قاربَان من اليابان، وثلاثة من إيطاليا، وستّة في الطريق، ثلاثة منها ستُسلّمها الولايات المتحدة الأمريكية والبقية من إيطاليا مرة أخرى. هذه حصيلة المقتنيَات الجديدة للقوى الأمنية والعسكرية البحرية في تونس خلال الأشهر التسعة الأخيرة. هذا التدفّق العالي للقوارب نحو السّواحل التونسية ليس بالأمر المستجدّ، بل هو استمرار لظاهرة بدأت منذ الأشهر الأولى التي تَلَت إسقاط زين العابدين بن علي في جانفي 2011، وتنامَت خلال السنوات التالية حتى أصبحت سياسة.
هناك سعي واضح من الدولة التونسية لتدعيم أسطولها البحري ذي الطابع الأمني، لكن من غير الواضح إن كان هذا التمشي ينبع من احتياجات وأولويات وطنية خالصة أم أنه يَخضع أيضا لرؤى وأولويات الدول “الشريكة” و”الحليفة”؟
الوافدون الجدد
في 26 فيفري 2024، استلمَت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري قاربين (حنبعل 3 وحنبعل 4) مُعِدّين لمراقبة السواحل التونسية والتصدي للصيد العشوائي كهبة من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي “جيكا”. وكانت اليابان قد وقّعت مع تونس في أفريل 2021 اتفاقية هبة بقيمة 1،2 مليارين ياباني (حوالي 25 مليون دينار تونسي) تُخصّص لبناء قاربين لدعم المجهودات التونسية في المراقبة، ويبلغ طول كلّ قارب منهما 27 مترا تقريبا.
وكانت إيطاليا قد سلَّمت هي الأخرى تونس مجموعة من الزوارق السريعة في 28 أوت الفائت بحضور السفير الإيطالي في تونس وممثل عن وزارة الداخلية الإيطالية؛ ثلاثة قوارب مُعدّة لمراقبة السواحل والتصدي لرحلات الهجرة غير النظامية المنطلقة من تونس نحو إيطاليا، وهي الدفعة الأولى من ستة قوارب أعلنت إيطاليا منحها لتونس في ديسمبر الفائت، بعد أشهر قليلة من توقيع تونس مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي -شكل التصدي للهجرة غير النظامية عمودها الفقري- في جويلية 2023. هذه القوارب مُستَعملة وكانت على ملك وزارة الداخلية الإيطالية -الحرس المالي Guardia Di Finanza تحديدا- قبل أن تُقرّر إصلاحها وإعادة تأهيلها ونقل ملكيتها إلى تونس ممثلة في الحرس الوطني البحري. وتنص المذكرة التقنية الموقعة بين الإدارة المركزية للهجرة وشرطة الحدود التابعة لوزارة الداخلية الإيطالية والقيادة العامة للحرس المالي الإيطالي في 12 ديسمبر 2023 في بندها الأول على تخصيص مبلغ قيمته 4،8 مليون يورو بهدف تنفيذ أنشطة وإجراءات دعم تقني وتنمية قدرات لفائدة المصالح التونسية المختصة وعلى رأسها الحرس الوطني، بما في ذلك توفير تجهيزات وعتاد ودورات تكوينية وخدمات صيانة للأسطول البحري وحتى كمية المحروقات الضرورية لإجراء التجارب التقنية وتدريب الأطقم البحرية ونقل القوارب من إيطاليا إلى تونس.
ويوضّح البند الثاني أهداف هذا التعاون: تدعيم قدرات الحرس الوطني التونسي في مراقبة الحدود والتصدي للهجرة غير النظامية والأنشطة البحرية غير الشرعية والقيام بعمليات البحث والإنقاذ في البحر. أما البند الثالث فينصّ على ضرورة تجهيز ثلاث خافرات سواحل في غضون 90 يوما من تاريخ توقيع المذكرة وتسليمها إلى تونس، ثم تجهيز ثلاث خافرات أخرى في غضون سنة. والخافرات الست المذكورة من طراز G.L 1400 وتحمل أرقام التسجيل التالية: G.L 1400، G.L 1401، G.L 1402، G.L 1403 G.L 1404، G.L 1405. ويبلغ طول كل واحدة من هذه الخافرَات 17 مترا، وتزن حوالي 30 طنا، وتبلغ سرعتها القصوى 37 عقدة. وصنعت هذه السلسلة من القوارب في إيطاليا في تسعينيات القرن الفائت.
وَجدير بالذكر هنا أن تسليم الدفعة الأولى من هذه القوارب تأخّرَ لمدة أشهر بسبب نزاع قضائي، ففي أفريل 2024 قامت ست منظمات غير حكومية ناشطة في إيطاليا بتقديم عريضة إلى المحكمة الإدارية الإقليمية في “لاتسيو” لوقف عملية التسليم، وذلك تفاديا لتكرار “السيناريو الليبي” عندما تمَّ تسليم معدات وقوارب إيطالية إلى سلطات أمنية مارسَت انتهاكات لحقوق الإنسان في حق المهاجرين غير النظاميين. واعتبرت الجمعيات القائمة بالدعوى أن الحرس التونسي ليس جهاز انقاذ، بل هو سلطة أمنية. رفضت المحكمة اعتراض الجمعيات المذكورة، فاستأنفَت هذه الأخيرة القرار وتوجهت إلى “مجلس الدولة” واستطاعت إقناعه باتخاذ إجراء احترازي -في 18 جوان 2024- ينص على وقف التسليم في انتظار استكمال التحقيق. لكن الحكومة الإيطالية استأنفت القرار وقرّرَ المجلس في 4 جويلية إلغاء قرار وقف تسليم القوارب إلى تونس بعد أيام قليلة من إعلان هذه الأخيرة عن الإحداثيات الرسمية لمنطقة البحث والإنقاذ التي تَقَع تحت مسؤوليّتها.
أما القوارب الثلاثة التي أعلنت “وكالة التعاون الأمني الدفاعي” التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية في 20 أوت الفائت موافقتها على تسليمها إلى الجيش التونسي فهي ليست هبة، بل طلبية قَدّمَتها السلطات التونسية. لا يتضمن الإعلان الرسمي عن الموافقة تاريخ تقديم الطلبية، لكن التسلسل الرقمي للملف “31/ 23” يدل على أن الأمر حدث في سنة 2023، ربما في الأشهر الأولى منها. وهذا القرار يأتي هو الآخر بعد أسابيع قليلة من الإعلان الرسمي عن منطقة البحث والإنقاذ التونسية. ثلاثة قوارب ستصنَعها شركة SAFE BOATS الأمريكية، طول كل واحد منها 65 قدما (20،3 مترا) بسرعة قصوى تبلغ 36 عقدة. وبحسب البلاغ فإن القوارب التي سيتسلّمها الجيش التونسي ستُستخدم في “عمليات البحث والإنقاذ وإنفاذ القانون البحري وغيرها من العمليات البحرية لضمان الأمن في البلاد والمنطقة”.
جردة حساب
الآليات البحرية التي ذكرنَاها أعلاه ليست سوى جزءً بسيطا من أسطول القوارب والزوارق والسفن التي تدفّقَت على تونس منذ الأشهر الأولى من سنة 2011. سنحاول فيما يلي وضع قائمة في هذه الآليات استنادا إلى البيانات المفتوحة التي أتاحتها مصادر إعلامية واتصالية رسمية وغير رسمية.
-عقب الاتفاق الثنائي بين تونس وإيطاليا في أفريل 2011 للتنسيق الأمني في إطار التصدي للهجرة غير النظامية، قام الجانب الإيطالي، ما بين 2011 و2015، بمنح تونس أربعة زوارق سريعة من فئة Carabinieri Classe 700 و12 خافرة سواحل من صنع الشركة الايطالية Cantiere Navale Vittoria قُسِّمَت بالتساوي بين البحرية التونسية (قوارب من فئة من طراز P270TN) والحرس الوطني البحري (قوارب من فئة P350TNs).
-في 2013 تسلّمت الديوانة التونسية أربعة قوارب دوريات سريعة تم تصنيعها في الصين بكلفة 4،5 مليون دينار تونسي، ويبلغ طول كل قارب 22 مترا بسرعة قصوى تبلغ 30 عقدة.
-في إطار دعم الولايات المتحدة الأمريكية ووزارة دفاعها للجيش التونسي في جهوده للتصدي للإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والقيام بعمليات بحث وإنقاذ عرض البحر، مَنحَت تونس ما بين 2013 و2018 26 آلية بحرية بأحجام وخاصيات مختلفة: 12 قاربا بطول 25 قدمًا، وخمسة قوارب بطول 27 قدما، وخمسة قوارب بطول 44 قدما، وأربعة قوارب بطول 65 قدما. أغلب هذه الآليات هي من صنع شركة Safe Boats الأمريكية.
-في سنة 2016، تقدّمَت وزارة الدفاع التونسية بطلبية إلى المجموعة الهولندية “دامن” Damen لاقتناء أربعة قوارب كبيرة من فئة MSOPV 1400 تَصلُح للاستعمال في الدوريات والمراقبة في أعالي البحار، وتسلّمتها تونس على دفعات ما بين مارس وأكتوبر 2018 (يوغرطة، وسيفاكس، وحانون، وصفنبعل). وحسب الخاصيات التقنية المعلنَة فإن طول كل قارب يبلغ 72 مترا في حين تناهز سرعته القصوى 22 عقدة. أما فيما يخص التكلفة فلا توجد -على حد علمنا- أرقام رسمية دقيقة معلَنَة، لكن هناك مشروع القانون عدد 2017/05 المتعلق بالموافقة على اتفاق قرض بين وزارة المالية والبنك الهولندي ABN-AMRO لتمويل اقتناء خافرتين لأعالي البحار لفائدة وزارة الدفاع الوطني بقيمة سبعة وثلاثون مليون وستمائة وأربعة وستون ألف وستمائة وخمسة (37.664.605) أورو.
-في 2012 قرّرَت وزارة الدفاع الوطني خوض تجربة التصنيع المحلي للقوارب والسفن البحرية بالشراكة مع القطاع الخاص المحلي، تحديدا “شركة البناء المعدني البحري والصناعي” SCIN. وقد أثمَرَ التعاون إلى حد الآن إنتاج خمس خافرات عسكرية: “استقلال في أوت 2015 (27 مترا)، و”أوتيك ” في مارس 2018 (27،5 مترا)، و”كركوان ” في ماي 2018 (27،5 مترا)، و”الجم 213 ” في أفريل 2021، و”دُقَّة 214” في جويلية 2021 (27،5 مترا). وأذنَ وزير الدفاع السابق، إبراهيم البرتاجي، في صائفة 2021 بالانطلاق في صناعة الخافرة السادسة “القيروان” والتي سيَبلغ طولها 50 مترا. ولا تتوفّر -على حد علمنا- معطيات رسمية حول التكلفة الجملية لصناعة هذه الخافرَات.
عن السيادة والأولويات الوطنية
قرابة 70 آلية بحرية بأحجام وخاصيات مختلفة عززت الأسطول التونسي، منذ 2011، وأغلبها موَجّه لاستعمالات ذات طابع أمني -عسكري. من الطبيعي أن تسعى المؤسسات الأمنية والعسكرية إلى تطوير قدراتها وتعزيز عتادها وأساطيلها، خاصة بعد تزايد المخاطر الأمنية في تونس ومحيطها المغاربي والأفريقي: تهريب السلع والمخدرات والأسلحة، وتطوّر عدد ونوعية الأنشطة ذات الطابع الإرهابي، وانهيار أجهزة الدولة في ليبيا وضعفها في عدد من بلدان “الصحراء والساحل”، واستفحال ظواهر الاتجار بالبشر، الخ. كما أن الجزء الأكبر من الأسطول البحري الأمني في البلاد قديم ومتهالك وجب استبداله أو دعمه بتجهيزات تكنولوجية حديثة. لكن السياسة المعتمدَة في تجديد هذا الأسطول وتطويره تطرح عدة تساؤلات وإشكاليات.
الإشكال الأول يتعلق بخاصيات المقتنيات الجديدة، فالأغلبية الساحقة منها هي خافرات سواحل وتُستَعمَل بشكل كبير في دوريات المراقبة واعتراض القوارب “المشبوهة” وعمليات “البحث والإنقاذ”. هل ينبع هذا الاختيار من احتياجات حقيقية لتونس أم أنه تدعيم لدور يُراد لها أن تَلعبَه في البحر الأبيض المتوسط؟ هل هناك تدفّق هائل لمهرّبي السلع والأسلحة والمخدرات وقوارب المهاجرين غير النظاميين نحو السواحل التونسية يُبرّر مثل هذا الحرص على “تأمين” مياهنا الإقليمية وما أبعد منها؟
الإشكال الثاني يتعلق بمصادر هذه الآليات البحرية المتدفقة على تونس. هناك على الأقل 50 قاربا استلمتهم تونس كهبَات ودعم من الخارج، بخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية التي تتعامل أساسا مع الجيش التونسي (26 آلية على الأقل)، وإيطاليا التي تربطها “شراكة” متينة مع الحرس الوطني التونسي (22 آلية على الأقل). ومن المعلوم أن أغلب الهبَات الأجنبية هي إمّا حملات “علاقات عامة” أو ديون سياسية سيتمّ استخلاصها عاجلا أم آجلا وليست مبادرَات لتمتين أواصر الصداقة بين الشعوب.
تتوالى الاتفاقيات الأمنية بين إيطاليا وتونس منذ قرابة ربع قرن، ومهما تم تجميلها بديباجات الشراكة والتعاون فإن جوهرها واضح: التصدي للمهاجرين غير النظاميين المنطلقين من السواحل التونسية نحو السواحل الإيطالية. وكلّمَا زاد عدد المهاجرين وضاقت صدور الأوروبيين بالوافدين غير المُرَحّب بهم كلما زاد الضغط على تونس لتلعب أدوارا أكبر في حراسة حدود القلعة الأوروبية و”خاصرتها الرخوة” إيطاليا. إضافة إلى منع انطلاق المهاجرين غير النظاميين أو اعتراضهم في البحر، وقُبُول المهاجرين التونسيين غير النظاميين المُرَحَّلين، وتبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية، وتحديد منطقة البحث والانقاذ الخاصة بتونس في البحر الأبيض المتوسط وتفعيل مسؤوليتها عليها، إلخ. ولتَتَبّع هذا المسار يمكن مراجعة سلسلة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة بين الطرفين في سنوات 1998 و2003 و2009 و2011 و2020 و2023 و2024.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فإن علاقتها مع تونس ظلَّت شبه ثابتة منذ استقلال البلاد في 1956، فلطالما اعتبرتها حليفا موثوقا في أغلب “المعارك” الثقافية والأمنية التي خاضتها في المنطقة والعالم خلال العقود السبعة الأخيرة: محاصرة “المد الشيوعي” والأنظمة العربية ذات التوجه الوحدوي، تدعيم “محور الاعتدال” و”عملية السلام” في المنطقة العربية، ومجابهة “التطرف الديني” و”الحرب على الإرهاب”، إلخ. وقد سعت الولايات المتحدة بعد ثورة 2011 إلى احتواء الحكام الجدد وتمتين علاقاتها مع المؤسسات وعلى رأسها العسكرية، وخَصّصَت لها عدة برامج دعم من بينها التزويد بعدد كبير من خافرات السواحل والطائرات المروحية والمدرعات، إلخ. وانعَكسَ هذا الدعم على تطور علاقة تونس بـ”القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا” (أفريكوم). هذه الأخيرة أعلنت في سبتمبر 2020 أن مجمل الدعم العسكري الأمريكي لتونس منذ 2011 تجاوز المليار دولار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة منحَت تونس في 2015 صفة “الحليف الأساسي غير العضو” في حلف شمال الأطلسي، وأبرمَت معها في سنة 2020 اتفاقا للتعاون العسكري يمتد لعشر سنوات. وعلى الرغم من الفتور الذي شاب نسبيا العلاقات بين الإدارة الأمريكية والسلطة في تونس بعد 25 جويلية 2021 فإن التعاون العسكري والأمني ظل وثيقا بين البلدين، فقد استضافت تونس التمرين البحري متعدد الأطراف “فونيكس اكسبرس” 2022 ،واحتضنت في ماي 2024 التمرين العسكري المشترَك بين القوات العسكرية الأمريكية والتونسية “الأسد الافريقي”، واستقبل وزير دفاعها في 28 أوت الفائت الجنرال مايكل لانجلي قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا.
صحيح أن أغلب العِتاد البحري الذي تَلقّته تونس في السنوات أتى في شكل هِبَات لكن له ثمن سياسي وكذلك تكلفة مادية، فهناك نفقَات تكوين الطواقم البشرية وأجورها والمحروقات وقِطَع الغيار وغيرها من مصاريف الصيانة والإصلاح والتأهيل. وقد تكون هذه التكلفة مقبولة وضرورية عندما يتعلّق الأمر باحتياجات أمنية تونسية خالصة وحقيقية، لكنها تُصبح عبئًا عندما ترتَبط بأولويات ومصالح دول أخرى. كما أن تونس خصّصَت من الخزينة العامة مئات ملايين الدولارات لاقتناء زوارق وخافرَات سواحل طيلة السنوات الأخيرة، والحال أن البلاد تُحاصرها ديون خارجية تُقدّر بقرابة 40 مليار دولار وتعاني من عجز في الميزانية وشح في العملات الصعبة. وقد يكون التوجّه نحو التصنيع المحلي الذي بدأت تونس تعتمد عليه جزئيا وتدريجيا إحدى الحلول التي ستقلّل تكلفة التزوّد بالآليات البحرية وتقلّص حجم الارتباط بالخارج والتبعية التقنية، خاصة وأن البلاد لديها نسيج صناعات بحرية يُمكن البناء عليه وتطويره، فهناك عدة شركات محلية لديها خبرة في إنتاج مراكب الصيد والترفيه وناقلات المسافرين (“بطّاحات” جزر جربة وقرقنة مثالا) وكذلك في أشغال الصيانة.