجنوب، وضمن حدوده العقاريّة. كانت مميّزةً بألوانها الزرقاء والبيضاء، وكانت المصدر الرئيسيّ لتغذية المدينة بالمياه. في الطريق نحوها، تلتقي بشبان جاؤوا سيرًا من جبّانة صور. قرأوا هناك الفاتحة على روح المختار سامر شغري، وتوجّهوا إلى مكان عمله، ومكان استشهاده: شركة المياه. 

دمّرت غارة إسرائيليّة محطّة المياه الرئيسيّة في صور يوم 18 تشرين الثاني 2024

في شركة المياه، تهدّم المكان، وتظهر المضخّات من بين الركام، وكانت هذه المضخّات تعمل خلال أيّام الحرب، ويشرف عليها المختار شغري، بحكم وظيفته. يشرح علي، أحد الشبّان وأكثرهم تأثّرًا باستشهاد المختار: كان بمثابة أب لكلّ منّا، وكان ملهمًا لنا بصموده، رفض المغادرة، وظلّ يأتي كلّ يوم من منزله إلى الشركة، يضع جدول توزيع المياه، ويشغّل المولدات، ويدير المضخات حتّى الرمق الأخير، وحتّى الشهادة، كما كان يقول هو، يتمتم علي بأسف.

أصرّ المختار الشهيد سامر شغري على تشغيل مضخّات المياه يوميًّا كما يقتضي عمله حتّى استشهد في غارة إسرائيليّة على غرفة عمله

وفي المكان أيضًا، يخبرنا رئيس مصلحة مياه صور توفيق بركات أنّه وخلال أيّام، سيتمّ إعادة تأمين المياه للمدينة، كحلّ مؤقّت، لكنّ إعادة بناء المحطّة وتشغيلها، يحتاج إلى ما بين 3 إلى 6 أشهر. في الأثناء، كانت نور قد أحضرت غالونات مياه استعدادًا لشطف غرفة الجلوس وتنظيفها. عدتُ من شركة المياه إليها، ووجدتها تتحضّر لساعات من التنظيف المضني، تنظيف لا تزال تحصره بغرفة الجلوس، التي شخّصتها هي، وخالتها عبر الهاتف، بأنها آمنة. 

دمّرت غارة إسرائيليّة مبنى على الواجهة البحريّة في صور مخلّفة أضرار في منازل المباني المجاورة

“الحياة تنبعث من بين الرماد”

أكمل جولتي على المدينة، فأجدها باتت، وخلال ساعات من أوّل يوم بعد العودة، أشبه بورشة تنظيف شاملة. النسوة والفتيان على الفرندات، والشبابيك، يمسحون عنها أثر العدوان. ولا تزال في الطرقات، رائحة البارود، إذ أنّ حريقًا لا يزال يتجدّدّ في نزلة أبو ديب، خلّفته آخر موجة من الغارات على المدينة، فجر الأربعاء، يوم وقف إطلاق النار.

 وزحمة السيّارات، وصياح الشبّان المنهمكين برفع أسلاك الكهرباء، وضجيج آليّات رفع الأنقاض المنهمكة بتوسعة الطرق للعائدين، تزيد جوّ المدينة حياة: حياة تنبعث اليوم في صور، حرفيًا، من بين الرماد، يقول فتى اسمه علي محمّد، وهو لاجئ فلسطينيّ وُلد وترعرع في مخيّم البصّ في قلب صور. يلقي الشاب جملته الأشبه بالشعارات لولا أنّها تنطبق تماما على الواقع الذي تراه هنا. وتحيطك أحاديث الناس في طرقات صور مفعمة بإرادة التمسّك بالحياة من دون أن تخفي لوعة في القلب على مدينتهم: “عم يحترق قلبي وبكيت كمان، أكيد بكيت” هي كلمات سليمان نجدي، التي يصف فيها ما انتابه لحظة وصوله واكتشاف حجم التدمير الإسرائيليّ في المدينة.

خلّفت غارة إسرائيليّة على مبنى مسلماني في حيّ الرمل في صور حفرة في الأرض خرجت منها مياه البحر

وعلى درّاجته الناريّة، يقتحم عباس، يرافقه ولده علي، زاروبًا صغيرًا في الحارة القديمة، فيه محلّ حلاقة فُتّح للزبائن منذ لحظة وقف إطلاق النار. تخبرك ذقنه الطويلة وشعر ولده أنّ مكنة الحلّاق لم تدنُ منهما منذ بدء عدوان أيلول، على الأقل. لقد نزح عبّاس قبل شهرين، أوّلا لبضعة أيّام في بيروت، ثمّ مع عائلته إلى عكّار. منزله في العبّاسيّة تضرّر بشدّة بسبب قصف مبنى مجاور، ولا يعرف كيف ينظّفه، أو إلى من يلجأ من أجل رفع قطع الزجاج الكبيرة العالقة التي إذا اقترب منها، قد تنهار عليه. 

رغم هذا، كان أوّل ما فعله المجيء مع طفله إلى الحلّاق: “في النزوح، تغيّر علينا الكثير الكثير، لكنّنا لم نغيّر حلّاقنا”. وفيما ينتظر عبّاس دوره، وكلّ من في المحل هم أصدقاء له، يعرفهم ويعرفونه وفي جعبة كلّ واحد منهم الكثير من أخبار وروايات النزوح والتهجير، يندفع علي ذو الـ9 سنوات إلى رفاق الحيّ، يحضنهم بخجل، ويندفعون للعب، وافتعال الضجيج الذي يتقنونه جيّدًا، معلنين أن أولاد هذه الحارة، عادوا إليها. 

ووسط الجلبة، يطلّ خبر عاجل على التلفاز المشغّل على قناة الميادين، ينبئ بقصف تجدّد على البيساريّة. يصمت الجمْع، يرفعون صوت التلفاز، لدقيقة واحدة، ثم يخفضون الصوت: “شو يا علي، بعده مشروع القهوة براسك”، يقول عبّاس، فيتحمّس علي للإجابة، ويكمل الرفاق العائدون التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، فيما الدخان يتصاعد على الشاشة. لاحقًا، أخبرني عبّاس أنّه لا بدّ من تحمّل هذه الفترة، على حدّ تعبيره: “كما تحمّلنا التي سبقتها، فنحن صمدنا سنة رغم الحرب، ولم نخرج إلّا تحت أطنان المتفجّرات وفتك المجازر في كلّ قرية ومدينة، في 23 أيلول، وإخراجنا مرّة أخرى لن يكون هيّنًا”. وفجأة، يصبح المشهد الذي بدا في رابع أيّام العودة، سرياليًّا، حيث التخطيط لما بعد الحرب فيما صور دخان غارة يملأ الشاشة على البث المباشر، يصبح هذا المشهد مفهومًا، بكلمات عبَاس. 

هدّمت الغارات الإسرائيليّة على صور أكثر من 50 مبنى مخلّفة أضرار جزئيّة شملت 5 أضعاف هذا الرقم

لماذا دمّرت صور؟

تستمرّ ورشة التنظيف، مع استمرار العودة، ويستمرّ الإصرار على إعادة الحياة إلى مدينة لوّنها يومًا الجيش الإسرائيليّ بالأحمر معلنًا نيّته تدميرها، ليشرع فورًا بالمهمّة. ورغم هذا، يستمرّ سؤال يتردّد كيفما تلفّتّ هنا: أهذه صور التي أكلها الدمار هكذا؟

إبراهيم وزين، شقيقان عشرينيّان ينظفان منزلهما الواقع ناحية دوّار كمال جنبلاط. كلّ أشيائهما تحطّمت، ولم يتمكّنا من إنقاذ أيّ شيء، ويحاولان إقناع البلدية بإرسال شخص لتحديد ما إذا كان المبنى سينهار أم لا، لأنهما يخشيان أن يكون عامود حامل قد تضرر بشدة. ينام الشقيقان العائدان مع أقارب في منزل بقي سليمًا، لكنّهم اضطروا أيضًا إلى تنظيفه على مدار 3 أيّام.

بدأ شابّ صوريّ بإصلاح الكهرباء في منزله المهدّم جزئيًّا

في حديث سليمان الذي بكى كثيرًا لرؤية مدينته وقد غزا التدمير كلّ حيّ فيها: “غيرتهم من لبنان، وغيرتهم منا خلّتهم يعملوا فينا هيك، لأن أجمل بلد بالكون، هي صور”. وتجد هذا المعنى يتردّد هنا، حديث وراء آخر، مع صوريّ وراء صوريّ. 

وفي حديث نور، المنهمكة بإعادة منزل، مهدّد بالسقوط، إلى الحياة، كان هناك صدمة من حجم التدمير في المدينة خصوصًا أن “آباءنا عاشوا حروبًا، ويروون لنا أنّ صور لم تشهد هكذا تدمير في تاريخها: “كلّ ما هو حولنا يجعلني أشعر وكأنني في غزة أو سوريا، أو في قرية حدوديّة، وليس في صور، حيث لا معارك بريّة، ولا منشآت عسكريّة، وحيث لا مجال لإخفاء عتاد وإذا حفرت تحت الأرض ستكشف لك مدينة أثريّة وإذا حفرت أعمق قليلًا تبتلعك مياه البحر”. وبالنسبة لابنة الثلاثين: “أرادت إسرائيل الإيذاء، وأرادت كسرنا وإخضاعنا، فدمّرت قلب صور والنبطيّة وبعلبك، رغم أنّها ليست سوى أحياء سكنيّة وتجارية سياحية وتاريخيّة مفتوحة ولا أعمال عسكريّة تنطلق منها”.

لكنّ إبراهيم يقول ببساطة: “لا أدري لماذا هاجمت إسرائيل منازلنا.. ولكننا نحن سنكون قادرين على إعادة البناء، حتى لو كان ذلك في المستقبل ولو من دون مال. نحن سنعيد مدينتنا إلى الحياة”، وإن كان إبراهيم لا يعرف سببًا لـ “تمزيق إسرائيل أجزاء من مدينتنا”، فهو يحكي عن نوايا أبعد، توضح “هدف إسرائيل الذي هو محو وجودنا وإنكار حضارتنا.. لأننا نملك حضارة، هذا ما يكرهونه”. ويستدرك الشاب الذي لا يبدو أنّه يريد الحسم في كلماته، بقدر ما يريد إثارة الاسئلة: “إما أنهم يكرهون حضارتنا، أو أنهم لا يفهمونها، لأنهم هم أنفسهم ابتدعوا حضارة من خلال سرقة حضارة وتراث الآخرين”. 

ويسرّ إبراهيم لزين فيما يهمّ بعصر قماشة مبلّلة لينطلق مجدّدًا إلى العمل: “كنتُ قلقاً جداً من احتمال وصولهم إلى صور عندما رأيت محاولات التقدّم الإسرائيليّة إلى شمع والبيّاضة، ليس فقط بسبب الدمار الذي قد يحدثونه، بل بسبب الرمزية التي قد يحملها احتلال المدينة”. تلمع عيناه، كعصفور نجا من قفص، وتعود الضحكة إلى وجهه: “صمدنا والمحتلون لم يصلوا”، يقول وينصرف إلى بيته، ويضرب بشدّة على جدار أكلته النيران، تبرز عروق يديه وهو يدفع بقوّة، ويتراجع الأسود شيئا فشيئًا عن الحيطان. 

تنقذ الصوريات ما أمكن من حاجيّاتهن بعد أن لحقت أضرار كبيرة بمنازلهنّ

وفي اليوم الرابع..

في اليوم الأوّل لإعلان وقف إطلاق النار، والعودة، نام من وصل إلى صور دون إحضار طعام معه، جائعًا. في اليوم الثاني، توافرت بعض أسياخ الشاورما، ونفذت بسرعة، وفتح شبّان بسطة للسندويشات قرب الميناء لإطعام العائدين، مع إقفال المطاعم وتضرر المنازل والبيوت، وتلف المأكولات في البرّادات. في اليوم الثالث، فتحت المزيد من أفران ومطاعم شعبيّة، مما سلمت من الأضرار، أو أمكن إعادة تأهيلها بسرعة، أبوابها. وفي اليوم الرابع، فُتحت المزيد من المطاعم والمقاهي المحليّة، نُظّفت المزيد من المنازل، باتت خزّانات المياه البديل الأنسب للبيوت، وعادت سناء. 

دخلت الخمسينيّة بيتًا فيه غرفة جلوس كأن الحرب لم تمرّ عليها، ومحاطة بغرف مدمّرة ومكسّرة. صعدت الدرج على مهل، دخلت على مهل، نظرت حولها، شاهدت بيتها، العتيق، ذا الأساسات الدكّ، قد نال منه العدوان كما لم تكن تتصوّر. شاهدت  الأبواب الملوّنة قد تخلّعت، والصور المعلّقة قد هوت، والبلاط القديم المزركش، قد بهت لونه. كانت قبلتها سرير أمّها. على مهل، زارته، كما كانت تفعل دائمًا، وكانت خاشعة في دنوّها منه، كأنّها لا ترى الخراب المحيط. 

عاينت سناء التشقّقات بنفسها، اطمأنّت إلى أنّ الأعمدة سليمة، وفق تشخيصها، وهي تردّد أنّها تعرف بيتها جيّدًا. وبّخت من لمّح إلى أن الشرفة قد تحتاج للهدم: “كلّه يترمّم، ولو دفعنا زيادة”. لكن، وقبل المساء، جاء الجار المهندس مرّة أخرى، تمنّى عليها عدم المبيت، فوعدته خيرًا. أخبرتني أنّه كان لطيفًا معها، فكانت لطيفة معه، لكنّها لن تخرج من بيتها مرّة أخرى. تعلّق نور: “أصرّينا عليها أكثر من الممكن، بس أعند من مين؟”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني