أياما قليلة قبل قدوم شهر رمضان، أصدرت وزارة التجارة وتنمية الصادرات التونسية قرارًَا يقضي بتحديد الأسعار القصوى لأسعار بيع الموز. وقد حَدّد القرار سعر الكيلوغرام الواحد من الموز بـ5 دنانير للعموم، وحُدِّد سعر البيع بالجملة بأربعة دنانير ونصف. وبالرغم من أنّ القرار يخدم مصلحة المُستهلك التونسي ظاهرا، إذ أن التخفيض يصل إلى 50% مقارنة بالسعر المتداول في السوق، إلاّ أنّ نتائجه العمليّة جاءت معاكسة تماما. كانت الغاية توفير هذه البضاعة بسعر مقبول وبالكميّات الاعتياديّة، إلاّ أنّ نسق تزويد السوق تناقصَ مُنذ إصدار القرار. وهو ما دفَعَ وزارة التجارة إلى إصدار بلاغ ترتيبي بتاريخ 21 مارس 2023 تدعو فيه أصحاب ومستغلي مخازن التبريد إلى الرفع من نسق تزويد أسواق الجُملة وحدّدت موفّى شهر مارس كآخر أجل لترويج كامل مخزونهم من الموز. رغم ذلك، فإنّ بلاغات الوزارة بقيت حبرًا على ورق، حيث فُقد الموز من الأسواق بشكل تدريجي وأضحى منتوجا نادرا يُباع خلسة لعدم قُدرة بائعيه على التزام التسعيرة المُحدّدة.
بعد أسبوع من صدور البلاغ، نفّذت وزارة التجارة حملة مُراقبة أسفرتْ عن إغلاق محلّ بسوق الجُملة وسط العاصمة من أجل التحايل عبر قبض فوارق ماليّة غير قانونيّة، إضافة إلى احتجاز تاجر غلال صغير في جزيرة جربة لعدم التزامه بالتسعيرة القانونيّة التي أقرتها الوزارة. وعموما ذهب تجار الغلال بالتفصيل ضحية لهذا القرار لأنهم كانوا تحت رحمة التسعيرة السابقة التي فرضها كبار المزودين وموردي الموز، ولم يكن بإمكانهم مجاراة التسعيرة الجديدة التي أسقطتْها الوزارة بشكل عشوائي.
لم تكُن غاية المُهلة التي منحتها وزارة التجارة لتُجار الموز تمكّنهم من بيع مُنتجهم المُخزّن بأسعار تتوافق وكُلفته بل مُجرّد عمليّة تحضيرية لتوريد كميّات جديدة ستوزّع بالتسعيرة الجديدة، وهو ما لم يتأخّر كثيرا حيث وقع توريد شُحنة موز تُقدّر بسبعين طنّا قادمة من مصر بتاريخ 16 مارس 2023. سرعان ما انتشر خبر توريد الموز المصري على مواقع التواصل الاجتماعي ليُثير جدلا بين من اعتبر هذه العمليّة إيجابيّة لقُدرتها التعديلية وآثارها على الأسعار في السوق واعتبرها تنويعًا لمصادر التوريد، وبين من رأى فيها ضحكا على الذقون واستهزاءً بالمُستهلك الذي أضحى غير قادر على شراء المُنتجات الأساسية في ظلّ نسبة تضخّم إجمالية قدّرها المعهد الوطني للإحصاء بـ10.4% في شهر فيفري 2023 ونسبة تضخّم في التغذية والمشروبات بـ15.6% لنفس الشهر. وتحدّث البعض عن إهدار مخزون الدولة من العُملة الصعبة في توريد مُنتج لا يعني النظام الغذائي للمُستهلك التونسي العادي، ما يُخالف صراحة دعوات الرئيس قيس سعيّد نفسه الذي أكّد في بلاغ صادر بتاريخ 21 سبتمبر 2022 “على ضرورة ترشيد التوريد من البلدان التي يُسجّل معها عجز تجاري متفاقم يوما بعد يوم، فضلا عن منح الأولوية للمواد الأساسية. فالعجز ناجم عن اختيارات سابقة وكثيرة هي السلع والبضائع التي يتم توريدها بالرغم من أنها ليست من الضروريات”، فيما ذهب آخرون إلى التشكيك في جودة المُنتج المصري ومدى تطابقه ومعايير السلامة وما قد يُمثّله من خطر على صحّة التونسيين.
لم يأت الاستهزاء التونسي الشعبي من قرار الوزارة ولا ارتيابه من شُحنة الموز المصري من فراغ، وليس معنى ذلك أنّ الشُحنة مخالفة فعلا لشروط السلامة. لكن مصدر التعامل مع هذا الإجراء يجد جذوره في قصّة انتشار الموز كمُنتج استهلاكي في تونس وارتباط توريده والمُتاجرة به بشخصيّات قريبة من نظام بن علي ومنظومة الفساد التي أسّسها مع أصهاره وشركائهم والموالين له. وهو ما يدعو إلى العودة على تاريخ الإتجار بهذه الفاكهة التي قالَ عنها المؤلف والصحفي الأمريكي دان كوبل في كتابه “الموز: مصير الفاكهة التي غيّرت العالم” إنّها “في العصر الحديث خرّبت أُمَمًا ودمّرت حيوات”[1].
أرباح الموز في تونس: تاريخ ثمار التحرير والفساد والاحتكار
إلى زمن ليس بالبعيد لم يعرف التونسيون الموز إلاّ عَرَضَا. وقد كان تناولهم لهذا النوع من الغلال مُقتصرا بشكل شبه كُلّي على ما يحمله الأقارب والأهل المقيمون في الخارج (أساسا فرنسا وألمانيا وليبيا) في حقائب الهدايا والعطايا. أمّا الكميّة القليلة الأخرى فمصدرها “شجيرات”[2] موز نادرة مغروسة في حدائق المنازل. لكنّ رياح العولمة وإن دقّت أبواب بلادنا متأخّرة ، إلاّ أنّها حلّت بيننا وكانت رديفا لخطّة تحرير التجارة الخارجيّة. استُجلبَ الموز أو “سلاح الغزو” كما سمّاه المُبشّر “كاونت فاي دي فايا” المجري[3] إلى تونس لأوّل مرّة بكميّات مُعدّة لخلق سوق في العام 1989، وقد اقتصرت الكميّة على 20 طن قادمة من بلجيكا ليتوقف توريد الموز بعدها سنتين متتاليتين (1990 و1991) ويعود مجدّدا سنة 1992 ليتمّ توريده منذ ذلك التاريخ بشكل سنوي وبكميات شبه متصاعدة ما عدا سنة 2006 التي خلتْ من واردات الموز[4].
بقيَت تجارة التوريد في تونس إلى حدود سنة 1994 خاضعة للمرسوم عدد 11 لسنة 1985 المؤرخ في 27 سبتمبر والمُصادق عليه بالقانون عدد 95 لسنة 1985، والذي ينصّ في فصله الأوّل على أنّ تجارة توريد المواد أو البضائع المُعدّة للتوزيع على حالتها الأصليّة في مستوى الجُملة أو التفصيل تخضع إلى رُخصة تُسنَد بمُقتضى قرار من وزير الاقتصاد الوطني بعد أخذ رأي لجنة استشاريّة. وهو ما يُمكن أن يُفسّر إلى حدّ ما الانقطاع الحاصل لسنتين في توريد الموز وضُعف الكميات المُورَّدة. لكن العام 1994 شهد تحوّلا كبيرا في سياسات التجارة الخارجيّة عموما والتوريد خاصّة.
بعد أن استتبّ الأمر لنظام بن علي وتمكّن من فرض سيطرته التامّة على الدولة إثر تمكّنه من قمع المعارضات المُختلفة في الفترة المُمتدة بين 1987 و1992، جاء الوقت لحصد نتائج هذا “النجاح السياسي”. كانت نتيجة ذلك إصدار قوانين جديدة تتعلّق بأهمّ مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ولم يكُن القانون عدد 41 لسنة 1994 المُتعلّق بالتجارة الخارجية والمؤرخ في 7 مارس 1994 إلاّ تجسيدا قانونيا لهذه السُلطة المُطلقة التي تشكّلت خلال سنوات قليلة. أقرّ هذا القانون في فصله الثاني حريّة التوريد والتصدير، واستثنى في الفصل الثالث المنتجات التي تمسّ بالأمن والنظام العام والنظافة والصحة والأخلاق والثروة الحيوانية والنباتية والتراث الثقافي من نظام حُريّة التجارة، وأحال قائمة المُنتجات الخاضعة لرُخص التوريد والتصدير لتُضبط بأمر. وهو ما تمّ بمُقتضى الأمر عدد 1742 لسنة 1994 مؤرخ في 29 أوت ويتعلّق بضبط قائمة المنتوجات المُستثناة من نظام حريّة التجارة الخارجيّة. لم يرد الموز في الجدول “أ” المُلحق بالأمر الذي يُحدد المنتوجات المُستثناة من نظام الحرية عند التوريد على الرغم من أنّ بعض الغلال وقع استثناؤها مثل الأناناس والأفوكادو والمانجا والجوافة. رغم ذلك، فإنّ سنة تحرير تجارة الموز على المستوى القانوني لم تكُن التاريخ الرسمي لدخولها التحرير الفعلي إذ وفق شهادة عماد الطرابلسي، صهر الرئيس السابق وأحد أشهر رموز الفساد في نظام التحوّل المبارك، بقي توريد الموز حتى سنة 2004 خاضعا لترخيص سنوي تمنحه وزارة التجارة قبل شهر رمضان.
في نفس تلك السنة ووفق ذات الشهادة، اتّصل بعماد الطرابلسي صاحب أعمال -لم يُفصَح عن اسمه- وطلب تدخّله لإلغاء محاضر مخالفات ديوانية في حقّه وحقّ شريكين آخرين تبلغ قيمتها عشرين مليون دينار متعلقة بشحنات موز مُوَرّدة. وبعد رفع الأمر إلى زوجة الرئيس -وضمنيّا إلى بن علي- تمّ إلغاء المحاضر. كما تمت إقالة علي الطرابلسي مدير الديوانة (الجمارك) آنذاك. من المفارقات أنّ سنة التحرير الفعلي لتوريد الموز والتي انطلقت بالمحسوبية، كانت أيضا السنة التي بدأت فيها إحدى أكبر عمليّات الاحتكار التجاري. إذ نجم عن هذا التدخّل من عماد الطرابلسي شراكة تجاريّة مع رجل الأعمال المذكور، ليكترِيا مخازن تبريد ويورّدا الموز ويُسيطرا عمليّا وبشكل كُلّي على هذه التجارة.
لم يُمثّل التهريب والتلاعب بأرقام كراتين الموز المُصرّح بتوريدها لدى الديوانة إلاّ جزءًا بسيطا من الأرباح التي حقّقها الشريكان. فالعائد الأكبر من الأرباح كان يتأتّى مُباشرة من قُدرة الطرابلسي على الاحتكار بحُكم السُلطة التي كان يتمتّع بها لقرابته من الرئيس بن علي حيث يقول: “عندما نسمع أنّ أحدا ورّد الموز تزامنا مع توريدنا للموز نُعطّله، كأن نضع سفينة شحنه في رصيف بعيد في الميناء حيث توجد آلة تفريغ شحنات معطوبة، وذلك حتّى تخرج شُحنتنا”. هكذا استغلّ عماد الطرابلسي نفوذه وسيطرته على الموانئ التجارية بتونس ليُسرّع من نقل شُحناته ويُعطل شُحنات المنافسين حتّى تفسد وتُباع بأسعار تؤدي بالضرورة إلى الخسارة. وقد كان “أعوان الديوانة الذين يعملون لحسابنا يكرسون أنفسهم كليّا لسفينة الشحن التي فيها بضاعتنا”، وتعمل الديوانة بكافة طاقتها بناء على الأوامر التي يُصدرها هو ف “يعطلون مصالح الناس حتّى نُخرج شحناتنا قبل الجميع” حسب تعبير عماد الطرابلسي، وذلك مقابل رشاوي تتناسب قيمتها مع قيمة الشُحنة لتبلغ في بعض الأحيان ثلاثين ألف دينار.
بعد سقوط نظام بن علي والتفكّك شبه الآلي لسُلطة أغلب أفراد العائلة الحاكمة السابقة لم تُحَلَّ مُعضلة الموز، بل يُمكن القول أنّها تفاقمت لأنّها لم تعُد قضيّة احتكار بالأساس بل أضحت متركّزة على التهريب. حيث تدخل بشكل يومي كميّات كبيرة من الموز إلى سوق الجُملة ببئر القصعة من ولاية بن عروس دون التثبّت من مصدر المنتوج أو اسم المورّد أو أيّ وثيقة أخرى من شأنها إثبات شرعيّة المُنتج. هذا فضلا عن ارتفاع كميات التوريد خلال سنة 2022 إلى مستوى غير مسبوق لا يتناسب وحاجيات السوق التونسية، مما يدلّ على أنّ مورّدي الموز قد تصرّفوا بناء على البلاغ الرئاسي في سبتمبر 2022، حيث عملُوا على توريد كميات كبيرة وتخزينها في مخازن التبريد توقيّا من الترفيع في نسب المعاليم الديوانية على الموز، وهو ما حصل فعلا حيث رُفّعت نسب هذه المعاليم في قانون المالية لسنة 2022، في الفصل 57، من 0% إلى 50%.
الموز المصري: ترضيةَ سياسية على حساب الاقتصاد
إن التوجّه الذي يزعم الرئيس سعيّد أنّه ينتهجه لخفض العجز في الميزان التجاري والتحكّم في نفقات التوريد يبدو متناقضا مع إجراء توريد الموز المصري. ويبدو أنّ رئيس الدولة الحالي لا يُبالي بالأرقام التي تشير إلى أنّ 0.4 مليون تونسي يعانون من نقص التغذية، وأنّ أكثر من 3 ملايين تونسي يعيشون انعدام الأمن الغذائي، لذلك قرّر الرئيس أنّ التونسيين يحتاجون موزا أكثر وحريّة أقلّ.
لكن الأمر لا يتعلّق بسوء تقدير وحسب، بل يعكس إلى حدّ كبير توجّها سياسيا جديدا. وهو ما أكدّه تصريح وزيرة التجارة وتنمية الصادرات في لقائها مع سفير مصر بتونس بتاريخ 16 مارس 2023 (وهو تاريخ دخول الشُحنة المصرية) حيث قالت في بلاغ لها إنّ “تميز العلاقة على المستوى السياسي ومتانة الروابط التاريخية بين تونس ومصر لم ينعكس على مستوى حجم التبادل التجاري حيث بلغ مجموع المبادلات التجارية التونسية المصرية حوالي 1165 مليون دينار سنة 2022″. رُبّما لم تنتبه السيّدة وزيرة التجارة إلى حقيقة أنّ تونس تُدير عجزا في مبادلاتها مع مصر تبلغ قيمته ناقص 242 مليون دينار، وأنّ مصر تأتي سادسة بعد الصين والجزائر وتركيا وروسيا وأوكرانيا من حيث قيمة العجز الذي تُديره تونس معها، ممّا يعني ضرورة مراجعة علاقاتنا التجاريّة معها بشكل جذري حتّى نُحقّق التوازن الذي يبدو بعيد المنال. لكن المسألة عند الرئيس سعيّد وحكومته لا تتعلّق بقيمة العجز ولا بحجم المبادلات ولا بقوت التونسيين وقُدرتهم الاستهلاكيّة ولا بالاقتصاد أصلا، بل تتعلّق بـ”تميّز العلاقة على المستوى السياسي”، إذ كيف لسعيّد أن ينسى حجم الدعم الدولي الذي قدّمه له عبد الفتاح السيسي عندما قام بانقلابه في 25 جويلية 2021، وكيف يكون جاحدا لمن ساعده في تثبيت سُلطته وشرعيته في الساحة الدوليّة؟
تاريخ تجارة الموز في تونس المليء بالخروقات والتجاوزات القانونيّة ليس سوى وجه من أوجه العولمة الاقتصاديّة. وقد ارتبطَ بعاملين سياسين مُهمّين؛ حُكم الفرد والترضيات المُقدّمة للخارج، أي بشكل النظام السياسي وخياراته السياديّة. ومثلمَا جاء تحرير تجارة الموز في ظلّ حُكم الرئيس بن علي نتيجة لاتفاقاته مع الاتحاد الأوروبي حول تحرير التجارة وكانت التبريرات وقتها تقوم على تحسين مستوى المعيشة، حلّت علينا أيضا شُحنة الموز المصري في ظلّ حُكم قيس سعيّد لردّ الجميل، وقامَت التّبريرات على تعديل الأسعار وتنويع مصادر التوريد ومحاربة الاحتكار. أمّا المفارقة فتتمثّل في أنّ الجزء الأكثر مأساويّة من تاريخ تجارة الموز لم يحدُث هنا بل كان مسرحه أمريكا اللاتينية.
تاريخ الموز… تاريخ العولمة؟
على العكس مما هو رائج في الثقافة الشعبية فإنّ جذور الموز لا تعود إلى أمريكا اللاتينية بل إلى آسيا. وقصّة انتقال هذه الفاكهة من آسيا إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية يختلط فيها المعلوم بالمجهول. لكنّ الثابت هو أنّ أكبر المُنتجين إلى اليوم هي دول آسيوية وهي تحديدا الهند والصين وأندونيسيا، فيما لا تأتي الإكوادور وهي أكبر مُصدّر للموز في العالم إلاّ خامسة من حيث الإنتاج. أمّا القصّة الفعليّة لعَولمة الموز وتحويله إلى صناعة لم تبدأ إلاّ أواخر القرن التاسع عشر، حيث ظلّ الموز إلى ذلك الحين غذاء يُستهلك حصرا في المُجتمعات التي تُنتجه وذلك لانعدام القُدرة على نقله بالسُرعة المطلوبة قبل تَلفه.
بدأت القصّة تحديدا في العام 1871 في كوستاريكا، عندما أرسل المُستثمر الأمريكي هنري ميغز ابن أخته ماينور كيث كوبر للإشراف على مشروع إنشاء خطّ سكّة حديدية تمتدّ من العاصمة “سان خوسيه” إلى ميناء “ليمون”. في العام 1877 توفي ميغز تاركا المشروع بأيدي كوبر، لكن كوبر أفلس بحلول العام 1882، مع ذلك فقد اقترض المال لتمويل المشروع وعَرضَ على الرئيس الكوستاريكي بروسبيرو فرنانديز أوريامونو أن يُتمّ بناء الخطّ دون مُقابل مالي بل مُقابل إدارة الخط لمدّة تسع وتسعين سنة ومَنْحَه السُلطة التامّة على ميناء “ليمون” و800.000 فدّان من الأراضي المحاذية لخطّ السكّة[5]. وبالنظر إلى الوضعية المالية الصعبة لكوستاريكا تمّ الاتفاق. حتّى ذلك الوقت، لم يستعمل كوبر زراعة الموز إلاّ لتغذية العمال المشتغلين على الخطّ. لكن المُقترح الذي تقدّم به للرئيس كان بمثابة خطّة عمليّة لتجسيد فكرة راودته عن تحويل الموز إلى صناعة عبر قطرية وذلك عبر التسريع في نقلها.
لم تكُن فكرة توريد الموز إلى الولايات المتحدة جديدة. فـ”شركة بوسطن للغلال” التي أُسّست في العام 1895 لصاحبها “أندرو برستون” كانت تعمل في المجال. لكنّ تجارة الموز لم تتحوّل إلى إمبراطورية إلاّ بالاتفاق الذي أبرمه كوبر مع كوستاريكا، والذي بدأ تطبيقه الفعلي سنة 1899 إثر تأسيس شركة “يونايتد فرويت” من قِبل كوبر وبرستون الذي دَمجَ شركته مع العملاق التجاري الجديد. توسّعت أعمال يونايتد فرويت بشكل كبير خلال السنوات القليلة الموالية لتشمل دولاً أخرى أهمّها غواتيمالا وهندوراس وكولومبيا وجامايكا وكوبا. لكنّ هذه الأعمال لم تكُن مجرّد تجارة في فاكهة وإنّما كانت تقوم على اتفاقات من قبيل ذلك الذي حصلَ مع الرئيس الكوستاريكي. وبما أنّ هذه التجارة كانت تقوم على اتفاقات سياسية فإنّ تدخّل الشركة المباشر في سياسات الدول التي تَنشط فيها، إضافة إلى عملها على تأبيد تواجد شركائها في السُلطة، كان أمرا حتميّا وأدّى إلى الظهور الفعلي لمصطلح “جمهوريات الموز”، وهي جمهوريات منزوعة السيادة تُديرها شركات الموز مُتعدّدة الجنسيات.
بغضّ النظر عن الجرائم التي كانت ترتكبها يونايتد فرويت مباشرة على الأراضي التي تُسيطر عليها فإنّها شاركت بشكل فعّال في جرائم سياسيّة أشهرها الانقلاب الذي دعّمته أوّل حكومة ديمقراطيّة مُنتخبة في غواتيمالا خلال خمسينيات القرن الماضي، وهو الانقلاب الذي قاد إلى المجزرة التي تُعرف بـ “إبادة المايا” في الثمانينات. كما أنّها أعطت سُفن شحنها لوكالة الاستخبارات الأمريكية حتّى تستعملها في اجتياح خليج الخنازير الكوبي في الستينات، لأنّها كانت متضررة بشكل مباشر من جراء قرار تأميم الأراضي الذي اتخذه فيدال كاسترو عقب الثورة الكوبية. وعلى امتداد أراضي أمريكا اللاتينية كانت “يونايتد فرويت” الفاعل الاقتصادي والسياسي الأول من دون منازع، حتى أنّها سُمّيت في الأوساط الشعبية داخل هذه الجمهوريات بـ”الأخطبوط”. وكتب فيها الشاعر التشيلي “بابلو نيرودا” قصيدة هجائية عنوانها يحمل اسم الشركة، حيث يقول في مطلعها:
“عندما نُفخ في البوق،
كُلّ شيء كان جاهزا على الأرض،
ويهوه أعطى العالم،
إلى كوكا كولا وأناكوندا وفورد وشركات أخرى،
احتفظت يونايتد فرويت لنفسها بأكثر قطعة مُثمرة،
الساحل الأوسط لعالمي،
خصر أمريكا الرقيق…”
باختصار لم تكُن تجارة الموز هذه إلاّ أداة لفرض سياسة معولمة على دول أمريكا اللاتينية وذلك بتواطؤ رسمي من إدارات الولايات المتحدة الأمريكية. وللراغبين بالاطّلاع أكثر على تاريخ عولمة الموز يُمكنهم مشاهدة الوثائقي الصادر سنة 2017 “قانون الموز” « La loi de la banane » للمُخرجة الفرنسية ماتيلد داموازال.
[1] Koeppel, Dan, Banana : The Fate Of The Fruit That Changed The World, Hudson Street Press, New York, 2008. P 2.
[2] للمفارقة فإنّ الموز ليس شجرة أو شُجيرة بل هو أضخم عُشبة موجودة على وجه الأرض.
[3] Koeppel, Dan, Ibid. p63.
[4] الأرقام والبيانات الواردة هنا مأخوذة من الموقع الرسمي لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والمتوفرة على موقعها
https://www.fao.org/faostat/ar/#data/TM
[5] Koeppel, Dan, Ibid. P 61.