لسنوات طويلة ظل المسافرون عبر مطار بيروت الدولي محاصرين بمقهى واحد ومطعم واحد، إلا إذا كانوا من المؤهلين للدخول إلى صالات الدرجة الأولى. أسعار هذه المقاهي والمطاعم لا تقارن بأيّ مطعم مشابه. فلطالما ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار عن الأسعار الباهظة وبعرض فواتير ضخمة.
بقي الأمر على ما هو عليه بالرغم من إطلاق إدارة الطيران المدني مزايدات عدّة لإشغال وإدارة واستثمار مطاعم وكافيتريات في مبنى الركاب في مطار بيروت منذ العام 2020، انتهت كلها بالفشل بسبب تقدّم عارض وحيد. في المزايدة الأخيرة تغير الوضع. ففي 25/4/2023، اجتمعتْ لجنة التلزيم لفض العروض الواردة إلى هيئة الطيران المدني، وتبين ورود 3 عروض من شركات: نيفادا، FHB MENA Franchise، و”اللبنانية لتموين المطارات” (LBACC).
التدقيق في الملفات المقدمة أظهر أن العرض الثاني لم يكن جدياً، فلا شهادة الخبرة صادرة باسم العارض كما ينص دفتر الشروط ولا حتى ثبت تخصص العارض بالنشاط الذي يفترض أن يزاوله، فتم استبعاده بالإجماع. مع ذلك، برزت أهمية هذا العرض بتأمينه نجاح المزايدة، حتى بدا أن دوره محصور بذلك (لو تقدم عارضان لكانت المزايدة ألغيت).
بحسب دفتر الشروط، تُحصر المشاركة بالشركات المتخصصة في إدارة مطاعم وكافيتريات في مطار أو مطارات عالمية أو الفنادق المصنفة 5 نجوم لدى وزارة السياحة والمؤسسات الفندقية ذات الشهرة العالمية أو الشركات التي تملك مطاعم ذات شهرة عالمية. أما سعر الافتتاح فقد حُدد بـ 700 ألف دولار أميركي نقدي سنوياً (من دون الضريبة على القيمة المضافة)، إضافة إلى علاوة سنوية متغيّرة بالدولار النقدي حسب مجمل عدد الركاب المسافرين والقادمين وأطقم الطائرات المغادرة فقط.
وبناءً عليه، تم تأهيل العرضين المتبقين:
- عرض شركة نيفادا المملوكة من صاحب الأعمال وسام عاشور مالك سلسلة فنادق لانكستر المصنفة ما بين 4 و5 نجوم (من بينها فندق “إيدن باي” المعتدي على الأملاك العامة البحرية والذي تحول إلى فندق بفعل الأمر الواقع والمخالفات والتواطؤ).
- عرض مقدّم من الشركة اللبنانية لتموين المطارات المملوكة من شركة طيران الشرق الاوسط بقيادة محمد الحوت، والتي كانت تدير المرافق المشمولة بالمناقصة منذ العام 2016.
مع تقديم العارضين شهادة الأيزو 22000 (المعيار الدولي للسلامة الغذائية)، بدا لافتاً تقديم شركة نيفادا إفادات من إطفاء بيروت، الجامعة اللبنانية الاميركية، موقع Booking.com، شركة TUV Nord ،Clinical. وقد رفضت اللجنة جميع الإفادات باستثناء تلك الصادرة عن الجامعة اللبنانية الأميركية، فيما لم يتبين لها إذا ما كانت شهادة الخبرة الصادرة عن نقابة أصحاب الفنادق أصلية أم لا. كما لم يعرف لماذا قدم العارض هذه الإفادات أو لماذا وافقت اللجنة على الإفادة المقدمة من الجامعة.
عرض ضخم يثير الشكوك
بالنتيجة، بعد الموافقة على العرضين الفنيين، تم فضّ العروض المالية لتظهر المفاجأة. إذ قدّمت شركة نيفادا عرضاً ضخماً يزيد عن سعر الافتتاح ب5 أضعاف، فتبيّن أن السعر السنوي المقدم هو 3.453 مليون دولاراً، وهو يشمل الضريبة على القيمة المضافة، في حين تبيّن أن السعر المقدم من الشركة اللبنانية للتموين هو 976 ألف دولار وهو يشمل الضريبة على القيمة المضافة، ليعلن فوز الشركة الأولى بالصفقة المحددة ب 4 سنوات.
الفارق الشاسع أثار الكثير من الشكوك، لكن بالنسبة للإدارة اعتبر الرقم المحقق إنجازاً فعلياً لما يحققه من أموال إضافية للخزينة. وبالفعل بوشر بتنفيذ عملية تسليم المساحات المتفق عليها. وهي بحسب دفتر الشروط 3783 متراً مربعاً (1568 متراً مربعاً مخصصاً للمطاعم والمقاهي) موزعة بين الطابق الأرضي والطابق الأول (مناطق مغادرة المودّعين ومناطق المغادرة الشرقية والغربية)، فيما تخصص المساحة الباقية للمطابخ والإدارة والمخازن وأقسام العمال.
في المقابل، لم تنتهِ الأسئلة المتعلقة بالسعر المقدم والذي يدلّ على أمر من ثلاثة:
- إما أن الملتزم السابق كان يحقّق أرباحاً طائلة على حساب الخزينة.
- إما أن الملتزم الجديد كان يريد الفوز بالصفقة بأيّ ثمن حتى لو كان على حساب أرباحه.
- إما أن الهدف هو ضمان الحصول على العقد ومن ثم السعي إلى تعديله، بما يؤدي إما إلى تخفيض القيمة السنوية للعقد أو إلى زيادة الأسعار وتحميل المسافرين الثمن، علماً أن دفتر الشروط ينص في المادة 38 منه على وجوب أن يتم الاتفاق على سعر منطقي للخدمات بين المستثمر والمديرية العامة للطيران استناداً إلى السعر المتوسط في السوق المحلي للخدمة عينها، على أن لا يزيد السعر عن الضعف كحد أقصى.
ولأن دفتر الشروط وقانون الشراء العام يسمحان للمستثمر بأن يعهد إلى متعاقد ثانوي تنفيذ جزء من العقد، بما لا يتخطى 50% من قيمة العقد، بعد موافقة المالك، فقد عمدت شركة نيفادا إلى التعاقد مع عدد من شركات المطاعم مثل “زعتر وزيت”، “دانكن دوناتس”، وزنود الست التي باشرت العمل فعلاً. كما تم التعاقد مع مطعم Paul، مع توقعات بالتعاقد مع المزيد من المؤسسات، فيما لم يعرف بعد كيف ستستثمر الشركة ال50% الأخرى التي لا يمكن تحويلها لمستثمر من الباطن.
بالرغم من السير بالصفقة، إلا أن الشكوك ظلت تلاحقها، خاصة أن الصراع بين الشركتين الخاسرة والفائزة، ومن خلفهما الحوت وعاشور، لم ينتهِ مع إعلان نتيجة المزايدة. وبالرغم من أن عدداً من المطاعم والمقاهي بدأ بالعمل فعلاً، إلاِ أن النائب ابراهيم منيمنة الذي يتابع الملف اعتبر في حديث لـ “المفكرة القانونية” أنه من السابق لأوانه إعطاء موقف من القضية، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن ثمة أموراً مبهمة في ما حصل، وفي ظلّ الصراع القائم بين الطرفين والانقسام الحاصل في المواقف، فإن الحكم يجب أن يكون “مصلحة الدولة”.
“حزب رياض سلامة”
وكانت الشركة الخاسرة قدّمت دعوى أمام قضاء العجلة طلبت فيها وقف تنفيذ النتيجة بسبب مخالفة نيفادا الشركة لدفتر الشروط، إلا أن القضاء ردّ الدعوى. وفي المقابل، اعتبرت الشركة الفائزة أن فوزها “فضح الواقع الذي كان سائداً على مستوى إدارة وتشغيل المقاهي والمطاعم”. وأشارت في بيان أن “الوقائع شفافة وواضحة وضوح الشمس، تقدمنا بعرض قيمته 3.5 مليون دولار، مقابل الشركة التي كانت تتولى سابقا إدارة وتشغيل مقاهي ومطاعم المطار بنحو 40 ألف دولار والتي تقدمت بعرض قيمته بحدود مليون دولار”.
كما اتّهمت الشركة “أعضاء حزب رياض سلامة” بمحاولة التمسك بالمكاسب التي كانوا حصلوا عليها بتغطية منه. ورداً على “محاولات تزوير وتشويه المزايدة ونتائجها”، دعت الشركة ديوان المحاسبة للتحقيق في المزايدة التي فازت بها شركتنا، وللتحقيق أيضاً بالواقع الذي كان قائما”. كما أعقبت هذه الدعوة بتقديم إخبار أمام الديوان للتحقيق في ما كانت تقوم به LBACC من عمليات مشبوهة وعمليات تلاعب في القيود المحاسبية، على مدى أكثر من 15 عاماً، كبّدت خزينة الدولة أموالاً طائلة، تمهيداً لمعاقبة المرتكبين واستعادة الأموال المختلسة. إلا أن رئيس ديوان المحاسبة محمد بدران أعلم “المفكرة” أنه يتابع المسألة إعلامياً، ولم يصله أي طلب رسمي من الإدارة للتحقيق في الملف، فيما لم يعرف ما إذا كان الديوان سيحرك الملف بعد ورود إخبار الشركة، خاصة أنه جرت العادة أن لا يضع يده على ملف مقدم من جهة خاصة).
لم يتأخر الرد من الشركة اللبنانية للتموين لكنه جاء عن طريق نقابة العاملين التي استنكرت “حملات التضليل” التي تقوم بها نيفادا. وكان لافتاً إشارة بيان النقابة، في معرض تكذيبه لاتهام الشركة بدفع 40 ألف دولار للدولة فقط إلى أنها كانت تدفع للدولة 2.24 مليون دولار سنوياً. وهو ما يقلّل الهامش مع العرض الفائز كما يطرح التساؤل عن سبب تقديمها لعرض يقل عن مليون دولار، بعدما كانت تدفع أكثر من الضعف. فهل لأنها وجدت أن الصفقة غير مجدية أم لأن الإدارة حددت سعر الافتتاح ب700 ألف دولار؟ وهذا يفتح الباب أمام البحث في المعايير التي اعتمدت لتحديد هذا المبلغ. فهل أجريت دراسة للسوق أم أنه لم يكن نتيجة أي دراسة؟ في الحالتين، تبدو الإدارة معنية بتبرير السبب.
هيئة الشراء العام تدقق في عملية التنفيذ
كان لافتاً تجنّب النقابة الإشارة إلى تلكؤ نيفادا في نقل الموظفين إليها، خاصة أن هذه المسألة كانت طُرحت من قبل رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الذي اتهم الشركة الفائزة بعدم الالتزام بدفتر الشروط (المادة 37 والمادة 60 من قانون العمل) التي تُلزم رب العمل في حال تغير لأي سبب بالإبقاء على جميع عقود العمل جارية يوم حدوث التغيير، لناحية نقل جميع الموظفين الحاليين وعددهم نحو 200 موظفاً إليها.
وعلى الأثر، طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من رئيس هيئة الشراء العام جان العلية، استناداً إلى المادة 76 من قانون الشراء العام، “اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للتأكد من مدى التقيد بأحكام القوانين والانظمة المرعية الإجراء، ولاسيما أحكام دفتر الشروط تمهيداً لترتيب النتائج القانونية في حال ثبوت المخالفات التي يتمّ تداولها بهذا الشأن. وقد بنى طلبه هذا على “الأخبار المتداولة عن عدم التزام الشركة الفائزة بدفتر الشروط لناحية المحافظة على حقوق جميع الموظفين الحاليين”. كما طلب ميقاتي متابعة ما يتم تداوله حول عدم السير بالعقود لعدم توفر جهوزية الأقسام التي من المفترض مزاولة عملهم فيها، حيث تُستغل هذه الواقعة من قبل المعنيين في سبيل السعي لتأمين مساحات جديدة، خلافاً لدفتر الشروط.
وبالفعل٬ أكد العلية لـ”المفكرة القانونية” أنه في صدد تعيين لجنة خبراء للتأكد من صحة تطبيق العقد. وفيما أعلن أنه طلب من إدارة المطار تزويد الهيئة بكل المستندات اللازمة، أكد التزامه بالوصول إلى نتيجة ليبنى على الشيء مقتضاه. أما رئيس الاتحاد العمالي العام فقد أوضح لـ”المفكرة” أن ما يهمه من المسألة هو حصول الموظفين على حقهم بالاستمرارية مع المتعهد الجديد، مشيراً في هذا الصدد إلى أن المسألة بدأت تحل والمستثمر ينقل الموظفين على دفعات، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن بعضهم رفض الانتقال بعدما قدمت لهم الشركة الأولى عروضاً للبقاء معها. أما بشأن مسألة المساحات أو الخلاف بين المستثمرين، فاعتبر أن ذلك لا علاقة للاتحاد به ولا يعنيه.