فعل الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي فعله. وبعد ثبات عميق، بدتْ الحكومة في سباق مع الزمن لإقرار ما أمكن من القوانين الإصلاحية المطلوبة. وهذه المرة ليس وفق ما ترتئيه سلطة المصارف التي منعت الكابيتال كونترول لسنتين وفرّغت قانون السرية المصرفية من مضمونه، بل وفق توجيهات صندوق النقد الدولي.
بعد الاتفاق مع صندوق النقد تغيّر الموقف. فبعدما أحالتْ الحكومة مشروع قانون الكابيتال كونترول وفق صيغة معدّلة، أقرّ مجلس الوزراء أمس مشروعاً معجّلاً آخر يرمي إلى تعديل قانون السرية المصرفية في اتجاه إدخال تعديلات “بنيوية” عليه وفق شروط الصندوق. وقد تجاوز مجلس الوزراء في اقتراحه المذكور أغلب التعديلات السطحية التي كان مجلس النواب أقرّها في أيار 2000 قبل أن يردها رئيس الجمهورية، وأغلب التعديلات التي أقرّتها لجنة المال النيابية في 2021 وكلها تعديلات تؤدي عملياً إلى الإبقاء على السرية تحت غطاء رفعها. فبموجب هذه التعديلات، تبقى صلاحية رفع السرية المصرفية حكراً على هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. وإذ أعادت لجنة المال النيابية للقضاء صلاحية رفع السرية بناء على ملاحظات رئيس الجمهورية ميشال عون، فإنه سرعان ما يتبين أنه إنجاز مخادع، طالما حُصرتْ هذه الصلاحية بالقضايا المرتبطة بالإثراء غير المشروع، وهي صلاحية أكد عليها أصلا قانون السرية المصرفية منذ صدوره في 1956 ولا يضيف إعادة تأكيدها شيئاً على القانون الحالي.
باختصار، بدا التعديل الحكومي، الذي تبدو بصمات الصندوق حاضرة فيه، الأكثر جدية بين كل التعديلات التي أقرت، فلم يكتفِ برفع السرية عن العاملين في الشأن العام في جرائم تبييض الأموال والفساد وضمنا الإثراء غير المشروع، بل طال القطاع الخاص في إطار مكافحة التهرّب الضريبي، فضلا عن جميع أصحاب الحسابات بما يتصل بديونهم تجاه الغير.
ولكي يكون رفع السرية فعلاً لا قولاً، كان الخيار بتعديل خمسة قوانين تتناول السرية المصرفية بشكل أو بآخر، وهي: قانون السرية المصرفية، قانون النقد والتسليف، قانون تعديل وإكمال التشريع المتعلق بالمصارف وإنشاء مؤسسة ضمان الودائع، قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون الإجراءات الضريبية.
في الأسباب الموجبة ، أشار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، صاحب الاقتراح، إلى أن المشروع المُعجّل يرمي إلى تعديل القوانين المذكورة آنفاً “التزاماً بالاتفاق المبدئي على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي مع صندوق النقد الدولي تحت اسم “التسهيل الائتماني الممدّد” (Extended Fund Facility). وتضيف الأسباب الموجبة: “تمهيداً للحصول على موافقة مجلس إدارة الصندوق عليه بشكل نهائي، كان لا بدّ من العمل على إنجاز الإصلاحات الهيكلية الضرورية لاستعادة النمو وتوفير البيئة المؤاتية للنشاط الاقتصادي عبر إجراء التعديلات اللازمة على بعض القوانين النافذة بشكل يضمن تعزيز الحوكمة والشفافيّة ويزيل العوائق التي تحول دون تحقيق النمو المنشود”.
يصف رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين المحامي كريم ضاهر هذه الأسباب الموجبة بالمحزنة، فهي اعتراف واضح من السلطة أنها تقاعست عن إنجاز الإصلاحات الضرورية التي تساهم في استعادة النمو وتحفيز الاقتصاد، ولم تنجزها عملياً إلا لتنفيذ مطالب خارجية، خشية العقوبات الدولية على من لا يلتزم بخريطة الطريق التي وضعت للبنان. ويوضح للمفكرة القانونية أن هذه العقوبات هي الدافع وراء القبول بما سبق أن رفضته وليس الرغبة بالحصول على القروض أو الاتفاق مع صندوق النقد.
لا حسابات بلا أسماء
تعديل قانون السرية المصرفية طال خمس مواد، أبرزها تلك التي تتعلق بالجهات التي يحقّ لها طلب رفع السرية المصرفية، والتي كانت شهدت اعتراضات نيابية كبيرة، على خلفية إعطاء القضاء “المُسيّس” و”الذي لا ثقة به” حقّ رفع السرية. وقد أدّت عملياً هذه الاعتراضات إلى تفريغ الاقتراح آنذاك من مضمونه بعدما عاد النواب ليحصروا رفع السرية بهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. أما أبرز هذه التعديلات فهي:
في المادة الثالثة، وبعدما كانتْ تشير إلى أنه “يحق للمصارف أن تفتح لزبائنها حسابات ودائع مرقّمة (لا يعرف أصحابها غير المدير القائم على إدارة المصرف أو وكيله ولا تعلن هوية صاحب الحساب إلا بإذنه الخطي أو بإذن ورثته أو الموصى لهم) كما يحقّ للمصارف أن تؤجّر خزائن حديدية بالشروط نفسها”، صارت المادة تنص على حظر هذا النوع من الحسابات أو تأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصارف أو وكلائهم. كما نص التعديل على وجوب تحويل جميع حسابات الزبائن المرقّمة والخزائن الحديدية المؤجّرة إلى حسابات عادية وخزائن تُطبّق عليها جميع متطلبات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في مهلة أقصاها ستة أشهر بعد دخول القانون حيّز التنفيذ.
الحجز على الأموال
المادة الرابعة الحالية تشير إلى أنه “لا يجوز إلقاء أيّ حجز على الأموال والموجودات المودعة لدى المصارف، إلا بإذن خطّي من أصحابها”. لكن التعديل المقترح ينص على إمكانية إلقاء الحجز على الأموال والموجودات فقط في الحالات التالية: بقرار صادر عن هيئة التحقيق الخاصة وفقاً لقانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بقرار صادر عن سلطة قضائية مختصة بحسب القانون، أو بأيّ قرار صادر عن أي سلطة أخرى تناط بها هذه الصلاحية. ومن شأن هذا الأمر أن يضع حدّا لتحصين الحسابات المصرفية إزاء أي حجز من قبل أي شخص دائن. مثلا: سيكون بإمكان الزوجة أن تحجز على حساب زوجها لدى المصرف لتحصيل حقها بالنفقة.
الاعتراف بصلاحية القضاء برفع السرية المصرفية ولكن…
التعديلات التي تطال المادة السابعة ترتبط بالجهات التي يحق لها طلب رفع السرية المصرفية. وقد تضمّن المشروع إصلاحات تتخطى كل ما سبق إقراره في المجلس النيابي أو من لجنة المال كما سبق بيانه. وهو ينص على إلزام المصارف تقديم المعلومات المطلوبة فور تلقيها طلباً من السلطات القضائية في دعاوى التحقيق في جرائم الفساد والجرائم المالية، بما فيها تلك المحددة في المادة الأولى من القانون رقم 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب). ويشمل هذا الأمر بشكل عامّ مجمل الجرائم المالية أو استغلال النفوذ.
ويتضح من هذا النصّ أن الحكومة تخطّت فيه الكثير من التحفظات السياسية التي كانت تتحجج ب”كيدية” القضاء لإعاقة رفع السرية، وصار بالإمكان على سبيل المثال أن تطلب النيابة العامة التمييزية رفع السرية عن المعرّضين سياسياً أو عمّن حوّل أموالاً بعد 17 تشرين الأول أو طلب معلومات عن حسابات رياض ورجا سلامة، من دون أن يرفض طلبها من هيئة التحقيق الخاصة، بما يعطل إمكانية المحاسبة، بحجّة أنه “يتعذّر عليها قانوناً أن تتّخذ أيّ قرار بخصوص هذه الحسابات أو الطلب من المصارف تزويدها بالأسماء لعدم وجود شبهات عليها”.
ورغم التطوّر الحاصل في هذا المجال، إلا أن النص يبقى ملتبسا لجهة السلطات القضائية المخولة طلب المعلومات. وما يسبب هذا الالتباس هو أن النص المقترح يتحدث عن دعاوى التحقيق في جرائم الفساد والجرائم المالية، بما يوحي أن هذه الصلاحية محصورة بقضاة النيابة العامة والتحقيق من دون قضاة الحكم. ويتعزز هذا الأمر على ضوء التعديل المقترح للمادة 105 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والذي يفصل الهيئات القضائية المخوّلة طلب معلومات تحميها السرية المصرفية من المصارف، مع إدخال تمييزات حول صلاحياتها في هذا المجال. ففي حين أنه يُخوّل النائب العام لدى محكمة التمييز ومعاونيه والمدّعين العامين الاستئنافيين القيام بذلك، فإن هذه الإجازة لقاضي التحقيق القيام مشروطة بأن يحصل على موافقة الهيئة الاتهامية وأن يبلغ المدعي العام الاستئنافي بالطلبات الصادرة بهذا الخصوص. بالمقابل، فإن هذه المادة لا تذكر قط قضاة الحكم (القضاة المنفردين الجزائيين ومحاكم الجنايات ومحاكم استئناف الجنح… إلخ). وعليه، يبدو حسب ما أوضحه المجير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية أن التعديل المقترح يفتح باباً عريضاً أمام النيابات العامة (علما أنها تخضع لشخص واحد هو النائب العام التمييزي الذي يعدّ القاضي الأقرب إلى النظام السياسي) لتجاوز السرية المصرفية، فيما يبدي حذراً حيال قضاة التحقيق الذين لا يمكنهم طلب المعلومات، إلا بموافقة الهيئة الاتهامية المكونة من ثلاثة قضاة (وهي بدعة لا نجد لها أي مثيل في القانون اللبناني وبمثابة انتقاص من استقلالية قاضي التحقيق) وبعد إعلام النيابة العامة (التي سيكون بإمكانها الطعن في هذا القرار) ليعود ويجرّد قضاة الحكم من أي صلاحية في هذا الخصوص. وما يزيد الحذر من الاقتراح في هذا الخصوص هو وفق صاغية اشتراطه أن يكون من شأن المعلومات المطروحة تسهيل التحقيق في الجرائم المالية وألا يكون نطاق الإفصاح المطلوب يشمل معلومات خارجة عن ضرورات التحقيق. ويُخشى أن يفتح هذا الشرط الباب واسعا أمام المنازعة بأحقية القاضي المختص المطالبة بالمعلومات مما يؤدي عملياً إلى عرقلة التحقيق في الجرائم المذكورة.
وأمام هذه الضوابط غير الضرورية، يخشى أن يكون النصّ المقترح خضع لبازارات معينّة بهدف تمكين أصحاب النفوذ من الحدّ من إمكانية تجاوز السرية المصرفية. ويذكّر صاغية في هذا الخصوص أن قانون السرية المصرفية كان استثنى من أحكامه منذ صدوره في 1956 قضايا الإثراء غير المشروع من دون أن يلقى هذا الاستثناء أي تطبيق.
في المقابل، يسجّل إيجابا للتعديل المقترح أن الصلاحية الممنوحة للقضاة ليست استنسابية بحيث يتعين على القضاة الذين قد يرفضون ممارستها أن يعللوا قراراتهم بالرفض خطياً.
6 جهات أخرى يجوز لها رفع السرية المصرفية
بالإضافة إلى السلطات القضائية، خوّل التعديل المقترح هيئات أخرى صلاحية الولوج إلى المعلومات المحمية بالسرية المصرفية. فبالإضافة إلى هيئة التحقيق الخاصة التي خولها قانون تبييض الأموال هذا الحق، تم منح هذه الصلاحية ل 5 هيئات أخرى هي:
- الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي بات بإمكانها طلب معلومات من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة، كما ينص عليه قانون إنشائها الحالي أو كان نصّ عليه التعديل المقترح من لجنة المال.
- لجنة الرقابة على المصارف.
- المؤسسة الوطنية لضمان الودائع في لبنان.
- مصرف لبنان.
- السلطات الضريبية المختصة بهدف إدارة الإيرادات. علماً أن هذه النقطة كانت مطلباً قديماً لدعاة إصلاح القوانين، انطلاقاً من أن السرية المصرفية لطالما شكّلت باباً للتهرّب الضريبي. فالإدارة الضريبية لم تكن قادرة على التأكد أو المقارنة بين دفاتر الحسابات التي تقدمها الشركات وبين الحسابات المصرفية.
كذلك نص المشروع على أن تتمكّن الجهات الإدارية السابقة وتحديدا لجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع ومصرف لبنان والسلطات الضريبية المختصة من إصدار أمر بإعطاء معلومات محمية بالسرية المصرفية من دون تحديد حساب معين أو عمل معين بما في ذلك إصدار أمر عام بإعطاء معلومات عن جميع الحسابات والعملاء التي تستوفي معايير معينة أو الإبلاغ عن المعلومات المحمية بالسرية المصرفية على أساس دوري منتظم. كما يسمح القانون لهذه الجهات بتبادل المعلومات التي تحصل عليها عفواً أو بناء لطلب. ومن شأن هذا التعديل أن يعزز الرقابة على المصارف والأهم أن يسمح بوضع سياسات مالية انطلاقا من المعلومات العامة المستقاة من المصارف.
لا سرية أمام لجنة الرقابة
تلك المادة كانت تنص على أنه “لا يحق لمراقبي المصرف المركزي، في أي حالة، أن يلزموا مديري المصارف بإفشاء أسماء زبائنهم، باستثناء أصحاب الحسابات المدينة. كما لا يحق لهم الاتصال بأي شخص غير مدير المصرف المسؤول.
بعد التعديل، نصت المادة على أن لا تحول أحكام قانون السرية المصرفية دون قيام إدارة أو أي موظف من موظفي لجنة الرقابة على المصارف والمصرف المركزي بموجباتهم. ويمكن للجنة الرقابة الطلب من المصارف تقديم معلومات محمية بالسرية المصرفية، وفقاً لآلية تحدد بموجب تعاميم صادرة عن حاكم المصرف المركزي أو عن لجنة الرقابة.
… ولا أمام مؤسسة ضمان الودائع
أضاف المشروع إلى المادة 15 من قانون تعديل وإكمال التشريع المتعلّق بالمصارف وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع، مادة جديد (15 مكرّر) تنص على أن لا تحول أحكام قانون السرية المصرفية دون قيام أي من إدارات أو موظفي المؤسسة الوطنية لضمان الودائع المصرفية بموجباتهم ويمكن للمؤسسة الوطنية لضمان الودائع لدى ممارسة مهامها أن تطلب من المصارف تقديم المعلومات المحميّة بالسرّية المصرفية وفقاً لآلية تحدد بقرار يصدر عن مجلس إدارة المؤسسة. ويحدد القرار الأسس اللازمة للوصول إلى المعلومات التي تحميها السرية ونطاق الكشف فضلاً عن الضمانات اللازمة. ويمكن للمؤسسة طلب معلومات بشأن حساب معيّن أو عمل معيّن أو بشأن معلومات على نطاق المصارف تحميها السرية المصرفية، وذلك على جميع الحسابات أو العملاء الذين يستوفون معايير معيّنة أو طلب الإبلاغ عن معلومات محدّدة بشكل دوري أو منتظم.
نهاية التهرّب الضريبي؟
لطالما كانت المادة 23 من قانون الإجراءات الضريبية عائقاً أمام الإدارات الضريبية من الوصول إلى المعلومات. إذ بالرغم من أن هذه المادة تدعو “مختلف الإدارات العامة والخاصة والجهات المعنية إلى التعاون مع الإدارات الضريبة وإعطائها المعلومات التي تطلبها للقيام بمهامها”، إلا أن هذا التعاون كان مشروطاً بمراعاة أحكام قانون السرية المصرفية، وهو ما كان يشكل ذريعة واضحة لعدم التعاون. وتشير هذه المادة، أيضاً، إلى عدم جواز التذرّع بسرّ المهنة للحؤول دون تمكين موظفي الإدارة من مراجعة السجلّات والمستندات المحاسبية التي تسمح بالتحقّق من التزام المكلّفين بموجباتهم الضريبية، من دون أن يعني ذلك إمكانية الاطلاع على الحسابات المصرفية.
أما التعديل المقترح، فينص على وجوب أن تزوّد هذه الجهات السلطات الضريبية بأي معلومات مطلوبة، بما في ذلك المعلومات المحميّة بالسرية المصرفية، وذلك للقيام بواجباتها، ومنها عمليات التدقيق الضريبيّ أو التدابير الرامية إلى تعزيز الامتثال الضريبي وكشف التهرب الضريبيّ.
كذلك عدّلت المادة 48 التي تحدّد حقّ الإدارة الضريبية بأن تطلب خطياً وضمن إطار القوانين والأنظمة النافذة (بما فيها السرية المصرفية) من أي شخص لديه معلومات تفيد التحقق من صحة الضريبة المتوجبة على أي مكلّف ومن تحديد المعلومات التي تحددها، وأصبحت المادة على الشكل التالي: يحقّ للإدارة الضريبية أن تطلب البيانات خطياً من أي شخص لديه معلومات تفيد عملية التدقيق، بما فيها المحمية بالسرية المصرفية.
وإذ يرحب ضاهر بتوسيع قاعدة المكلّفين إلا أنه يحذر من أن النص، ليكون قابلاً للتنفيذ، يجب تعديل المادة 103 من قانون ضريبة الدخل التي تمنع المصارف من إعطاء أي معلومات للمراقبين الضريبيين.
كما يرى أن تطبيق المادة 23 بشكل سليم لن يكون ممكناً، في ظل غياب الحوكمة ووجود زبائنية مستشرية وعدم وجود قضاء مستقل. وهو إذ يخشى من تنفيذ القانون بشكل مجتزأ، تبعاً لمراكز النفوذ، يرى أن الأولوية تبقى لحماية سرية المعلومات. وهو لذلك، يقترح أن تحفظ المعلومات في مصرف لبنان أو في هيئة التحقيق الخاصة، بالاعتماد على معايير تطرحها منظمة “إيغمونت غروب” (منظمة دولية تعنى بتبادل المعلومات والتعاون بين هيئات التحقيق الخاصة أو الوحدات المعنية بمكافحة الجرائم المالية)، على أن يتم إيجاد آلية كشف دورية للتأكد من تطبيق القانون.
كما يستغرب ضاهر أن تعطى صلاحية تحديد أسس ومعايير الوصول إلى المعلومات المحمية بالسرية المصرفية لموظف فئة ثانية في وزارة المالية، هو مدير الواردات، مشيراً إلى أن هذه الصلاحية يجب أن تناط بمجلس الوزراء.
عقوبات غير رادعة
بقي أن نسجل أخيراً أن التعديلات المقترحة تعاقب كل من يخالف أحكام هذا القانون بغرامة تتراوح بين 50 و150 مليون ليرة يعود تقديرها للمحكمة، بحسب شدة المخالفة. وهذا الأمر يقبل النقد وفق صاغية طالما أن العقوبة المذكورة تبقى غير رادعة بالنظر إلى خطورة امتناع المصارف عن إعطاء معلومات قد تفيد التحقيق في جرائم كبيرة أو تسمح بالحدّ من تهرب ضريبي بمبالغ طائلة. وعليه، بالإمكان القول بأن محدودية هذه العقوبة تشكل بابا آخر للحدّ من آثار هذا القانون والتخفيف من أبعاده الإصلاحية.
خلاصة
بالنتيجة، إذا تخطّى المشروع المطروح عقبة الحكومة، فذلك يرجّح مبدئيا أن يتخطى عقبة مجلس النواب أيضاً، طالما أن الحكومة تضم في طياتها الكثير من حماة المصارف ورعاتهم، وفي مقدمهم رئيسها، الذي سبق أن هدد بالاستقالة في حال داهم القاضي جان طنوس أحد المصارف للحصول على وثائق رفض المصرف تسليمها في إطار قضية ملاحقة رجا سلامة. كما لم يتردد في مقارنة الفعل الرسمي القضائي بما فعلته إسرائيل في لبنان، معتبراً أنه “حتى إسرائيل عندما احتلت لبنان لم تدخل إلى المؤسسات بالسلاح”. لكن هل كل الموانع التي حالت دون إقرار الكثير من القوانين الضرورية، وفي مقدمتها قانون السرية المصرفية، قد سقطتْ إلى هذه الدرجة أمام شروط صندوق النقد الدولي أو التهديد بالعقوبات، بما يهدد بهدم أسوار السلطة المصرفية – السياسية وإن أبقى واضعو النص أبوابا للتخفيف من آثاره؟ أم أن تبادلاً للأدوار قد أُعدّ، بحيث يسمح لميقاتي بأداء دور الفتى الحسن في التسليم لصندوق النقد بشروطه، مقابل نسفها من قبل مجلس النواب عملا بعقيدته أن أي مس بالسرية المصرفية هو مؤامرة على لبنان؟ لن يتأخر الوقت قبل معرفة الإجابة.
لتحميل القرار