كنا قد تابعنا في مقالتنا السابقة تجربة الأجير والأجيرة في قصور العدل ومجالس العمل التحكيمية كما يعيشانها اليوم في لبنان، من بداياتها عندما يقتنعان بضرورة المواجهة القضائية، وصولاً إلى القلم والجلسات وما بينها. وإذا كان لهذه المساحات مشاكلها العديدة قبل الأزمة، رأينا كيف ترسّخت اليوم هويّتها كمساحات غير صديقة يضيع فيها الأجراء ويفقدون تدريجياً عزمهم على المطالبة بحقهم واقتناعهم بإمكانية تحصيله قضائياً. أما في هذه المقالة، فنريد أن نظهر كيف أنّ هذا الإحباط والتعب اللذين يعتريان الأجيرة خلال مسارها القضائي ليسا وليديْ الحظّ أو القدر، بل نتيجة منطقية لقضاء تطوّرت في أحشائه عبر السنوات وعلى حساب الأجيرة ممارسات واعية أو غير واعية، مقصودة أو غير مقصودة، لدى معظم الفاعلين المهيمنين من أصحاب عمل إلى محامين إلى قضاة إلى موظفين. ممارسات بالجملة يواجَه بها الأجير عندما يتجرّأ على الذهاب إلى المحاكم، بخاصّة إذا لم يكن يرافقه محام متخصّص أو خبير، وهي حال الكثير من الأجراء، فتفقده إيمانه بالحقوق وبالمؤسسات الضامنة لها. ولعلّ إحدى أهم نتائج هذه المقالة هي التي تُظهر كيف أن قَضم فكرة الدولة الحامية لا يأتي دائماً من خارج حدودها ومن مصادر غريبة عنها، لا بل تنتهجه مؤسساتها وممارساتها من الصميم.
تكرّرت هذه الممارسات طوال السنوات الماضية لدرجة أنّها تمأسست في قصور العدل وأصبحت جزءاً من مبنى العدالة ومؤسساتها، كما يعيشها الفقراء. ترعرعت في أصول إدارة المحاكمات (غير المكتوبة)، تجذرت في عمل الموظفين، فلم تعد تصدم أحداً، ما عدا الأجيرة ربما في بداية مسارها، إلّا أنها سرعان ما تفهم أنّ طقوس العدالة وتقديس القاعدة القانونية بحذافيرها من قبل الجميع حولها – وكأنّ لا أزمة ولا انهياراً – تخدم حقيقة المحافظة على وضع سائد متحجّر بات أمل العدالة فيه ضعيفاً. نسلّط الضوء فيما يأتي على هذه الممارسات التي أطلقنا عليها اسم ممارسات الإحباط، وهي قد تصل أحياناً إلى مستوى استراتيجيات إحباط مكتملة المعالم يستخدمها الفاعلون المهيمنون لإرهاق الأجير وإقناعه في نهاية المطاف بعبثية المواجهة القضائية وضرورة قبول المساومة على حقه عبر وساطات مختلفة، يمرّ بعضها بالزعامات أو السلطات التقليدية، في ظلّ لا مبالاة أو عجز كبيرين لدى المهن القانونية. أصبحت قصور العدل اليوم بشكل عام، ومجالس العمل التحكيمية بشكل خاص، مصانع إحباط عمّالي كبير، ينخر نخراً ثقة طبقات اجتماعية بكاملها في سلطات الدولة المركزية ومشروعيتها.
اليأس، أوّل ما تقدّمه قصور العدل للأجير
بعد أشهر من العمل الميداني، وفيما كنّا قد وثّقنا إيماناً صلباً في الحقوق في ذهن قسم من العمّال والأجراء قبل اللجوء إلى القضاء، وجدنا أنّ تجربة المحاكم تطحن هذا الإيمان طحناً، تاركة مكانه شعوراً هو مزيج من القرف والإحباط واليأس. وقد استُعمِلت هذه الكلمة (القرف) بحرفيّتها مراراً من قبل عدد من الأجراء والأجيرات اللواتي قابلناهم في بحثنا[1]، وكأنّ هذا المصطلح أصبح مفردة جديدة من مفردات العدالة في خضم الأزمة الحالية، والوصمة الأساسية التي تطبع التجربة القضائية للأجير. إلى جانب “القرف”، يشعر الأجير “بالاستهتار والأذية المعنوية”[2]، وصولاً إلى شعور كاسح “بالتعب”.
“التجربة كتير متعبة. بتحرق نهارك. بدك تطلع عالدواير الرسمية، أو أي محل خصّه بالدولة، كلّ شي في وراق وشكاوى… بتحرق نهارك. يعني هلق من ورا الـ crisis، ما بعرف قبل كيف كانوا، رحت لقدّم شكوى الخميس، قعدت من الساعة 9 للـ 11 قاعد هيك، طلعوا مأضربين. والشي البشع بالنهاية أنو هيدي الدولة، ما بعرف إذا كل البلاد هيك”.[4]
“مجرّد ما تأجّل جلستك 6 أشهر يعني نص سنة. ما في تبرير، ما بيتلاقى تبرير. خاصّة وقت تجي عالجلسة الجدول تلات أرباعه مش حاضر لأنّو يأس. خلص. ليك نحن ما بحياتنا ما عشنا أزمة. أنا ما بحياتي ما عشت أزمة. الأزمة دايماً من وقت ما وعيت عالدّني. قبل الأزمة وبعد الأزمة نفس الشّي”.[5]
يجد الأجير نفسه أمام ماكينة تدفعه إلى الاستسلام “والتخلّي عن حقه – وهذه مصيبة”[6]، بعدما كانت عزيمته قوية جداً في البداية. وكلمات معجم القضاء والعدالة بحسب الأجير، طبعة 2021، عديدة وتتكاثر منذ بداية الأزمة: سبق وأعطينا مثال “اليأس”[7]، الذي قد يؤدي إلى التغيّب عن الجلسات. “العبثية”[8]، وهو مثل آخر، وسببها سلسلة الإضرابات والاعتكافات والتأجيل الممنهج الذي من شأنه “الأذية في الصميم”[9]. “تجربتي قصة”، قالتها لنا أجيرة، إنّما ليست قصة جميلة، إنّها قصة “بهدلة كتير، كتير”[10]، وهي كلمة أخرى تضاف إلى معجمنا. “استوى الوضع يا ريّس”[11]، عبارة سمعناها أيضاً في الجلسات. وإحباط مجالس العمل عام 2021 هو مرض معدٍ آخر كان على الأجراء مواجهته، لكنه مرض يفتك بقصور العدل بشكل أساسي. إنه معدٍ لدرجة أنّه يطال محامي الأجراء بدورهم، الذين ينتابهم شعور بالغبن إذ يشعرون وكأنهم “يدفشون سيارة” قديمة في العدلية[12]، فيما أصبحت متابعة ملفات العمل أمراً “بتعّب كتير”[13]، في ظل انطباع لدى بعضهم بأنّ القضاء يقول “حلّ عني ما بدي إحكملك هلّق”.[14] كيف يشرح المحامي لموكّله الأجير أنّ الموظف الرسمي لم يأت إلى عمله شهراً بكامله، أو أنّ المحامين في إضراب لأسباب لا علاقة لها بقضيته، ما يؤجّل معالجة ملفّه ومشكلته ووجعه شهوراً إضافية؟[15]
وفيروس الإحباط، المنتج في مختبرات القضاء اللبناني، قد يكون أكثر انتشاراً من كورونا هذه الأيام، إذ أنّه لا يعني الأجراء ومحاميهم لوحدهم، بل يضرب أيضاً النقابيين وأعضاء مجلس العمل التحكيمي من ممثلي أجراء ومفوضي حكومة وقضاة، الذين يشاهدون صناعة اليأس يومياً في أروقة المحاكم وقاعاتها، ويصفونها لنا عاجزين:
“ قد ما يئسوا، تعوّدوا عاليأس، ما بقا يتابعوا قد قبل”[16]؛ “وأنا صرت اسأل حالي سؤال: بعمل جلسات أو لا؟ ما أوراق التبليغ ما موجودين. بتصير تشوف العامل واقف قدامك معتّر، والمدعي عليه ما مبلّغ”.[17]
“حالتهن بالويل. في ناس مثلاً، في وحدة قالتلي أنا معي cancer إنو بدّي تعويضي ومَنّي قادرة، بدّي قبل ما موت آخذ هالتّعويض”.[20]
إنّها حكاية قبول تعب الأجير والأجيرة كجزء من الحياة، التطبيع معه، لا بل تحويله إلى قدر على كلّ أجير وأجيرة أن يعيشانه لا محالة. هما يتعبان كلّ يوم في عملهما وحياتهما، فلماذا لا يتعبان في مجالس العمل أيضاً؟ إنّه خيط التعب الذي يذكّرهما ويذكّر الجميع في كل لحظة بهويّتهما كعمّال. هذا ما عبّر عنه لنا أحدهم، بقوله: “يلّي بدو يوصل لحقه بدو يتعب. ما فيك يطلعلك حقك إنت ونايم بالبيت يعني. بدو يوصلّي حقي أنا ونايم بالفرشة؟ ما بيوصل”.[21]وما نريد إظهاره في الفقرات التالية، هو أنّ تعب الأجير والأجيرة ويأسهما يأتيان نتيجة صناعة وممارسات ممنهجة فريدة يتميّز بها نظام العدالة اللبنانية ومحاكمها.
بداية: عزل الأجير – العوامل البنيوية
لم يأت شعور الأجير بالإحباط من العدم. إنه نتيجة تشابك مجموعة عوامل بنيوية يتميّز بها النظام الاقتصادي والقانوني، فيضرب الأجير ويعزله حتى قبل دخوله عتبة قصر العدل الذي سيدخله وحيداً هشّاً. ترتبط هذه العوامل بالخلل في العمل النقابي اللبناني (1)، وبالقانون الذي يرعى الدعوى والمحاكمة أمام القضاء العمالي وبغياب سياسات الوصول إلى العدالة بشكل عام (2)، وهي عوامل تحضّر أرضية التهميش وتقدّم الأجير فريسة سهلة لممارسات الإحباط في القصر.
عمل نقابي خجول ومتقطّع في مجالس العمل
طبعاً، النقابات العمالية موجودة ولو صوَرياً في مجالس العمل. فهي، عبر الاتحاد العمالي العام، ترشّح بعض النقابيين للمشاركة كممثلين عن العمال في مجلس العمل التحكيمي، إلى جانب ممثلي أصحاب العمل والقضاة. كما أنّه متى تابع الباحث عمل بعض المنظمات الداعمة للعمال والتي حافظت على سمعتها في السنوات الأخيرة، قد يجدها فعّالة، كما تقوله تلك الورقة التي أعدّها اتحاد نقابيّ نشيط[22] والتي تعرّف النقابة ودورها، من أجل توعية “الأخ العامل” و”الأخت العاملة” قرأ فيها مثلاً أنّ “النقابة سلاح فعّال بين يديك للدفاع عن حقوقك… النقابة تنوب عنك في مختلف مواضيع النزاع بينك وبين صاحب العمل لديك… النقابة تعطيك القدرة على المواجهة والدفاع عن حقوقك وتحقيق المكتسبات…”. إلّا أنّه عندما يتموضع الباحث من ناحية الأجراء الذين يذهبون كلّ يوم إلى المحاكم، يبدو العالم الذي تصفه الورقة مغايراً عن واقعهم، على الأقل إذا أخذناه من الزاوية القضائية. من وجهة نظر العديد من الأجيرات والأجراء المصروفين منذ بداية الأزمة، يبدو الوجود النقابي خجولاً لا بل شبه غائب في مساندة الأجيرة ومتابعتها في المحاكمة. حتى عندما تقدّم بعض المنظمات النقابية الجدية الدعم لعدد من العمال، يبقى العامل “بيروح وبيجي لوحده” والنقابة “خلفه، أي الجندي المجهول”.[23]
وحتى هؤلاء النقابيون النشيطون يتذمّرون من عدم مأسسة عملهم في فلك القضاء، أي أنّه “ممنوع على ممثل النقابات أن يرافق العمّال بوضوح، يعني بشكل ظاهر. إذا اضطررنا أن نرافق العامل، نرافقه مستترين”.[24] إنّه دعم استثنائي وغير معترف به قضائياً وكأنّه غير شرعي. كما أنّ ممارسات النقابيين ليست سائدة في كافة النقابات، كونها مبادرات يطلقها نقابي، “عسلامته”[25]، إذ هو يميل شخصياً إلى متابعة شؤون أجراء نقابته أمام وزارة العمل والقضاء ومساندتهم في الحلول الحبّية بشكل خاص. وحتى لو كان هنالك جهوزية نقابية موضعية، رأينا أنّ الأزمة الحالية تخنقها وتبطئها وتقلّل من فعاليتها: “يعني ما إلنا عين نحكي… بس ما في كهربا لنشتغل”.[26] قالتها لنا مسؤولة نقابية، بعد أن ضحكت بخجل، منحنية الرأس، وترددت في الإجابة وتلعثمت. وضحكنا معها، وكلّنا نعلم أنّ الضحك هنا يخبّئ مرارة العجز الهائل الذي يدفع ثمنه آلاف الأجراء الذين يواجهون وحيدين وحش رأس المال فيما هم يتسلّقون قمة المؤسسات القضائية الموحشة.
كلّ ذلك يحصل في ظلّ غربة العديد من الأجيرات والأجراء عن الجو النقابي وعن الشعور بالانتماء النقابي، حتى أنّ بعضهم يشيْطنه ويعتبره شبيهاً بالعمل الحزبي السياسي المغضوب عليه هذه الأيام. “ما فهمت عليك بس عيد السّؤال”[27]، عبارة واجهتنا عند سؤالنا عن نشاطات العامل النقابية، وكأننا نسألهم عن شيء غريب لا ينتمي إلى عالمهم الملموس. وأبشع حالة يصل اليها الأجير في انعزاله الما قبل قضائي، هو عندما يعتبر أن نقابته تتواطأ مع صاحب العمل الذي أقدم على صرف جماعي، دون العودة إلى الأجراء المنتسبين إلى هذه النقابة.[28] كلّ شيء مسموح في عالم لم تعد النقابات تؤمن بدورها فيه، ولا القضاء يؤمن بوظيفته فيه.
غياب سياسات الوصول إلى العدالة
أتاحت المادة 77 من قانون العمل[29] للأجراء تقديم دعواهم أمام مجلس العمل من دون توكيل محام، على أساس أنّ من شأن ذلك أن يخفّف من العبء المالي عليهم مما يعزز من قدرتهم على الوصول إلى العدالة. إلّا أنّ غياب سياسات الوصول إلى العدالة فيما يخص قانون العمل أو عدم فعاليّتها، لا سيّما في ظلّ أزمة بحجم تلك التي يمر بها البلد، إضافة إلى غياب المحامين في العديد من دعاوى العمل، قد أنتج واقعاً على الأرض حيث يُترك الأجير وحيدا في مواجهة الأخطبوط القضائي الغريب. ويسمح إمضاء الوقت حول مجالس العمل التحكيمية بمشاهدة عشرات الأجراء الضائعين في ممرّات القصر كلّ يوم، لا يعرفون إلى أين يذهبون، أو ماذا يقولون أو ماذا يكتبون.
تضخّم هذه البنية غير الصديقة، صعوبة التقاضي وتعقّده بالنسبة للأجير لدرجة إرهاقه بشكل قلّما يعرفه أصحاب العمل أو أعضاء الطبقات الميسورة عندما يلجأون إلى القضاء. يعي الأجراء تماماً هشاشة وضعيّتهم في فلك العدالة “أكيد وقت الإنسان يكون عندو محامي بيشدّ ضهره بالمحامي. طبعاً، هيدي ما فيها جدل”.[30]عندما نسأل الأجراء لماذا هم وحيدون وتائهون في ممرات قصر العدل، معظمهم يشير إلى الوضع المادي ومفاعيل الأزمة التيلا تسمح بدفع بدل أتعاب لأي محام، فيما لا يعرفون الكثير عن المعونة القضائية أو يجهلون حتى وجودها. وفي جميع الأحوال، هم يستطيعون إقامة الدعوى من دون توكيل أي محام، والأسهل يبدو لهم القيام بذلك فعلاً، غير واعين لما ينتظرهم في مغارة العدلية. لا يعلمون بوجود أيّ مراجع أخرى، نقابية أو رسمية، قد تقدّم لهم الدعم في مسارهم القضائي. هل لديك القدرة على توكيل محام أم لا، هذا هو السؤال بالنسبة للعديد من أجراء اليوم، وإذا كان الجواب لا فالعواقب وخيمة، إذ يكتفي عندها الأجير بالتوكّل على المرجع الوحيد المتوفّر بالنسبة إليه: “لا حول ولا قوة إلّا بالله”.[31]
إنّ وحدة الأجير هنا هي ذات مفاعيل سلبية تراكمية عليه:فبحسب قضاة التقيناهم، يأخذ الملف الذي يتولّاه الأجير وحيداً وقتاً أطول من الملف الذي يتوكّل فيه محام. والقضاة يشعرون بالفرق عندما يكون هنالك محام، إذ أنّ الأجير “بيجي بيحكيك الخبرية بلا مستندات”[32]، “أو بكون ماضي على براءات”.[33] ناهيك عن ذلك، فإنّ الدعوى الجماعية غير مسموح بها لا في القانون ولا في الاجتهاد المستقر في لبنان. يجب أن تكون دعوى العمل فردية، وحجّة ذلك أنّ المشكلة تتعلّق بعقد عمل ولكلّ عقد خصوصية ولو حصل الصرف جماعياً. رأينا حالات فيها أكثر من أربعين أجيراً وأجيرة أرادوا التحرّك معاً في قضية صرف واحدة، قبلما يتراجعوا بعدما فسّر لهم محامٍ أنّ عليهم أن يقدّموا أربعين ملفاً قضائياً منفصلاً. فالقانون وأصوله يشرذمان الجبهات العمالية متى قررت اللجوء إلى القضاء، فارضين وحدة الأجير أمام ملفه، ومعقّدين التعاضد العمالي فيما أجراء لبنان هم بأمسّ الحاجة إليه.
سياسات الغياب: الأجير أمام الكراسي الفارغة
قد يكون الكرسي الفارغ أبرز فاعلي عدالة العمل في لبنان 2021. يغيب أو يتغيّب الكثير من فاعلي قضاء العمل عن المحاكمة، سواء من ناحية الهيئة القضائية أو الفرقاء، لا سيما أصحاب العمل وممثليهم، وبوتيرة لا يقبلها عقل أو منطق أو نظام عادل. كم من مرّة سمعنا في مجالس العمل، بين بيروت وطرابلس خلال عملنا الميداني، هذه الجملة التي قد تكون الأكثر ترداداً في فلك مجالس العمل اليوم: “لم يحضر أحد ولتكرار دعوتهم، أرجئت الجلسة”. تعاد هذه الجملة طوال أيام الجلسات، كنغمة حزينة تُعزف على وقع ترهّل القضاء، لتذكّرنا بكنائس هجرها المؤمنون فيما يحاول الكاهن – القاضي وحيداً تأدية دوره الذي فقد معظم معناه. وقد ساهمت جائحة كورونا ونتائجها طبعاً في تفاقم هذه الظاهرة، كما أنّ الأزمة الاقتصادية أدّت دوراً بارزاً. والأجراء المدّعون أنفسهم يتغيّبون أحياناً، فيسجّلون الدعوى قبل انتهاء المهل ولا يتابعونها، إذ يفضّلون الذهاب إلى تسويات مختلفة وغالباً ما تكون مجحفة، لكنيعتبرونهاأفضلمنمتاهاتقضاءالعمل. إلّا أنّ سياسة التغيّب أقدم بكثير من الفيروس والأزمة ومفاعيلهما، وأكبر من ظاهرة الأجراء المتغيّبين، فهي وليدة نظام عدالة حادَ عن رسالته الأساسية وضاع في روتينه فأصبح لا يعير مصالح الأجير أهمية كبرى. كلّ مرة تلفظ فيها هذه الجملة أو إحدى أخواتها، علينا أن نتخيّل أجيرة تنتظر (وحيدة في الكثير من الأوقات) وتشاهد عاجزة مقهورة رقصة الغياب التي يمارسها بتفان وانتظام بعض فاعلي العدالة الآخرين.
“بأزمة (كورونا) نادراً تصير جلسات. إنو منسجّل، مناخد رقم. بس ما في قاضي، ما في كاتب”.[34]
ولكن حتى بعد عودة المحاكمات وانعقاد الجلسات بشكل منتظم في عام 2021، وثّقنا بشكل متكرّر الغيابات المتواصلة في جلسات العمل. أحياناً يغيب ممثل صاحب العمل، وأحياناً أخرى ممثل الأجراء، وأحياناً أصحاب العمل أو محاميهم وأحياناً أقل القاضي، في تناوب منتظم يدفع الأجير إلى الاعتقاد بأنّه الطرف الوحيد المستبعد من لعبة قضاء العمل التي يلمّ بقواعدها الفرقاء الآخرون. وحتى الفرقاء الذين يحضرون، غالباً ما يأتون متأخرين بعد أن انتظرهم الجميع (ولاسيما الأجير والقاضي) لعشرات الدقائق لا بل لساعات طويلة أحياناً، يمضيها الأجير جالساً وحيداً على مقعد خشبي يتشاركه معه الغبار، أو متّكئاً على حائط وسخ وحاملاً بعض أوراق ملفه المبعثرة، أو متمشياً في ممرات قصر العدل بحثاً عن خصم متخفٍّ أو عن أعضاء الهيئة القضائية الضائعة. وتجذّرت سياسة الغياب لدرجة أنّه عندما يحضر من طال غيابه (لا سيما من ممثلي العمال أو أصحاب العمل)، يضحك الحاضرون[35] ويتشاركون المزاح، في إطار ما أصبح “نكتة داخلية” في العالم القضائي اللبناني. عندما يحضر ممثل أصحاب العمل مثلاً، وهو صاحب محل حلويات شهير، ويفاجئ الجميع لأنّه نادراً ما يحضر، يتدخّل محامي الضمان قائلاً للقاضي والضحكة ظاهرة على وجهه: “هل تعرف يا ريّس لماذا حضر اليوم؟ لأنّه ارتفع سعر كيلو البقلاوة”، ويضحك الجميع مجدداً.[36] الأجير وحده لا يفهم روح الفكاهة هنا، ولا يضحك.
أحياناً يغضب القاضي بسبب تأخّر أحد أعضاء الهيئة، لتصل الأمور إلى أن يتّصل به للاستفهام[37]. وكم من مرة وصل القاضي والكاتب قبل الجميع، وكأنّ الهيئة تقوم عليهم وحدهم، فينتظرون مع الأجير أن يحضر الآخرون للقيام بالتواقيع اللازمة. ليس كل القضاة مثابرون هكذا طبعاً، إذ أنّ البعض منهم لا يعقد الجلسات إلّا نادراً، كونهم معيّنون في أكثر من محكمة، فيضافون على لائحة الفرقاء الذين على الأجير انتظارهم بصمت. هم معروفون في مجال العمل بالقضاة “المش فاضيينلا [لمحكمة العمل]، أو المتكبّرين عليها”.[38] هنا دليل آخر على مكانة مجالس العمل في أولويات القضاة وفي هرمية مواقعهم، حيث تحتلّ موقعاً دونياً بالنسبة للمحاكم الأخرى (وإن لم ينطبق ذلك على جميع قضاة العمل). وهؤلاء القضاة ليسوا وحدهم من يضع مجالس العمل خلف مراكزهم الأخرى، إذ أنّنا شاهدنا محامين يغيبون عن الجلسات أيضاً، فهم “مضطرّون” للذهاب إلى محاكم يعتبرونها أهم كالمحكمة العسكرية أو قضاء التحقيق[39]، فيرسلون محامياً شاباً مكانهم، لم يعمل أبداً على الملف[40] وليس ملمّاً بتفاصيله، أو متدرّجة لم تقسم اليمين بعد، ما يؤدّي إلى عرقلة الجلسة وانتظار مجيء المحامي شخصياً أو تأجيلها.[41] للغيابات أسباب مختلفة إلّا أنّ نتيجتها مماثلة: إعطاء الأجراء انطباعاً أنّ لا أحد (ما عدا القضاة ربما، وليس جميعهم) يأخذ جلسته ومعاناته وحقه على محمل الجدّ.
ولا نخفي أنّ الغياب المتكرّر لمحامي صاحب العمل كان ملحوظاً في الجلسات العديدة التي حضرناها، بحيث كان الجالسون في المقعد المخصص للأجراء يتبدّلون دائماً مع المضي قدماً بـ “رول” الجلسات، في حين أنّ المقعد المخصّص لأصحاب العمل كان يبقى خالياً ساكناً، وإن كان هدوؤه مدويّاً في آذان الأجير. فهو يتلقّى الصفعة مرّتين، مرّة عند الصرف المفاجئ ومرّة عند غياب صاحب العمل الذي لا يأخذ لجوءه إلى القضاء على محمل الجدّ. كل ذلك تحت نظر القضاة العاجزين[42]، فتتكدّس الملفات غير المفتوحة أمامهم، في مشهد نمطيّ آخر من مشاهد عدالة العمل اليوم.
القانون ضدّ العدالة؟ قواعد المحاكمة تعطّلها
مشاكل جلسات العمل التحكيمية عديدة وقديمة، ولَحَظَتها العديد من الأبحاث (هنا وهنا) منذ ما قبل الأزمة، إلّا أنّ هذه الأخيرة فاقمتها بشكل جعل تجربة الأجير فيها مرهقة. فالأجير اليوم ما زال يواجه حائطاً من الممارسات القديمة – الجديدة: الجلسات تبدأ في وقت متأخّر من النهار[43] وذلك إن عقدت، أو تتأجّل بشكل كثيف بسبب “مئة طوشة (أي مشكلة) عند القضاة”[44]، و”نهج لم يتغيّر”[45] في المحاكمة بالرغم من حدة الأزمة، فيما تسود ثقافة “التسامح في سبل المماطلة”[46] في إدارة الجلسات، ما يؤدّي عموماً إلى “عدم أخذ الأمور على محمل الجد”[47] من قبل فاعلي عدالة العمل، ما عدا معظم القضاة الذين يُظهِرون كلّ الجدية إلّا أنّهم يعجزون عن معالجة مشاكل تبدو أكبر من إمكانياتهم، والأجير الذي آمن بالقضاء ولجأ إليه.
إن مجالس العمل التحكيمية قضاء استثنائي، إلّا أنّ المحاكمة أمامه تعتمد العديد من أصول المحاكمة التقليدية الضامنة أصلاً للمحاكمة العادلة، والتي من المفترض أن تحمي كلّ الفرقاء ولا سيما الأجير. إلّا أنّ تطبيقها الأعمى على الأرض اليوم في زمن الأزمة أصبح له نتائج معاكسة تتعب الأجير بدل حمايته. مثال على ذلك التشدد الكبير في مسألة التبليغات، إذ من شأن عدم تبليغ الخصم (أي صاحب العمل)، مهما كانت أسبابه وظروفه والنوايا خلفه، أن يرجئ الجلسة تلقائياً. يجلس القاضي وراء مكتبه وينظر إلى ملفاته لمعالجتها، تضمحلّ حماسته حين لا يحضر الفرقاء، فيقلّب بالملفّات ويقول “ما تبلَّغوا، ما تبلَّغوا، ما تبلَّغوا…”[48]، فتُرجَأ الجلسات الواحدة تلو الأخرى. في موقع آخر، تحضر الأجيرة المدعية لكن لا يحضر أحد عن الجهة المدعى عليها، وهي مبلّغة موعد الجلسة: “آآآه، هذا اعتذار لعدم التبليغ”، يقول القاضي وهو ينظر إلى الملف، فيرجئ الجلسة، أو يطلب إعادة تبليغ صاحب العمل أو المحامي بسبب عدم قبول التبليغات في الإضرابات[49]، فيما الأجير المعني لا يفهم لماذا عليه أن يبلّغ مجدّداً، مع كل ما تحمله هذه العملية من مجهود وتعب. هكذا يدخل الجميع في دوامة رتيبة من تأجيل الجلسات والاعتذارات المختلفة، ولكلّ واحد عذره في زمن الأزمة.
وقد رأينا في المقالة السابقة كم أنّ موجب الكتابة في إجراءات المحاكمة يعنّف الأجير ويحبط عزيمته. فمثلاً مثل أحد الأجراء من دون محام أمام مجلس العمل، وعندما اقترح أن يفسّر للقاضي في الجلسة شفهياً ما قد حصل معه، قال له القاضي مقاطعاً – بعد أن أظهر تفهّماً – “كل شي بدك تقولو لازم تكتبه وتبلّغه”[50]. يحاول مجدداً أن يشرح له الوضع بعد انتهاء الجلسة أمام الجميع، إلّا أنّه يظل مصرّاً على الكتابة، فيما هو يزيد ضياعه. مثل آخر على مفاعيل روتين المحاكمات على تحقيق العدالة: التأكّد من صحة الوكالة المعطاة للمحامي. هنا مصدر آخر لأسباب تأجيل جلسات العمل إلى ما لا نهاية[51]. ففي العديد من الجلسات التي حضرناها، لم ترفق الوكالات في الملف[52]، ما يُنتج أسباباً أخرى للتأجيل على حساب الأجيرة التي يزيد ضياعها.
كلّ هذه المسائل مهمة طبعاً، إلّا أنّ التشدّد الهائل فيها – بعيداً عن أي تفكير في مشروعيتها ونجاعتها – أصبح سبباً دائماً لتأجيل الجلسات في الوقت الذي تنتظر فيه الأجيرة خلاصها. تحوّلت مجالس العمل التحكيمية اليوم على الأرض، وفق سير المحاكمات اليومي والفعلي، إلى محاكم التبليغات المستحيلة والوكالات غير الصالحة.
ممارسات الذلّ أمام القضاء العاجز
كما ذكرنا آنفاً، تظهر إهانة الأجير جلياً عندما يحضر الجلسات ولا يجد خصمه الذي صرفه، حيث غالباً ما يصطدم بجملة أخرى تتردّد في الأوساط القانونية وحتى في الجلسات: “جئت ولم أجده”[53] (يقولها المباشر الذي لا يبلّغ صاحب العمل المدّعى عليه لأنّه لم يجده). يصل أمامنا رب عائلة ويقف أمام القاضي الذي يسأله: عندك جلسة؟ يغضب الأجير ويرثي لحاله ولحال عائلته: “الجهة المدّعى عليها ما تبلّغت، كل مرة نفس الشي حضرة القاضي، بروح عمخفر زحلة وبدفع كل مرة مصاريف تنقل أكثر من خمسين ألف ليرة”. يقدّم للقاضي الورقة التي تظهر أنّه ذهب مرة أخرى إلى زحلة ليبلّغ صاحب العمل باليد، لكنهم قالوا له “بالحرف الواحد” إنّ صاحب العمل “دائماً غير موجود”. “صرلي سنتين حضرة القاضي، كل مرة بيعملولي تفنكة، ما عندي بقى لا شغل ولا شي، وما في شي”. قال له شاب إنّ هناك عدّة مدّعين مثله ضد المدعى عليه نفسه وبالحالة نفسها. يترجّى القاضي بصوت فيه من الانسحاق والعنفوان في الآن ذاته، لكي يفعل شيئاً لردع هذه الـ “تفنكة” التي يقوم بها المباشر وصاحب العمل، والتي تهدف علناً إلى عدم التبليغ: “حضرتك قاضي، الله يطوّل بعمرك عندي ولاد، الله يرحم بيّك”. يجيب القاضي: “شو فيني أعمل أكتر (أي أكثر من أن يحدّد له جلسة)؟” ثم حدّد له جلسة في موعد لاحق[54].
ولا شكّ أنّ لبعض المحامين دور، خلال دفاعهم عن أصحاب العمل، في التأثير سلباً على مسار المحاكمة وعلى معنويات الأجير وعزمه. سمعنا شهادات عدّة تتّهمهم بأنّهم يحبّون أن “يطوّلوا”[55] المشكل، وقد يساعدهم أحياناً ممثّل أصحاب العمل في تمييع النّزاعات: “أيّ محام يريد تأجيل الجلسة، يساعدونه”.[56] في جلسة أمامنا، محامي معروف جداً لصاحب عمل، شغل مناصب مهمّة، يتناقل الحاضرون أنّه “يغلق مكتبه هو أيضاً”[57] كي لا يتبلّغ، أمام عجز الأجير والقاضي في الوقت عينه. في مكان آخر، محام يقال عنه أمامنا إنّه يتواطأ مع محامي الضمان في ملفّ معيّن، مما يؤدي إلى تأجيل متواصل للجلسات. خلال ورشات عمل حول حقوق الأجراء، يتناقل الحضور كيف أنّ بعض المحامين لا يتردّدون في إهانة الأجير والناشطين والناشطات النقابيات اللواتي قد يرافقونه في مساره: “إذا بتقدري يطلعلك قرار وتنفذي [لصالح الأجير]، أنا رح علق شهادتي ععرباية فجل”[58]. وإذا نجا الأجير من ممارسات محامي صاحب العمل، قد يقع ضحية استهتار محاميه: شرح لنا قاض أنّ الملف أمامه مجمّد منذ سنة 2016 لأنّ محامي الأجير لا يتابع الدعوى بحيث لا يقوم بتبليغ الخصم مطالعة مفوّض الحكومة، أو موعد الجلسات[59]، على حساب الأجير وحقوقه طبعاً.
قد تدفع سياسة التمييع الممنهج الأجير إلى التبرّع بنفسه ووقته وكرامته ليحمل على أكتافه عبء الأصول التي وضعت أصلاً لحماية أمثاله. يذهب بنفسه ليبلّغ صاحب العمل الذي يقيم في منطقة بعيدة[60]، أو يأخذ المباشر معه في السيارة لكي يتأكد من وصوله إلى مقر صاحب العمل[61]. والقاضي شاهد على هذه الممارسات، فيقول له أحد المحامين علناً أثناء الجلسات إنّ هنالك أصحاب عمل “يتعمّدون ذلك” (عدم التبلّغ) ومباشرين “بياخدوا فرنكين”[62] لعدم التبليغ فيما هو يهزّ رأسه موافقاً ولكن عاجزاً. هذا الأمر يأتي في إطار التطبيع مع نظام ظالم يصبح فيه الأجير هو من يحرّك وحده قطار العدالة أمام قاض صامت ومثقل بموجب الحيادية واحترام الأصول، فيما سائر الفرقاء يحتسون القهوة على متنه ويعلّقون على الوضع السيئ بين الرشفة والأخرى. وفي ظلّ كلّ ذلك، يتقاذف الجميع مسؤولية وضع الأجير، فيؤكّد القضاة أنّ “الحق ليس عليهم”، وأنّ البعض يحاول رمي الكرة في مرماهم دائماً، إنّما المسؤولية تقع على عاتق المحامين الذين لا يبلّغون، والتعبئة العامّة، والإضرابات[63] إلخ. وبدورهم، يقول المحامون إن القضاة “يرضون بالمماطلات” وهو دلالة على “عدم جدّيتهم” و”استلشاقهم” (استهتارهم) في معالجة الملفات في هذا الوقت الحساس.[64] وعندما تنتهي رقصة الاتهامات المتبادلة ليعود الجميع إلى روتين العدالة القاتل، يبقى الأجير المصروف منتظراً وحيداً، بلا عمل ولا روتين لديه للعودة إليه.
استغلال “الأزمة” على حساب الأجيرة: الحجّة بتقلي العجة ونصف
لا شك أنّ الأزمة أنتجت أسباباً موضوعية حقيقية من شأنها عرقلة المسار القضائي للأجيرة. هنا اعتذار مقدّم من الكاتبة لرئيس المحكمة عن مدعية غادرت من القبيات ولم تصل بعد بسبب أزمة البنزين[65]. هناك عدم ضم الوكالة في الملف لأن “والله يا ريّس، ما قدرت اطبعها، مرة الجايي، بس تتجي الكهرباء”[66]. وحتى الموظف الرسمي قد يعتذر من محامي الأجير: “بعتذر أستاذ ما قدرت أعمل كلّ التبليغات لأنو شركة المطابع ما أمّنتلي”.[67] وكيف ننسى سلسلة الإضرابات كإضراب المحامين، وإضراب المساعدين القضائيين بسبب الأزمة. كنّا موجودين في المحكمة في أيام يحضر فيها كافة المساعدين القضائيين إلّا أنّهم “ما بيكتبوا كلّن”[68]، فالحظ يكون من نصيب الأجير الذي يوجد ملفه بين يدي الموظف “الذي يكتب” (أي غير الملتزم بالإضراب)، فتسهل أموره، وتعقد له الجلسات. أما الأجير الآخر فـ “يُزيَّن” ملفه بعبارة من العبارات التي أصبحت أيضاً من ثوابت قضاء الأزمة وهي: “أرجئت الجلسة بسبب إضراب المساعدين القضائيين”. للأزمة مفاعيل ترعى المحاكمة اليوم أكثر من أصولها المكتوبة، على حساب كرامة الأجيرة دائماً.
لكن إلى جانب مفاعيلها الحقيقية، أصبحت هذه الأزمة سلاحاً مبتكراً في وجه الأجراء في المحاكم، وخزّان حجج على حسابهم يتذرّع بها من يشاء متى يشاء لتحقيق مكاسب ما في المحاكمة، وبخاصّة للمماطلة بها. يجد الأجير نفسه عالقاً في شبكة من الحجج المتنوعة، يحيكها بعض المحامين أو الممثلين في مجلس العمل من نسيج واقع الأزمة يوم الجلسة. ففي صيف 2021، كانت الحجّة السائدة في مجالس العمل متعلّقة بعدم القدرة على الحضور بسبب أزمة الوقود.
” فيه يقول ما معي بنزين لإجي. صار سبب. بس في ناس بيتهرّبوا وبيقولوا هيك. صراحة في ناس عم تتحجج بهالشي ليستفيدوا”.[69]
” آخر الهم هوي هم الأجير. واليوم إجاهم شحمة عفطيرة الأزمة وكورونا ليبرّروا أعمالن”.[70]
وعليه، بدل أن تكون الأزمة محفّزاً لمساعدة الأجيراتوهنّ ضحيّتها الأولى، أصبحت في واقع محاكمات العمل أداة تستعمل لمنعهنّ من تحصيل حقوقهنّ. ويصبح الأجير بالتالي ضحية عقابين لوضعيتهكمهمّش في نظام عدالة يعطي الأولوية للنافذين الميسورين:عقاب أوّل وهو صرفه المفاجئ بسبب الأزمة الاقتصادية من دون تحصيل حقوقه التي يكفلها القانون، وعقاب ثان عندما تستعمل عوامل الأزمة المعيشية ذاتها لتأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية، حتى يفقد الأجير صبره وإيمانه بمنظومة العدالة التي تقف عاجزة أمام هكذا ممارسات:
“ما عم بحكي عن كلّ القضاة. بس معظمن عندن تسامح من ناحية قبول هذه العراقيل أو قبول دفاع لا تعني إلّا المماطلة (…). إنت حسب إذا محامي أجراء أو شركات. إذا محامي شركات نيّالنا بهيك مجلس عمل. نيالنا لأنو قدرة على تعطيله وخاصّة اليوم مع أزمة الدّولار”.[71]
فحسب مشاهداتنا لجلسات العمل التي حضرناها طوال سنة 2021، إنّ الأزمة اللبنانية هي منجم غنيّ لحجج مختلفة قد تستعمل لتأجيل المحاكمات: شحّ الوقود وتسكير الطرقات اللذان يمنعان في الوقت المناسب المحامين والفرقاء وحتى أعضاء الهيئة الحاكمة من الوصول إلى المحكمة، الكهرباء التي هي دائماً حاضرة في غيابها لتعيق طباعة المستندات الضرورية لاستكمال المحاكمة، والوباء طبعاً وما أسهل استعماله لعدم حضور الجلسات. ومتى عجز الوقود والطرقات والجائحة عن تأمين المطلوب (والمطلوب هنا تمييع المحاكمة إلى أن ييأس الأجير)، يأتي الحكم النهائي بالليرة اللبنانية، بعد أشهر وأحياناً سنوات من الانتظار، تلك الليرة التي فقدت معظم قيمتها، أو بالدولار الأميركي على سعر الألف وخمسمئة ليرة لبنانية، بشكل يفرّغ مطالب الأجير من كلّ معناها.
وما ذنب القضاة إن حكموا بهذه المبالغ التي أصبحت زهيدة؟ إنّه القانون، وإنّها الأزمة وقوانينها التضخمية، وقد تضافرت مفاعيل كلّ هذه القوانين النابعة من المشرّع ومن الاقتصاد ومن المجتمع لتحبط الأجير. وبدل أن يخفّف من وطأتها على أكتاف الأجيرة، أصبح قضاء العمل أداة تؤدي إلى تضَخيم مفاعيل الأزمة. كل ذلك يحصل تحت أعين ممثلي الأجراء وأصحاب العمل والقضاة، المنهمكين بدورهم في معارك وجودية ومعيشية خاصة بهم تترك الأجيرة خارجها مهزومة. فهي آمنت بمؤسسات العدالة حتى النهاية، إلّا أنّ هذه المؤسسات والممارسات التي تحتضنها أضعفتها وأضعفت إيمانها بها، بفعالية لا تتمتع بها معظم الممارسات المنافسة لمنطق الدولة في هذه الأيام.
قادت المفكرة القانونية انتاج هذه المواد. هذا المنتج هو جزء من مواد شبكة عملي، حقوقي! وهي شبكة تضم منظمات المجتمع المدني تعمل على تحقيق العدالة والحماية الاجتماعية والقانونية الشاملة لا سيما الحماية للأفراد العاملين في سوق العمل النظامي وغير النظامي في لبنان، بما يتوافق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان وقانون العمل اللبناني ومعايير العمل الدولية.
تدعم منظمة أوكسفام الشبكة وينسقهاالمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين بالتنسيق مع المفكرة القانونية في إطار مشروع “تعزيز العمل اللائق وتنمية الأعمال المستدامة في البقاع، لبنان.”
تم إنتاج هذه المواد بدعم مادي من البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية لدعم لبنان، الأردن والعراق (RDPP II) وهو مبادرة أوروبية مشتركة بدعم من جمهورية التشيك، الدنمارك، الإتحاد الأوروبي، ايرلندا وسويسرا. تمثل هذه المواد آراء شبكة عملي، حقوقي!، ولا تعكس بالضرورة سياسات أو آراء منظمة أوكسفام أو المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفينأو البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية أو الجهات المانحة له.
[1] مقابلة مع أجيرة صرفت من مؤسسة رائدة، طرابلس، 29 حزيران 2021.
[2] مقابلة مع أجيرة صرفت من مؤسسة رائدة، طرابلس، 29 حزيران 2021.
[3] مقابلة مع محام صاحب خبرة واسعة في قانون العمل، 12 كانون الأول 2021.
[4] مقابلة مع أجير مهندس، جبل لبنان، 8 حزيران 2021.
[18] مقابلة مع ناشط نقابي وممثل الأجراء لدى مجلس العمل التحكيمي في بعبدا، 30 تموز 2021.
[19] مقابلة مع ممثل الأجراء لدى مجلس العمل التحكيمي في طرابلس، 28 أيلول 2021.
[20] مقابلة مع مفوّض الحكومة لدى أحد مجالس العمل التحكيمية، بيروت، 28 أيلول 2021.
[21] مقابلة مع أجير صرف من عمله المتواضع، بيروت، 2 حزيران 2021.
[22] الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان.
[23] مقابلة مع نائبة رئيس نقابة عمال في قطاع صناعي، وناشطة في اتحاد وطني مهم للنقابات العمالية، 8 كانون الأول 2021.
[24] مقابلة مع نائبة رئيس نقابة عمال نفسها، 8 كانون الأول 2021.
[25] مقابلة مع أجير صرف من عمله في مطعم، 20 آذار 2021.
[26] مقابلة مع نائبة رئيس نقابة عمال في القطاع الصناعي، بيروت، 8 كانون الأول 2021.
[27] مقابلة مع أجير صرف من عمله، طرابلس، 29 حزيران 2021.
[28] مقابلة مع أجير صرف من مؤسسة كبرى تعتبر من أكبر المشغلين في لبنان، 23 نيسان 2021.
[29] المادة 4 من المرسوم 3572 من عام 1980 المتعلّق بصلاحية مجالس العمل التحكيمية في النظر بنزاعات العمل الفردية والنزاعات الناشئة عن تطبيق قانون الضمان الاجتماعي والمعدّل لقانون العمل. نص المادة 4 : “يجوز تقديم الدعاوى والمثول أمام مجالس العمل التحكيمية دون الاستعانة بمحام”.
[30] مقابلة مع أجير صرف من عمله المتواضع، بيروت، 1 حزيران 2021.
[33] يوقّع الأجير أحياناً، من دون أن يعلم السبب وبناء لطلب صاحب العمل، على أسناد وأوراق يكون فيها تنازل عن بعض الحقوق المالية المترتبة على صاحب العمل لمصلحة الأجير.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.