صفاقس: مدينة متوسّطية عَالقة في زَحمة مراكب “الحرَّاقة” وخَفر السّواحل


2024-12-20    |   

صفاقس: مدينة متوسّطية عَالقة في زَحمة مراكب “الحرَّاقة” وخَفر السّواحل
صورة للميناء البحري سيدي منصور في صفاقس

في بداية شهر جويلية 2023 أصبَح اسم مدينة صفاقس على كل لسان في تونس، بل تَناقلَته أكبر المنصّات الإعلامية العربية والإفريقية والأوروبية. للأسف، لم يأتِ هذا الاهتمام بسبب إنجاز يُثير الإعجاب. كما أنه لم يَرتبطْ بكارثة طبيعية أو حادث فظيع. بل جاء عقب اندلاع أعمال عنف ذات طابع عنصري استهدفت مهاجرين قادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، أغلبهم يأتون إلى المدينة سعيا إلى الانطلاق -بشكل غير نظامي- من سواحلها نحو البرّ الإيطالي. 

تحدّثت تقارير صحفية وبيانات حقوقية عن “هجمات مُنظّمة” و”عمليات تهجير” و”مطاردات” و”أبارتهيد” وغيرها من ممارسات قامَ بها أهالي المدينة ضد فئة مستضعفة. من خلال هذه التوصيفات وبعض التغطيات الإعلامية، بَدَا الأمر وكأن سكان المدينة تحوّلوا فجأة إلى وحوش أو أصَابتهم لوثة جنون عنصري مُباغتة، فاتفقوا في لحظة واحدة على إخراج كل المهاجرين ومُطاردتهم على طول مئات الكيلومترات حتى يطمئنّوا على وصولهم إلى الحدود الليبية أو الجزائرية، وتركهم في العراء ليقتلهم الجوع والعطش. طبعا بعض وسائل الإعلام والمنظمات كانت أكثر موضوعية وتفطّنَت إلى ضرورة إرسال ملاحظين على عين المكان حتى تتّضح الصورة أكثر. كما حرصَ كثير من الصحفيين والناشطين على الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبته الدولة ممثلة في السلطة السياسية والأجهزة الأمنية في اندلاع أزمة المهاجرين في صفاقس وإدارتها. لكن، قليلة هي البيانات والتقارير التي حرصَت على التذكير بالمسؤولية التاريخية والمحورية للاتحاد الأوروبي في كل المآسي المرتبطة بالهجرة غير النظامية في حوض البحر الأبيض المتوسط، والأقلّ منها البيانات والتقارير التي حاولت أن تفهم وتُبرز العوامل التي أوصلت الأوضاع في صفاقس إلى حدّ الانفجار.[1] لذلك تحاول هذه المقالة أن تقرأ الهجرة غير النظامية في ولاية صفاقس والظواهر المحيطة بها، من خلال إرجاعها إلى أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 

صفاقس والهجرة: علاقة قديمة ومتينة

في 26 أفريل 1996 نَشرَت إحدى أهم الصحف الايطالية “لا ريبوبليكا La Repubblica” تقريرا عنونته “مذبحة في بحر لامبيدوزا”، إثر حادثة غرق مركب يُقلّ مهاجرين تونسيين غير نظاميين قادمين من سواحل مدينة صفاقس. 25 تونسيا ركِبوا، مساء 24 أفريل 1996، قاربًا خشبيّا مُعدّا للصيد البحري، يبلغ طوله 12 مترا. وعلى الرغم من سوء الأحوال الجويّة في تلك الليلة وتقاذف الأمواج للمركب طيلة ساعات في مضيق صقلية، فإن المهاجرين استطاعوا الوصول إلى مشارِف جزيرة لامبيدوزا فجر اليوم الموالي. على بعد 500 متر من اليابسة قرّر الربّان إغراق المركب وإجبار الركاب على السباحة حتى لا يقترب أكثر من دوريات خفر السواحل الإيطالي. لكن حالة الطقس -وربما عدم إجادة بعض المهاجرين للسباحة- عَقَّدَت الأمور. أربعة مهاجرين فقط وصلوا أحياء إلى الجزيرة، ولفظ البحر جثة خامسة، أما العشرون المتبقون فقد ابتلعتهم الأعماق.

شكّلَت هذه الحادثة أولى مآسي الهجرة غير النظامية في البحر الأبيض المتوسط، التي حظيتْ بتغطية إعلاميّة وتمّ توثيقها. نَقلَ التقرير الصحفي شهادات الناجين، ومن بين التفاصيل “الثانوية” الواردة فيه؛ المبلغ الذي دفعَه كل مهاجر: 600 دينار. في أفريل 1996 كانَ سعر صرف الدولار في تونس يُقدّر ب1،1 دينار، أمّا اليوم -سبتمبر 2023- فهو يتجَاوز 3،1 دينار. في تلك السنة كان الأجر الأدنى المضمون في تونس يُقدّر بـ145 دينارا، أي أن تكلفة “الحرقة” في ذلك الوقت كانت تُناهز أربعة أضعاف الأجر الأدنى. في 2023 بلغَت قيمة هذا الأجر 459 دينارا، في حين صارت تعريفة “الحرقة” تتراوح ما بين 3000 و7000 دينارا. بعد ثلاثين عاما نجد أن الأجر الأدنى (المضمون نظريا) تَضاعف ثلاث مرات، لكن قيمته باعتماد سعر صرف العملات لم تتطور نظرا لتدهور سعر صرف العملة المحلية (حوالي 150 دولارا في 1996 و2023) أما القدرة الشرائية فيمكن القول أنها تدهورتْ  تماما مع الارتفاع المستمر لأسعار البضائع والخدمات. في تدني الأجر الأدنى والأجور عموما بعض من أسباب ازدهار الهجرة غير النظامية في تونس.

تقرير “لا ريبوليكا” -المتعاطف مع المهاجرين والمُندّد بممارسات المهربين والسلطات الإيطالية- أشار أيضا إلى حادثة حصلَتْ قبل غرق القارب بعشرة أيام، أطلق فيها خفر السواحل الإيطالي أعيرَة نارية في الهواء لإجبار مركب مهاجرين نظاميين على التوقّف. تسبّبت إحدى الرصاصات في نشوب حريق على متن المركب، مما أجبر بعض الركاب على القفز في البحر، وأحدهم لم يكن يجيد السباحة فمَاتَ غرقا. حدث كلّ هذا في سنة 1996، أي بعد سنوات قليلة من بداية ظاهرة الهجرة غير النظامية من سواحل تونس إلى إيطاليا، إثر قرار الحكومة الإيطالية الذي فرض تأشيرة دخول على التونسيين منتصف سنة 1990. ليست هناك معلومات حول تاريخ وصول أول قارب “حرّاقَة” إلى جزر “صقلية” و”بانتليريا”، لكن في أكتوبر 1992 وصلَ مركب يُقلّ 71 مواطنا تونسيا إلى سواحل “لامبيدوزا”، وسط دهشة السلطات الإيطالية وسكان الجزيرة، وحتى قنصل تونس في “بالرمو” الذي استُدعِيَ لمعالجة الوضع. في البداية اعتقد الإيطاليون أن الأمر يتعلق بقارب صيد ضَلّ طريقَه ورسَا صدفة في سواحل الجزيرة، ثم فهمُوا أن الركّاب هم في الحقيقة مهاجرون. افتتَح هذا المركب التونسيّ (لا تتوفر معلومات حول المدينة التونسية التي انطلق منها) مسيرة الهجرة غير النظامية من سواحل المنطقة المغاربية إلى لامبيدوزا الإيطالية.

لا نَعلم بالضبط متى انطلق أوّل مركب مُهاجرين غير نظاميين من صفاقس بالذات، لكن المُرجّح أن ذلك حدثَ منذ السنوات الأولى من عشرية 1990. وتُشير المعطيات المتوفرة [2] إلى أن الولاية كانت، منذ أواسط تسعينيات القرن الفائت، منصّة الانطلاق الأولى لقوَارب “الحرّاقة” في تونس. ويُمكن ملاحظة ذلك من خلال عدد الواصلين إلى إيطاليا انطلاقا من سواحل الولاية مقارنة ببقية البلاد: 66 مهاجرا من جملة 150 في سنة 1997، 21 مهاجرا من جملة 62 في 1998، 34 مهاجرا من جملة 117 في 1999، 21 مهاجرا من جملة 122 في 2000، 30 مهاجرا من جملة 68 في 2001، 90 مهاجرا من جملة 298 في 2002، 262 مهاجرا من جملة 917 في سنة 2003. 

في سنة 2004 صادقَ البرلمان التونسي على القانون عدد 6 لسنة 2004 المؤرخ في 3 فيفري 2004 والمنقّح للقانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرخ في 14 ماي 1975، المتعلّق بجوازات ووثائق السفر، والذي استهدَفَ الهجرة غير النظامية -دون أن يسميها أو يصفها بشكل صريح- بعقوبات ثقيلة جدا لا تقتصر على المهرّبين، بل تشمل المهاجرين وكل من يقدّم لهم العون حتى من دون مقابل. جاء هذا القانون تلبية للضغوط الأوروبية -خاصة الإيطالية منذ أواخر سنوات 1990- وكان “ناجعا” إلى حدّ كبير، حيث تناقصتْ أعداد المهاجرين غير النظاميين بشكل كبير بلغ أوجّه سنتي 2009 و2010، قبل أن تنفجر الأوضاع مطلع سنة 2011 في تونس وليبيا وتَدخل ظاهرة الهجرة غير النظامية طورا جديدا مختلفا تماما. إذ بالإضافة إلى المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء الذين هربوا من ليبيا نحو تونس، ومن هناك حاولوا الوصول إلى أوروبا، وصل قرابة 30000 تونسي إلى السواحل الإيطالية، ممّا تسبّب في توتّر علاقة البلاد بالاتحاد الأوروبي قبل التوصّل إلى تفاهمات واتّفاقات لتخفيض نسق تدفّق المهاجرين. وهذا ما حدث بالفعل خلال الفترة الممتدة ما بين 2012 و2014، حيث انخفضتْ عدد الواصلين إلى إيطاليا بشكل ملحوظ.

ولم تكنْ السياسات الأمنية هي العامل الوحيد وراء هذا الانخفاض، حتى “الأمل” لعب دورا كبيرا. كثير من التونسيّين، بخاصّة الشباب منهم، استبشروا خيرا بثورة 2011 واعتقدوا أنّ التغيير السياسي سيُفضي بالضرورة إلى تغيير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل. لكن إهمال الحكام الجدد للملفّ الاقتصادي وتتالي الخيبات والعمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية عجّلت بوأد الآمال والأحلام. فعَمرَت قوارب “الحرقة” من جديد، حتى فاضت بمن فيها.

في فترة 2014-2015، انفلتَت الأوضاع في دول عربية عدة، بخاصة في الدولة الليبية القريبة من تونس. حيث انقسمت البلاد إلى سلطتين، وأصبح المُسَلّحون النظاميون والميليشيات أصحاب القرار الحقيقيين على الأرض. وكان المهاجرون الأفارقة المستقرّون في ليبيا أو العابرون منها من أكبر ضحايا تلك الفوضى: احتجاز، اختطاف وطلب فديات، تعذيب، قتل، سخرة، إلخ. كما أجبر الصراع الدائر في سوريا بين نظام الأسد والمعارضة المسلحة -الذي تفاقم أكثر مع دخول تنظيم “داعش” على الخطّ- ملايين السوريين على الخروج من بلادهم نحو دول الجوار ومحاولة الوصول إلى أوروبا عبر البوابة اليونانية أو المغاربية. عمومًا تلاقتْ رغبة مئات آلاف التونسيين في الهجرة مع تدفّق أعداد كبيرة من الأجانب (أساسا أفارقة من جنوب الصحراء وبشكل أقل المغاربيين والسوريين) ليرتفع الطلب بشكل جنوني على مراكب “الحرقة”. وكان لولاية صفاقس النصيب الأكبر من هذه الطفرة، وهذا ما يُمكن ملاحظته من خلال الأرقام الواردة في التقارير الشهرية والسنوية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من 2015 إلى 2023، والتي تستقي إحصائياتها من منشورات وزارتيْ الداخلية الإيطالية والتونسية والوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل “فرونتكس”، وكذلك المواد الصحفية وغيرها. من بين هذه الأرقام:

-2015: تمّ إحباط 25 عملية تهريب مُهاجرين من تونس في اتجاه إيطاليا، منها ستّ عمليات في ولاية صفاقس، تمّ خلالها إيقاف 174 شخصا (من جملة 636 على المستوى الوطني).

-2016: شهدَت الولاية إحباط 20 عملية (من جملة 75 على المستوى الوطني) أوقف خلالها 408 شخصا من جملة 1105.

-2017 : تمّ إحباط 74 عملية (من جملة 195) وإيقاف 1616 مهاجر غير نظامي ( من جملة 3173).

– 2018: تمّ إيقاف 2184 شخص حاولوا اجتياز الحدود انطلاقا من سواحل ولاية صفاقس (من جملة 7046 على المستوى الوطني).

– 2019 : تمّ اعتراض 273 عملية، 30 بالمائة منها في ولاية صفاقس. وبلغ عدد الموقوفين 4177 .

– 2020: سجّلَت الولاية 49 بالمئة من جملة 1096 عملية اعتراض نُفذت في تونس وتم خلالها إيقاف 13466 شخص.

– 2021: تمّ اعتراض 1748 رحلة، 41 بالمئة منها في ولاية صفاقس، وإيقاف 25657 مهاجر غير نظامي.

– 2022: تمّ اعتراض 2903 رحلة في كامل البلاد، 40 بالمئة منها في ولاية صفاقس. وبلغ عدد الموقوفين على المستوى الوطني 38372 شخصا.

– 2023 : خلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2023، تمّ اعتراض 1340 رحلة، 34 بالمئة منها في ولاية صفاقس، تمّ خلالها إيقاف 34293 شخصا.

يَعكس ارتفاع أعداد المهاجرين غير النظاميّين استمرارًا لديناميات هجرية وديمغرافية صنعَت تاريخ الولاية، خاصة مركزها والمدن الصغيرة القريبة منه. لا يَسمح المجال هنا باستعراض مُفصّل لتاريخ المدينة ذات الأصول البربرية. لكنّها عَرفَت موجات من الغزو والاستيطان والهجرات منذ آلاف السنين: قرطاجنيين، رومان، الفتح الإسلامي، قدوم الهلاليين من صعيد مصر، غزوات النورمان، الاحتلال الصقليّ لجزر قرقنة في القرن 13، قدوم الموريسكيين الهاربين من إسبانيا بعد “الريكونكيستا” الكاثوليكية وسقوط الأندلس، الاحتلال الإسباني الوجيز منتصف القرن السادس عشر ثم بداية السيطرة العثمانية في 1574، تزايد أعداد الأوروبيين في المدينة منذ بداية القرن التاسع عشر (بحارة وتجار) وخاصة بعد قدوم الاحتلال الفرنسي وقصفه أسوار صفاقس في جويلية 1881،  توافد موجات من الليبيين الهاربين من الاحتلال الإيطالي وفظائع الفاشيست في النصف الأول من القرن العشرين. أما على المستوى المحلي، فالولاية تُعتبر منذ سنوات 1970 إحدى الوجهات الرئيسية للهجرة الداخلية في تونس، من الجهة الغربية للبلاد إلى الواجهة البحرية.

ليست صُدفًا ولا “مؤامرات”

مثلما سبق وأن أشرنا، فإنّ الهجرة بمختلف أشكالها مُلازمة لتاريخ صفاقس وجزء من هويتها. لكن تَصَدّر الولاية ترتيب منصّات الهجرة غير النظامية في تونس وتصنيفها ضمن أهم نقاط الانطلاق في “طريق وسط البحر الأبيض المتوسط” (La route méditerranéenne centrale) لا يَرتبط فقط بماضيها، بل يَجد تفسيره في حاضرها. تتمتّع صفاقس بحِزمة ضخمة من العوامل الجاذبة للمهاجرين غير النظاميين، بعضها مرتبط بالبحر وبعضها الآخر بالبرّ.

قبل الحديث عن الهجرة لا بدّ من تقديم نبذة مختصرة عن صفاقس، ثاني أكبر ولايات البلاد بعد العاصمة تونس، والتي تُطلَق عليها تسميات مثل: “العاصمة الاقتصادية لتونس” أو “العاصمة الثانية” أو “عاصمة الجنوب”. والأصح أنها “بوّابة الجنوب”، بما أنها تَتبع إقليم الوسط الشرقي حسب التقسيم الترابي للبلاد. تَختزل الولاية لوحدها أهمّ مشاكل تهيئة المجال وتوزّع السكان والتنمية وتوزيع الثروة في البلاد التونسية. تبلغ مساحة صفاقس 7545 كيلومترا مربعا، يعيش فيها 1028364 ساكنا حسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء المنشورة في جانفي 2023، وهي مقسّمة إداريا إلى 16 معتمدية و23 بلدية. يتركّز أكثر من نصف سكان الولاية، وقرابة 90 بالمئة من مجموع سكان الوسط الحضري  وحوالي 80 بالمئة من مواطن الشغل، في المنطقة القريبة من وسط مدينة صفاقس (مركز الولاية) أو ما يُسمّى “صفاقس الكبرى” (بلديات صفاقس المدينة، وساقية الدائر، وساقية الزيت، والعين، والشيحية، وقرمدة، وطينة). لا تتجاوز مساحة صفاقس الكبرى 200 كيلومترا مربعا، وهي تمتد من مركز مدينة صفاقس التاريخي باتجاه شمالها وغربها وجنوبها، في  شعاع لا يتجاوز طوله 12 كيلومترا على أقصى تقدير. وتتراوَح كثافة السكان  فيها ما بين 1000 و4000 ساكن في الكيلومتر المربع، في حين تتدنى هذه الكثافة إلى 37 ساكنا في الكيلومتر المربع في مناطق أخرى من الولاية، مثلما هي الحال في معتمدية “الغْريبة”.

كلّما ابتعدنا عن مركز مدينة صفاقس ومراكز البلديات السبع التي ذكرناها كلّما تدهورت المؤشرات الاقتصادية-الاجتماعية، ابتداءً من الحزام الأول للمدينة، أي الأحياء الشعبية والفقيرة المحيطة بها، مرورا بالحزام الثاني (المعتمديات التي تبعد ما بين 20 و40 كيلومترا عن مركز المدينة: عقارب، الحنشة، العامرة، جبنيانة، المحرس، قرقنة) ووصولا إلى الحزام الثالث (المعتمديات الأكثر بعدا: الغريبة، الصخيرة، بير علي بن خليفة، منزل شاكر). وكما هو الأمر في باقي البلاد، كلّما كانت المنطقة أقرب للواجهة الشرقية البحرية للولاية كلّما كانت أحوالها أفضل نسبيًّا. ولا يقتصر الاختلال بين مركز المدينة وأحوازها وأطرافها على الكثافة السكانية والحيوية الاقتصادية، بل يمتدّ بشكل منطقي إلى مؤشرات أخرى.[3] مثلا نسب الأمية لا تتجاوز 9 بالمئة في معتمدية “ساقية الدائر”، في حين تفوق 35 بالمئة في معتميتي “منزل شاكر” و”بئر علي بن خليفة”. تُقدر نسبة البطالة بـ8،2 بالمئة في معتمدية ساقية الدائر ولا تتجاوز عموما 10 بالمئة في صفاقس الكبرى، في حين أنّها تقفز إلى أكثر من 20 بالمئة في خمس معتمديات على الأقل: الغريبة والصخيرة وبئر علي بن خليفة، وعقارب والمحرس. أما نسب ربط المساكن بشبكات توزيع الماء الصالح للشراب، فهي تتراوح ما بين 98 بالمئة في قلب المدينة و45 بالمئة في معتمدية بئر علي بن خليفة. وقِس على ذلك في نسب الربط بشبكات الصرف الصحي ومدى الولوج إلى الخدمات الصحية والتعليمية والإدارية وحالة أسطول النقل المتوفر.
من البديهي عند الحديث عن الهجرة غير النظامية في تونس، أن يتبادر إلى أذهاننا البحر. وصفاقس هي الولاية الأكثر “ساحِليّةً” في البلاد، إذ يبلغ طول شريطها الساحلي البحري (باحتساب سواحل أرخبيل قرقنة) 467 كيلومترا من جملة 2023 كيلومترا من السواحل التونسية البحرية، وهذا حسب أرقام وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي. تضمّ الولاية ثمانية موانئ ومرافئ بحرية من جملة 41 ميناء صيد بحري على المستوى الوطني: سبعة موانئ في البر الرئيسي (اللوزة/اللواتة، العوابد، صفاقس المدينة، المحرس، الزبوسة، الصخيرة)، وميناءين في جزر قرقنة (القراطن والعطايا). تُغطي هذه الموانئ 130 كيلومترا تمتدّ من جنوب الولاية إلى شمالها، بمعدل ميناء كل 20 كيلومتر. وفي عرض سواحلها تُوجد ثلاثة حقول طاقية بحرية (النفط في حقلي عشتار و”سرسينا”، والغاز الطبيعي في حقل ميسكار).

يُشكّل الصيد البحري أحد الأعمدة الاقتصادية للولاية. ففي سنة 2019 بَلغَ إنتاج صفاقس من الثروة السمكية 32308 طنا من جملة إنتاج وطني يَصل إلى 150890 طنا. وحسب أرقام وزارة الفلاحة لسنة 2021، نجد أن عدد مراكب الصيد البحري المُسجّلة والعاملة في ولاية صفاقس يَبلغ 3550 وحدة من جملة أسطول تعداده 12974 مركبا، أي قرابة 30 بالمئة. وفي السياق نفسه بلَغَ تعداد الأيدي العاملة في الصيد البحري في ولاية صفاقس سنة 2019 -حسب إحصائيات المرصد الوطني للفلاحة- 13155 فردا من جملة 50621 على المستوى الوطني، أي بنسبة 25،9%، وهو مؤشر يدلّ على تراجع، مقارنة بسنة 2009 عندما بلغ عدد بحارة صفاقس 17427 من جملة 52801، أي بنسبة 33 بالمئة.

أين ذهَبَ آلاف البحارة الذين هجروا القطاع خلال العشرية الفاصلة بين التاريخين؟ وهل لهذا التناقُص في الأعداد علاقة بازدهار “الحَرقة” في الولاية خلال السنوات الفارطة؟ لا يُمكننا إعطاء إجابات قاطعة، لكن علاقة الصيادين والبحارة عمومًا بتهريب السلع والبشر ليست مَخفيّة، ولم تنشأ البارحة، وهذه حقيقَة تَشهدها كلّ المدن الساحلية في العالم.  وبخُصوص المُهرّبين التونسيين،  صَرّحَ سالفاتوري فالا، وكيل النيابة المساعد في مكتب المُدّعي العام في أغريجينتو الإيطالية (مقاطعة صقلية الإيطالية)، في فيفري 2023، بأن أغلَبهم صيّادون تَركُوا مهنتهم الأصلية وانخرطوا في تهريب البشر.

في الحقيقة، فَقَدَ قطاع الصيد البحري في صفاقس -وتونس عموما- الكثير من جاذبيته، بخاصة لدى ممتهني الصيد التقليدي. يَجِد هؤلاء أنفسهم غير قادرين على مُنافسة أصحاب المراكب الكبيرة والصيادين الذين يُمارسون طرق الصيد العشوائي والمحظور (مثل الصيد بـ”الكركارة”) الذي لا يَحترم محميّات الأنواع البحرية وفترات الراحة البيولوجية، ممّا يَستنزف الثروة السمكية. كما أن جزءا هاما منهم لا يتمتّع بتغطية اجتماعية وصحية، ولا يَقدر على مجاراة ارتفاع تَكلفة اقتناء مُعدّات الصيد وصيانة القارب، ويُعاني من استغلال الوسطاء وسيطرة شركات كبيرة على السوق. ويُضاف إلى كل هذا تأثير التلوث والتغيرات المناخية على البحر وثرواته وجودتها، وحتى الخطر الذي يُمثله استيطان أنواع بحرية وافدة على السواحل التونسية مثل سلطعون البحر الأزرق (“داعش” كما يطلق عليه البحارة في تونس) الذي لا يكتفي باستهلاك كميات كبيرة من القشريات والرخويات ذات القيمة السوقية العالية، بل يَفتكُ أيضا بشباك الصيادين التقليديين.

هذا التراجع في تشغيلية وجاذبية الصيد البحري تسبّب في السنوات اللاحقة في تهرّم القطاع. في دراسة أجراها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في جزيرة قرقنة، التي يعمل أكثر من نصف سكانها الذكور الناشطين في قطاع الصيد البحر، ردَّ جميع الصيادين المستجوبين بـ”لا” إجابة عن السؤال التالي: “هل تود أن يمتهن أبناؤك الصيد البحري مثلك؟” وبالواقع، يَهجر الشباب -وحتى الكهول- هذه المهنة أكثر فأكثر نحو قطاعات اقتصاديّة أخرى أو نحو مسالك وأنشطة بحرية مختلفة، من ضمنها تهريب المهاجرين غير النظاميين من جنوب المتوسط إلى شماله. لكن كلّ هذه العوامل البحرية المُغرية لا تُفسّر لوحدها تحوّل صفاقس إلى منصة رئيسية للهجرة. إذ أن بقية الإجابة نجدها في البرّ.

تُعتَبر صفاقس “الرّئة” الاقتصادية للبلاد، فهي تَضمّ حسب معطيات “السجل الوطني للمؤسسات” عُشر المؤسسات الاقتصادية (بمختلف أحجامها ونشاطاتها) المُسجلة في تونس، والتي يناهز عددها 800000 مؤسسة على المستوى الوطني. وفضلا عن الصيد البحري، فإن النشاط الفلاحي مُزدهر عموما في الولاية. حيث تتصدّر صفاقس قائمة الولايات المنتجة لزيت الزيتون واللّوز ولحوم الدواجن والبَيض، وهي كذلك من أكثر الولايات إنتاجا للّحوم الحمراء والألبان. وتتركّز فيها عدة وحدات كبرى مختصّة في الصناعات التحويلية الغذائية. وفيهَا سبع مناطق صناعية (بودريار 1، بودريار 2، مدغشقر، الماو، الحنشة، جبنيانة، طِينة). تضم المناطق الصناعية المذكورة مئات المعامل في ميادين مُختلفة: مواد كهربائية وإلكترونيات، مواد بناء، صناعات غذائية، نسيج، أحذية وصناعات جلدية، أدوية، أثاث وتجهيزات، الخ. كما تَشتهر الولاية بكثرة الحرفيين في مجالات شتى: نجارة الخشب والألمنيوم، الحدادة، الخراطة، ميكانيكيين، صيانة وتصليح المحرّكات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، صناعة المصوغ والحُلي، الحلويات وغيرها. وتعتبر صفاقس قُطبا استشفائيّا هامّا على المستوى الوطني، بثلاث مستشفيات جامعية وخمس مستشفيات جهوية ومحلية، و15 مصحة خاصة، وعشرات مخابر التحاليل ومراكز التصوير الطبي، وأكثر من 1300 طبيب يعمَلون في عيادات خاصة. كما تُعد من بين أهم الأقطاب الجامعية في تونس، ب ـ21 مؤسسة تعليم عالي عمومي وست جامعات خاصة. كما أن الحركية التجارية في مركز الولاية قوية، وتُمثل مركز جذب لسكان الأحواز والولايات المجاورة. ويُضاف إلى كل ما سبق أهمية قطاع البناء والأشغال العامة، بخاصة في منطقة صفاقس الكبرى، حيث يتركّز أغلب النشاط الاقتصادي غير الفلاحي.

تنوع النشاط الاقتصادي ونموّه المستمر يخلق حاجة متواصلة إلى الأيدي العاملة. كما أن جزءا هاما منه غير خاضع لرقابة أجهزة الدولة، أي أنه يدخل في خانة الاقتصاد غَير المُهيكل. السهولة النسبية في الحصول على فرصة عمل من دون الحاجة إلى مؤهلات تقنية ومعرفية عالية، وبخاصة من دون الاهتمام بالوضعية القانونية لطالب الشغل وهويته، هي واحدة من المعايير الوَازنة التي تجذب المهاجرين غير النظاميين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تُوفّر لهم الدينامية الاقتصادية في الولاية إمكانية إيجاد عمل بسرعة وتأمين نفقاتهم وحتى الادّخار لدفع ثمن الهجرة غير النظامية للمُهرّبين والوسطاء. 

أهمية الولاية على المستوى الاقتصادي والاستشفائي والتعليمي جَعل منها شريانا رئيسيا في حركة السكان في تونس. حيث تشهد صفاقس، يوميا، حركة وصول ومغادرة كبيرة جدا، مما يُعقّد مسألة مراقبة مسالك تدفق المهاجرين غير النظاميين. الولاية مُلاصقة لثلاثة أقاليم من جملة ستة في البلاد: الوسط الشرقي (المهدية)، والوسط الغربي (سيدي بوزيد والقيروان)، والجنوب الشرقي (قابس). وتتمتع بشبكة نقل متنوعة وممتدة: محطة نقل بحري من وإلى قرقنة، محطة سيارات أجرة نحو أغلب ولايات الجمهورية، محطات سيارات أجرة تَربط مركز المدينة بمعتمديات الولاية البعيدة عن منطقة صفاقس الكبرى، وشركة حافلات للنقل بين المدن، وشركة جهوية للحافلات داخل الولاية، ومحطة مركزية للقطارات، وأكثر من عشر محطات صغيرة من جنوب الولاية إلى شمالها. بالإضافة إلى أكثر من 3300 سيارة تاكسي. هذه الحركية الهائلة تُسهّل وصول المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى الولاية، وتُيسّر تنقلهم بين مختلف مناطقها من دون التعرض للمراقبة الأمنية والتثبت من الهوية. حتى فيما يخصّ السكن، فالولاية عامرة بالمنازل التي يمكن تأجيرها: من جملة 290870 وحدة سكنية تعدها صفاقس (معطيات التعداد العام للسكان 2014) هناك أكثر من 40000 مسكن ثانوي أو غير مأهول. وعلى الرغم من كونها ثاني أكبر مدينة في البلاد، فإن أسعار الإيجار في مدينة صفاقس هي عموما أرخص من تونس العاصمة أو المدن ذات الطابع السياحي (على غرار ولايات الساحل والوطن القبلي). وهذا الأمر يَنطبق أيضا على أسعار المواد الغذائية والخدمات وغيرها من الحاجيات.

فضلا عن موقعها المميز في الواجهة الشرقية البحرية لخارطة تونس، من خلال توسّط الشمال والجنوب والتماس بالجهة الغربية الداخلية للبلاد، فإن لولاية صفاقس مميزات جغرافية أخرى كالقرب النسبي من الحدود الليبية والجزائرية التي يتدفق منها الجزء الأكبر من المهاجرين الأفارقة: يفصلها حوالي 300 كيلومترا على معبر رأس جدير الحدودي (ولاية مدنين) وحوالي 400 كيلومترا على معبر الذهيبة-وازن (ولاية تطاوين) وحوالي 300 كيلومترا على معبري حيدرة والشبيكة (ولاية القصرين) و350 كيلومترا على معبر حزوة (ولاية توزر). والأهمّ من كل هذا قُربها من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية: 140 كيلومترا انطلاقا من قرقنة، و170 كيلومترا انطلاقا من البر الرئيسي.

قائمة العوامل التي تجعل من صفاقس منطقة جذابة للراغبين في الهجرة غير النظامية يُمكن أن تَطول أكثر، لكن ما ذكرناه هو أهمها. طبعًا بعض هذه العوامل يُوجد في مناطق ساحلية أخرى، لكن من الصعب اجتماعها كاملة، مثلما هي الحال في صفاقس. هل دعَمت شبكات التهريب هذه الجاذبية أم أن جاذبية الولاية هي من خَلقَت مافيات الهجرة غير النظامية؟ لا يُمكن الجزم، إذ أن العلاقة تبدو جدلية. في كل الأحوال من الصعب الاقتناع بأن ولاية صفاقس تحوّلت إلى واحدة من أبرز منصات الهجرة غير النظامية في جنوب المتوسط من دون تواطؤ فردي أو جماعي من أمنيين في البر والبحر، في مداخل الولاية وأحشائها. كثير من كبار المُهرّبين أسماؤهم معروفة لعموم الناس في المدينة، فما بالك بالأجهزة الأمنية؟ من حين إلى آخر يتم القبض على واحد من المهربين بشكل استعراضي تتناقله وسائل الإعلام بكثافة. وقد يكون ذلك لامتصاص غضب السلطة المركزية المُحرجة، وتخفيف ضغوط الشريك الأوروبي. وفي الأثناء تَنبت شبكات تهريب جديدة.

الاقتصاد غير المرئي للحرقة

تَحَوّل الولاية إلى منصّة أساسية للهجرة غير النظامية في المتوسط له تمظهرات واضحة في الاقتصاد. بالطبّع هناك المبالغ الضخمة التي يَدفعها المهاجرون إلى شبكات التهريب (ملايين الدينارات سنويا إذا ما احتسبنا آلاف الأشخاص الذين يَدفع كل واحد منهم 4000 دينار كمتوسط سعر تذكرة ركوب قوارب الحرقة) والتي لا تذهب كلّها إلى المهرب، فجزء منها يُوزّع بين عدة أشخاص مكلفين بمهام متعددة: استقطاب مهاجرين، إيوائهم ومراقبتهم و”تأديبهم” إن لزم الأمر، مراقبة المنطقة وتحركات قوات الأمن، توفير مستلزمات الإبحار، قيادة القارب، دفع رشاوي، إلخ. لكن هذا ليس كل شيء.

تواجد آلاف المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء الراغبين في الحصول على أي فرصة شغل في أي قطاع وبأي شروط وظروف عمل-يتواجد أغلبهم في وضعية غير قانونية ولا يعلمون أي شيء عن حقوقهم ولا يرغبون أصلا في التواصل مع جهات رسمية أمنية أو إدارية- شكّل مصدر ربح لعدد كبير من أصحاب الأعمال وملاّك الأراضي والمقاولين في المدينة: يد عاملة فتية تَقبل بأجور متدنية ولا تطالب بأغلب حقوقها ولا موجب لذكرها في سجلات الصناديق الاجتماعية ومصلحة الضرائب. يعمل المهاجرون منذ سنوات في أكثر المهن إرهاقا وأقلها أجرا مثل جني المحاصيل الفلاحية وقطاع البناء والتعمير وتحميل وتفريغ شحنات السلع والعمل في المنازل، العمل في المطاعم والمقاهي. وهي عموما المهن التي تحتاج قوة عضلية ولا تتطلّب معارف أو مهارات في المصانع والورشات الحرفية.  في بعض الحالات يبلغ سوء ظروف العمل درجة السخرة والاتجار بالبشر. حسب تقريرها لسنة 2021 نجد أن الهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالأشخاص تلقّت 653 إشعارا بحالات إتجار بالأشخاص، أكثر من سبعين بالمئة منها تخصّ مهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء. وتُشكّل النساء 76 بالمئة من الضحايا، وتعلقت 68 بالمئة من الإشعارات بالتشغيل القسري. ومن الملاحظ أن صفاقس احتلّت صدارة الولايات التي سُجّلت فيها حالات إتجار بالبشر بـ 241 حالة، وبنسبة تصل إلى 36,9 بالمائة. ولا يجب أن ننسى أن المهاجرين، وإن كانوا في وضعية عبور، فهم لا يقضون بضع ساعات ثم يرحلون، بل أسابيع وأشهرا وأحيانا سنوات. وخلال هذه الفترة يُنفقون مبالغ كبيرة على احتياجاتهم الغذائية والخدماتية وغيرها، وبالطبع يستأجرون مساكن أحيانا بأضعاف قيمة إيجارها الحقيقية ودون التمتع بحقوق المستأجرين أو الحصول على عقد كراء.

وكلّما زادَ التضييق الأمني على مَسَالك الهجرة غير النظامية، كلّما خُلِقَت حاجات جديدة في سوق الحرقَة. من الأمثلة على ذلك الحصار الأمني المضروب على جزر قرقنة في السنوات الأخيرة لمنع وصول المهاجرين إليها -والعديد من المواطنين في بعض الأحيان- ومن ثم الانطلاق نحو إيطاليا، خلَقَ مسلكا جديدا مُصغّرًا لتهريب الأشخاص من البرّ الرئيسي في صفاقس إلى سواحل الأرخبيل الذي يبعد أقل من 33 كلم عن مركز مدينة صفاقس. وما زال النفاذ إلى جزيرة قرقنة خاضعا للفرز الأمني، إذ يجري منع القادمين إلى الجزيرة من الولايات الداخلية، خاصة الشباب منهم. وعادة ما يقدم أعوان الأمن هذا الإجراء بوصفه يندرج في إطار التقليص من الهجرة غير النظامية، حسب شهادات سبق وأن وثّقَتها المفكرة القانونية. وقد كان لهذا المنع تأثير على بعض المشاريع السياحية الصغيرة في الجزيرة.[4]  

كما يلجأ بعض المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء القادمين إلى تونس من الجزائر وليبيا، والراغبين في الوصول إلى صفاقس دون المرور بالدوريات الأمنية، إلى خدمات أصحاب سيارات الأجرة وغيرها من وسائل النقل الجماعي مقابل دَفع مبلغ مالي أكبر بكثير من التعريفة المضبوطة من قبل الدولة للسفرات بين المدن. في السياق نفسه، وبسبب المراقبة الأمنية على الموانئ وأسطول الصيد البحري، وكذلك تناقص أعداد القوارب التي يمكن استعمالها في “الحرقة” بحكم النسق السريع لمحاولات العبور، ازدَهرَت صناعة القوارب بشكل غير قانوني في ورشات سريّة مُنتشرة في عدة مناطق تابعة لولاية صفاقس، خصوصا في الأماكن المعزولة والبعيدة نسبيا عن الرقابة الأمنية.

ونظرا لمَتانة علاقة المدينة مع البحر والأهمية التاريخية لقطاع الصيد البحري في الحركة الاقتصادية، فإنها لا تضمّ فقط عددا كبيرا من البحّارة و”الريّاس” (الرّبابنة)، بل يتواجَد فيها عدد كبير من المؤسسات المختصة في صناعة المعدات والتجهيزات الضرورية للنشاط البحري، بما في ذلك مراكب الصيد والقوارب الترفيهية وحتى السفن العسكرية، فضلا عن الوكلاء والمُوزعين الذين يَبيعون محركات المراكب وقطع الغيار. وإذا ما أضفنا إلى كل هذا ما يتوفر في المدينة من كثرة الحرفيين والورشات في مجالات متعددة، فإنه يُصبح من السهل نسبيا على منظمي رحلات الهجرة غير النظامية الحصول على قوارب جاهزة أو العثور على مُختصّين لتصنيعها. وكلّما كانت تكلفة الحصول على القارب أقل كلّما زادَ هامش ربح المُهربين وكثر التنافس بينهم، إذ يُصبح بإمكانهم تقديم “تخفيضات” واستقطاب عدد أكبر من الزبائن. وهذا ما يفسر تزايد عدد المراكب التي تغرق في عرض البحر بسبب عيوب الصّنع، بخاصة مع الانتشار الكبير للقوارب الحديدية الخفيفة، التي لا يتوافَر فيها الحد الأدنى من السلامة للرّكاب، خصوصا عندما يكون عددهم كبيرا، أو يُبحرون في ظروف مناخية غير ملائمة.

كيف ولماذا تعفَّنَت الأوضاع في صفاقس؟

لم يكَن مقتل مواطن تونسي في مدينة صفاقس إثر الاعتداء عليه من قبل أجانب أصيلي دول أفريقيا جنوب الصحراء يوم 3 جويلية 2023، السّبب الوحيد ولا حتى الرئيسي في اندلاع موجة العنف التي استهدفتْ المهاجرين في الأيام التي أعقبتْ الحادثة. يُمكن القول أنها القطرة التي أفاضت الكأس، فالمدينة كانت تعيش حالة احتقانٍ كبيرة قبل جريمة القتل بأشهر، والمشاعر السلبيّة تجاه المهاجرين جنوب الصحراويين كانت تَختمر منذ وقت طويل.

منذ مطلع سنة 2023، تتالَت حوادث الاشتباك بين التونسيين والمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في الولاية. وهذه بعض الأخبار التي رصَدَتها وسائل الإعلام في تلك الفترة:

  • في أواخر شهر فيفري 2023، أصدرتْ النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية صفاقس 1 بطاقة إيداع في السجن في حقّ شاب من منطقة “السلطنية” (معتمدية ساقية الدائر) إثر ثبوت تورّطه في اعتداء بالأسلحة البيضاء على مجموعة من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء.
  • في 29 ماي 2023، هاجَمَ سبعة تونسيين منزلا في حي “الحفارة” (معتمدية ساقية الدائر) يتواجد فيه عدد كبير من المهاجرين واعتدوا عليهم بالأسلحة البيضاء وقتلوا واحدا منهم .
  • في بداية شهر جوان 2023 حدثت صدامات بين تونسيين ومهاجرين في حي النصر وحي السعيدة (طريق قابس، معتمدية طينة) قبل أن تتجدد بشكل أعنف يوم 12 من الشهر نفسه.
  • في 17 جوان 2023 انتقل التوتر مرة أخرى إلى حي “الحفارة”، حيث حدثت اشتباكات ليلية وتراشَقَ الطرفان بالحجارة. 
  • في 25 جوان 2023 نظّمَ المئات من سكان مدينة صفاقس مظاهرة أمام مقر الولاية لمطالبة السلطات الجهوية والمركزية بالتحرك والتصدي لتوافد المهاجرين الأفارقة غير النظاميين وترحيل الموجودين منهم.
  • في 1 و2 جويلية 2023 بدأت الأمور تصل إلى مرحلة التعفن، إذ نشبتْ صدامات عنيفة بين التونسيين والمهاجرين من قاطني حي “الربط” (الربض، صفاقس المدينة) حُرقَ خلالها منزل وهُشّمَت سيارات، كما تبادل تونسيون ومهاجرون العنف في منطقة العوابد (معتمدية العامرة) إثر اقتحام مهاجرين لمسكن عائلة تونسية هربا من قوات الأمن، وبدأ التوتر ينتقل بسرعة نحو مناطق أخرى من الولاية قبل أن تنفجر الأوضاع مع جريمة القتل التي راح ضحيتها مواطن تونسي.

والملاحظ أن أغلب حوادث العنف جاءت بعد خطاب الرئيس قيس سعيد خلال ترأسه لاجتماع مجلس الأمن القومي يوم 21 فيفري 2023، عندما تحدث عن “المؤامرات الاستيطانية” التي تهدف إلى “تغيير التركيبة الديموغرافية” للشعب التونسي. خطاب تقاطع -بالأحرى أعطى مظلة رسمية- مع حملة تحريض عنصري يَشنها “الحزب القومي التونسي” وجهات أخرى منذ أواخر سنة 2022. ومن الملفت أن الاحتقان في ولاية صفاقس بلغ أشدّه (جوان/جويلية) خلال فترة التفاوض حول اتفاقية جديدة بين تونس والاتحاد الأوروبي بقيادة إيطاليا، التي زارت رئيسة حكومتها تونس ثلاث مرات في أقل من شهر ونصف.

هذا لا يعني أن الأمور كانت على أحسن ما يرام قبل 2023، بالعكس، حدثت عدة مناوشات واشتباكات، لكنها كانت محدودة ومتفرقة. ولعلّ أبرز دليل على ذلك ما حدث في “حي الأنس” (معتمدية ساقية الزيت) في 15 جوان 2021 من صدامات أدّت إلى إجلاء قوات الأمن لحوالي 200 مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء من الحي، ونَقلهم إلى مركز المعتمدية لـ”حمايتهم” وتجنب تطور الأوضاع إلى عنف قاتل. ما تغيّر هو الموقف الرسميّ وخطاب السّلطة الذي أصبح يتبنّى صراحة تصوّرات عنصرية ونظريّات مؤامراتيّة، ومنَح شرعية للمحتويات التحريضية الرائجة بقوة في المنصات الاجتماعية في السنوات الأخيرة.

 وانعكس هذا الموقف على الأرض، إذ تعرّض عددٌ كبيرٌ من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى أشكال متعدّدة من العنف والتضييق أواخر شهر فيفري 2023، في عدّة مناطق تونسية. تتحمّل السلطة السياسية ومعها الأجهزة الأمنية مسؤولية كبيرة جدّا في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه في صفاقس. كان جليّا، منذ أواخر شهر ماي 2023، أن الوضع يتّجه نحو التعفن والانفجار، ولم تُحرّك الدولة ساكنا لحماية المهاجرين الذي يعيشون ظروفا هشّة، وتهدئة وطمأنة المواطنين الغاضبين. لم تَبحث عن حلول قبل الأزمة، ولم تتحرّك بسرعة وحكمة عندما انفجرت الأوضاع، وكانت إدارتها لملفّ المهاجرين المطرودين والمطارَدين فضيحة سياسيّة وأخلاقيّة[5]. كان يتوجّب على الدولة حماية كل من يقيم في مجال سيادتها وتطبيق كل بنود المعاهدات والاتفاقيات التي صادقت عليها، ومراجعة ترسانتها التشريعية بخصوص حقوق المهاجرين[6]. وأن تحرصَ على إنفاذ القانون على الجميع عبر أجهزتها الرسمية، وأن تُعاقبَ خطاب الكراهية والتحريض بدلاً من تغذيته بخطاب المؤامرة والتخويف.

ما كان لخطاب الكراهية الذي تُروّج له أطراف عدّة في تونس أن يُحدِثَ أثرا بالغا، في ولاية صفاقس، ويتحوّل إلى ممارسات على الأرض، لولاَ تضافر عدة عوامل محلية ووطنية وعالمية؛ والعنصرية وحدها لا تكفي لتفسير ما حدث في الولاية. هي بكل تأكيد موجودة ومؤثرة -في صفاقس كما في باقي المناطق التونسية- ولا شكّ أنها تتفاقَم عندما تختلط بـ”رهاب الزنوج” (négrophobie) والصور العالقة في المخيال الجماعي التونسي عن “الوُصفان” (العبيد السود). حتى التونسيون السود يُعانون من هذه العنصرية[7]، وإن كانت غير ممأسسة وغير عنيفة.

وجود أفارقة جنوب الصحراء في ولاية صفاقس -خاصة مركزها- يعُود إلى تسعينيات القرن الفائت. لكنه كان محدودا جدا ويشمل أساسا الطلبة المُبتَعثين إلى الجامعات العمومية أو المُرسّمين في الجامعات الخاصة التي بدأت تظهر وتزدهر منذ بداية الألفية الثالثة، ولاعبي كرة القدم الذين يأتون إلى المدينة لإجراء اختبارات وتوقيع عقود، وبعض المهاجرين غير النظاميين الذين يمكثون فترة قصيرة في صفاقس قبل اجتياز البحر في اتجاه ايطاليا.

بعد 2011، تنامَى هذا الحضور بشكل محسوس وسريع، خصوصا بعد أن أجبرت الحرب في ليبيا مئات الآلاف من أفارقة جنوب الصحراء على التوجّه نحو الحدود التونسية. وكلّما ساءَت الأوضاع في ليبيا وازداد نفوذ المسلّحين وتعاظمت المخاطر التي تهدّد حياة المهاجرين الأفارقة هناك، كلّما أصبحت تونس -خاصة صفاقس- بديلا أكثر أمنا للراغبين في اجتياز المتوسط. ما بين 2012 و2018 بدأت تتشكل ملامح جاليات من إفريقيا جنوب الصحراء في ولاية صفاقس، تضمّ أساسا شبابا ذكورا من دول غرب أفريقيا، ويقيم أغلبهم في أفقر أحياء المدينة لمدة أشهر أو سنوات في انتظار العثور على فرصة مناسبة لركوب قارب في اتجاه إيطاليا و توفير المبلغ اللازم. وكانت أغلب الأشغال التي تُوكل إليهم عضلية شاقة، وبعيدة عن الأعين وعن مركز المدينة: أنشطة فلاحيّة في أحواز المدينة، الأشغال والبناء، شحن وتفريغ البضائع، ورشات حرفية ومصانع، إلخ. أما المهاجرات فأغلبهن يَعملن كخادمات في بيوت الأثرياء، أو منظّفات في المطاعم.

ابتداءً من سنة 2019، بدأَ حضور المهاجرين في المدينة يتطوّر على عدة أصعدة. على المستوى الكمّي يكفي الاطّلاع على أرقام الهجرة غير النظامية وتطوّر عدد المهاجرين التونسيين والأجانب، الذين تمّ اعتراضهم من قبل السلطات التونسية قبل الوصول إلى إيطاليا. وقد سبقَ وأن عرضنا هذه الأرقام. على المستوى النوعي، صار الحضور النسائي والعائلي أقوى، ولم تعُدْ المدينة مجرّد نقطة عبور، بل أصبحتْ أيضا منطقة استقرار وبديلا دائما أو مؤقتا عن “الحرقة”. وتوسّعت المجالات التي يَعمل فيها المُهاجرون لتشمل التجارة والخدمات. ولم يعدْ وجودهم يقتصر على بعض الأحياء، بل يَشمل أغلب أرجاء المدينة حتى وصل إلى “قلبها” التاريخي، أي المدينة العتيقة وجِوارِها.

لا تُوجد إحصائيات منهجية ورسمية للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء غير النظاميين، وإن كان وزير الداخلية قدّم -في جويلية 2023- تقديرات تقول بأن عددهم يناهز 80 ألف على المستوى الوطني و17 ألف في ولاية صفاقس. وقد عاد الوزير نفسه ليصرح أثناء الاستماع له في البرلمان، أول ماي 2024، أن عدد المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء يبلغ حوالي 23 ألف، وهناك حوالي 9 آلاف مهاجر مقيمين بطريقة رسمية، وتتوزع جنسياتهم على 27 دولة. وفي كل الأحوال، يَظلّ من الصعب تقدير العدد بدقة، فنحن نتحدث عن مهاجرين غير نظاميين، جزء كبير منهم لم يدخل تونس عبر المعابر الرسمية، وهم لا يشكّلون كتلة ثابتة ومستقرة.

بغضّ النظر عن الأرقام، هناك انطباع لدى عدد هامّ من سكان الولاية – خاصة منطقة صفاقس الكبرى- بأن توافد المهاجرين في نسق تصاعدي وأن مدينتهم ستُصبح “عاصمة جنوب الصحراء” -مثلما يقول البعض بسخرية لا تخلو من عنصرية- وليس “عاصمة الجنوب” التونسي. وإطلاق اسم “العاصمة الثانية” على صفاقس لا تبدو متطابقة مع الواقع، فهي وإن كانت تلعب فعليا دور العاصمة الثانية للبلاد فإنها لا تحظى بالامتيازات التي تتمتع بها العاصمة الأولى، لا من حيث الاستثمار ولا التطوير ولا العناية بتهيئة المجال العمراني، بل هي تتحمّل جزءا من أعباء وآثار التقصير الفادح في التنمية والبنى التحتية والخدمات، على غرار أغلب ولايات الوسط الغربي والجنوب. لذلك يخاف كثير من سكان صفاقس أن تُرحّل الدولة المركزية ملف المهاجرين غير النظاميين إلى ولايتهم وتتركهم يتدبرون أمرهم لوحدهم. ووسط التركيز على الممارسات العنصرية واللاإنسانية التي اقترفها بعض سكان المدينة، لم يحظَ جزء آخر من القصة بالتغطية الكافية: الأفعال والمبادرات التضامنية التي أظهرها جزء آخر من سكان المدينة. لم يَطرد جميع ملاك المنازل المهاجرين، بل هناك من حمى سلامتهم الجسدية ووفّرَ لهم الطعام وحاجيات حياتية أخرى، في حين آوى آخرون مهاجرين طُردوا من بيوتهم. ومنذ الأيام الأولى لتجمع المهاجرين في مركز المدينة فرارا من الممارسات العنيفة والمضايقات، انبثقتْ عدة مبادرات شخصية وجماعية من بعض الأهالي والناشطين في المجتمع المدني لتوفير المساعدة متعددة الأشكال: مياه وطعام ومستلزمات نظافة شخصية وأفرشة وفحوص طبية، والمساعدة على إجراء اتصالات هاتفية. كما حاول عدد من الناشطين التصدي للخطاب العنصري السائد وتفكيكه وإبراز تهافُته ولا إنسانيته.

في هذا السياق، يُلاحظ أن أعمال العنف التي استهدفت المهاجرين في السنتين الأخيرتين جَدّت أغلبها في حزام الأحياء الشعبية الذي يُحيط بمركز الولاية. وهي مناطق تشكّلت أساسا من حركة السكان داخل الولاية (من الأحواز نحو المركز) والهجرة الداخلية (أساسا من ولايات الوسط الغربي والجنوب). ويتمَوقع معظمها بالقرب من مناطق صناعية. كما أن نمط الإسكان المُهيمن في هذه الأحياء هو المنازل الصغيرة المتلاصقة، ممّا يخلق حالة من الازدحام ونقص الراحة والخصوصية. وبما أن أغلب المهاجرين الوافدين على الولاية فقراء، فإنّهم يتّجهون منطقيّا إلى الأحياء التي يكون فيها سعر إيجار المساكن أرخص. ولتخفيف الكلفة أكثر يتشارك عدة مهاجرين مسكنا واحدا (وعادة ما يدفعون إيجارا أعلى مما يُطلب من التونسيين). ومن المنطقي أيضا أنهم يستعملون وسائل النقل الأرخص، مثل الحافلات العمومية وسيارات التاكسي الجماعي وغيرها. وفي معظم الأحيان، يَقبلون بأجور وظروف عمل أقل من تلك التي يَقبل بها التونسيون. هذا التواجد في المناطق الشعبية يراه البعض مزاحمة من أجانب لمواطنين يعيشون ظروفا صعبة، مما يعقد أوضاعهم أكثر. زدْ على ذلك “الاختلافات الثقافية” التي يتعامل معها كثيرون كمظاهر “تخلف” ويعتبرونها تهديدا للهوية المحلية.

التناول الإعلامي لمسألة المهاجرين الوافدين على تونس يُساهم بشكل قوي في ترسيخ الكليشيهات وتنمية المخاوف. حضور مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء في وسائل الإعلام التونسية محدود جدا وأغلبه سلبي. ونجد أن جزءا هاما من الحضور يكون في وسائل الإعلام المكتوبة الفرنكوفونية أو العربية “النخبوية”، التي تُصنّف ضمن ما يسمى بالمنصّات الإعلامية البديلة. وبعض المواد الإعلامية تتضمن محتويات متعاطفة مع المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، ولاَ تحظى بانتشار واسع، وعادة ما يكون جمهورها فئة محدودة لديها توجهات فكرية معينة. أما بقيّة وسائل الإعلام والمنصّات، فإن أغلبها يكتفي بتغطية سطحية لمسائل الهجرة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بأفارقة جنوب الصحراء. ومن النادر جدا أن تتواصل معهم وتُمكنهم من إسماع أصواتهم. إذ تفضل التعامل معهم ككتلة هلامية لا ملامح ولا هوية لها. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، حيث لا تُفوّت كثير من الإذاعات والقنوات التلفزية الفرصة للحديث بصورة سلبية عن هؤلاء المهاجرين. وإذا ارتكب أحدهم جنحة أو جناية تنسب إلى كل المهاجرين، وتُصبح قضية أمن قومي.

ونُورد هنا بعض الأمثلة عن الأخبار “المثيرة” التي نشرَتها مواقع ووسائل إعلام مختلفة في السنوات الأخيرة حول المهاجرين في صفاقس: عمليّة اختطاف تكشف عن إعداد حانة ومطعم سرّي خاص بالافارقة، إيقاف 7 أفارقة وهم في صدد شرب الخمر في أول أيام رمضان، إيفواري يمتهن بيع الخمر خلسة في رمضان، أمراض الأفارقة تُحاصر السكان وتهدّد صحتهم، حقيقة إقامة مركز شرطة خاص بالأفارقة في صفاقس، إلخ.

على مستوى التوقيت، نُلاحظ أن مظاهر التوتر والعنف بدأت وتطورت بالتزامن مع الأزمة الثلاثية التي عاشتها تونس في السنوات الأخيرة؛ اقتصاديّة ووبائيّة وسياسيّة. كان لانتشار وباء الكورونا آثار اجتماعية واقتصادية ما تَزَال محسوسة إلى اليوم (أكثر من 20 ألف حالة وفاة، إضافة إلى فقدان الآلاف لمواطن عملهم أو مشاريعهم الصغيرة). واقتصاد البلاد المتأزّم منذ سنوات طويلة دَخلَ في نفق حقيقي مع التعقد المستمر للوضع السياسي في تونس منذ بداية سنة 2020 إلى اليوم. ويمكن أن نضيف أزمة أخرى خاصة بمدينة صفاقس والتي تتعلق بتوقف رفع الفضلات ونقلها إلى المصبات لمدة أشهر طويلة.

على سبيل الخاتمة: تونس العالقة في شراك السياسات الأوروبية

“هدأت” الأمور في البر، لكن البحر لم يكُف عن الاضطراب، وما تَزال غِوايته تجذب “الحراقة” التونسيين منهم والأجانب. بعد أحداث العنف في صفاقس، تطورت أعداد الرحلات والمهاجرين.  أكثر من 1800 تونسي وصلوا إلى السواحل الإيطالية في شهر جويلية 2023، وأكثر من 3200 في شهر أوت. في حين بلغت أعداد المهاجرين الذي أوقفتهم السلطات التونسية قبل ركوب القوارب أو في عرض البحر 5200 شخص على الأقل في الفترة نفسها. هذا من دون احتساب الأجانب الذين وصلوا إلى إيطاليا انطلاقا من تونس. كما تمّ تسجيل وفاة أو فقدان 77 مهاجرا خلال محاولة اجتياز المتوسط.  لا توجد إحصائيات دقيقة حول نصيب ولاية صفاقس من هذه الأرقام، لكن من المؤكد أنه لا يقل عن الثلث أو الربع في أدنى تقدير.

منذ بداية شهر سبتمبر -وهو من الشهور المفضلة لدى الحراقة والمهربين- أصبحت أرقام الواصلين قياسية وتجاوزت حتى أرقام فيفري 2011. خلال 72 ساعة فقط (ما بين 12 و14 سبتمبر 2023) وصل 8500 مهاجر إلى “لامبيدوزا” الإيطالية انطلاقا من تونس. وعلى إثر هذا التدفق غير المسبوق أعلنت السلطات الإيطالية حالة الطوارئ في الجزيرة. وحسب وكالة “نوفا” الإيطالية -نقلا عن وزارة الداخلية- فإن 85.564 شخصًا وصلوا إلى السواحل الإيطالية ما بين 01 جانفي و14 سبتمبر 2023 انطلاقًا من الشواطئ التونسية، 20 بالمئة منهم فقط يَحملون الجنسية التونسية. 

ويبدو أن السلطات التونسية التي توصلت إلى اتفاق “تاريخي” مع الأوروبيين منتصف جويلية الفائت وأهم بنوده مسألة الهجرة، تتعرض لضغوط قوية، فأرادت أن تُظهر صدق نواياها وجدّيتها في التصدي للمهاجرين غير النظاميين. خلال يومي 15 و16 سبتمبر 2023 نفذت تشكيلات أمنية متنوعة حملة قوية واستعراضية في ولاية صفاقس، شاركت فيها حتى وحدات مكافحة الإرهاب. كان عنوان الحملة القبض عن مهربي البشر وتفكيك شبكات التهريب. لكنها استهدفت أيضا المهاجرين غير النظاميين الذين كانوا يتهيؤون لاجتياز البحر. دخلَت الوحدات الأمنية الخاصّة أحياءً في صفاقس المدينة وفي معتمديّات ساقية الدائر والعامرة وجبنيانة، أي السواحل الشمالية للولاية، حيث داهمت منازل وألقت القبض على مئات المهاجرين، بالإضافة إلى مهرّبين ومطلوبين للعدالة. وقامت باحتجاز مراكب وسيارات ودراجات تستعملها شبكات المهربين. أمّا التدخّل الأكثر استعراضية، فقد عاشته جزيرة قرقنة فجر السبت 16 سبتمبر 2023، عندما قامت القوات الأمنية بتنفيذ إنزال جوي بواسطة المروحيات.

صبيحة 17 سبتمبر، شهدت صفاقس حملة جديدة، لكنها كانت مختلطة أو مزدوجة: أمنية ومدنية. فلقد قرّرت السلطات طرد مئات المهاجرين الأفارقة الذين بقوا عالقين في مركز مدينة صفاقس بعد أحداث العنف التي حصلت في شهر جويلية. هؤلاء كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في الحدائق والفضاءات القريبة من المدينة العتيقة، على بعد مسافة قصيرة جدا من البحر الأبيض المتوسط الذي طالما حلموا باجتيازه: حديقة “رباط المدينة” و”منتزه الأم والطفل” ومحطات التاكسيات بالقرب من “باب الجبلي”، وحديقة “وهران” بالقرب من “الباب الشرقي” و”باب بحر”. أجبرت قوّات الأمن المهاجرين على مغادرة “المربّع الأخير” ونقلت جزءا كبيرا منهم في حافلات في اتجاه أحواز المدينة ومنها منطقة “العامرة”، حيث عبّرَ كثير من الأهالي عن غضبهم من ترحيل الأزمة إليهم. وما أن فرغت السلطات الأمنية من إجلاء المهاجرين حتى أخذت منها المشعل “وحدات” مدنية تتبع الولاية والبلدية ووزارة الصحة وقامت يتنظيف وتطهير وتعقيم الحدائق والأماكن التي كان يتواجد فيها المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء.

في نفس اليوم والتوقيت تقريبا، لكن على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، كانت أورزولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، مصحوبة برئيسة الحكومة الإيطالية جيورجيا ميلوني، تقوم بزيارة إلى مركز استقبال المهاجرين في جزيرة لامبيدوزا تعبيرا عن التضامن الأوروبي مع إيطاليا في “محنتها”. وأعلنت “فون دير لاين” عن مخطط استعجالي لامتصاص الأزمة وتفريق المهاجرين بين دول أوروبية، وعن نية الاتحاد الأوروبي في تعزيز جهود تسجيل معطيات وبصمات المهاجرين، وتوسعة عمليات المراقبة البحرية، وإيجاد حلول للتوقي من موجات الهجرة الجماعية، وحث دول الانطلاق على استقبال مواطنيها الذين لا تتوفر فيهم شروط الحصول على صفة لاجئ، وتوقيع اتفاقيات جديدة مشابهة لتلك التي تم التوافق حولها مع تونس. وفي هذا السياق، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أنه يتوجب على الاتحاد الأوروبي الإسراع في صرف المساعدة لفائدة تونس عقب اتفاق جويلية 2023، في حين ألمَحَت رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني إلى إمكانية صرف مساعدة إضافية. مراقبة وتصدّي وترحيل، وربما “بقشيش” للحرّاس.

للاطلاع على الدراسة بصيغة PDF


[1] في هذا السياق بالإمكان الاطلاع على تحقيق ميداني أنجزته المفكرة القانونية حول الهجمة العنصرية في صفاقس، بعنوان: “ليالي الاقتلاع في تونس: تحقيق في مآس صنعتها كراهية الحاكم وشبكات الاستغلال” منشور بموقع المفكرة بتاريخ 02 نوفمبر 2023. (هذا الهامش من وضع المحرر).

[2] Mehdi (MABROUK) « Voiles et sel, culture, foyers et organisations de la migration clandestine en Tunisie » Les Editions Sahar 2ème édition 2012,P 126

[3] راجع معطيات التعداد العام للسكان 2014 الخاصة بولاية صفاقس، على الموقع الرسمي للمعهد الوطني للإحصاء. 

[4] للوقوف أكثر حول الحصار الأمني الذي شهدته جزيرة قرقنة، انظر: ياسين النابلي. قرقنة جزيرة مغلقة أمام الشباب وسكان المناطق الداخلية. نشر بموقع المفكرة القانونية، بتاريخ 31 أوت 2022. (هذا الهامش من وضع المحرّر).

[5] للوقوف أكثر حول الانتهاكات التي تعرض لها المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء. انظر: مهدي العش. الإبعاد القسري للمهاجرين في الصحراء: جريمة ضد الإنسانية تُجابه بالإنكار. نشر في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية تونس، سبتمبر 2023. (هامش من وضع المحرر).

[6] بخصوص تشريعات الهجرة. انظر: مهدي العش. قراءة في التشريعات في مجال الهجرة: حين تفشل الديمقراطية في تفكيك الإرث الاستبدادي. نشر في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية-تونس، سبتمبر 2023. (هامش من وضع المحرر)

[7] هدى مزيودات. ترسبات العبودية في تونس: إرث الألقاب الثقيل ومعضلة الهوية السوداء في تونس. مجلة المفكرة القانونية تونس، العدد 27، سبتمبر 2023. (هامش من وضع المحرر).

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني