انطلق المجلس الوطني التأسيسي التونسي في جلسته التي عقدها مساء يوم 13/1/2014 في مناقشة باب السلطة القضائية بالدستور. وفي هذا الإطار، صادق النواب على الفصل 100 من مشروع النص الدستوري الذي اقتضى ان القضاء سلطة مستقلة تضمن اقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات ونص على أن القاضي مستقل ولا سلطان عليه لغير القانون والفصل 101 الذي اشترط في القاضي الكفاءة والنزاهة والحياد والفصل 102 الذي كرس الحصانة القضائية. الا أن النقاش أخذ منحى آخر عند وصوله الى الفصل 103 من المشروع. وكان الفصل في مشروع غرة جوان 2013" ينص على أنه يسمى القضاة بأمر رئاسي بناء على رأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء"، وهي صيغة توافق عليها أعضاء اللجنة التأسيسية للقضاء العدلي والاداري والمالي والمحكمة الدستورية، وأثارت في حينها احترازا بخصوص تسمية المجلس الذي تمسك شق من النواب بضرورة أن يتضمن صفة القضاء كسلطة. وهي مسألة كان يتوقع أن تكون محورا للنقاش في الجلسة العامة ..غير أن النقاش عاد ليتناول أصل المبدأ بعدما تقدمت النائبة في المجلس الوطني التأسيسي سناء المرسيني بمقترح تعديل يقتضي اضافة فقرة للنص الدستوري تستثني الوظائف القضائية العليا من مجال نظر مجلس القضاء وتسندها للحكومة وحدها.
بدا مقترح التعديل خارجا عن قناعات النواب على اعتبار سابق توافقهم على ضمان استقلالية القضاء من خلال اسناد صلاحية تعيين القضاة بمن فيهم القضاة الكبار ونقلهم لمجلس القضاء. غير أن اصرار نواب الاغلبية داخل المجلس الوطني التأسيسي على المصادقة على مشروع التعديل كشف عن تطور في تصورات جزء من الطيف السياسي لمسألة "تدخل السلطة التنفيذية في التعيينات القضائية". فقد تبين سريعا من خلال مجريات جلسة المداولات ان المقترح يحظى بدعم كتلة الاغلبية النيابية التي جدد عدد من المتدخلين المنتمين لها التعبير عن امتعاضهم من الحديث عن استقلالية قضاء يحملونه مسؤولية ما لحق بهم من مظالم. وبعد أن نجحت هذه الاغلبية في تحويل المقترح الى جزء من نص الفصل الاصلي رغم معارضة طيف هام من النواب (وهو أمر ممكن بالغالبية النسبية)، عرض النص بصيغته الجديدة على التصويت ففشل في الحصول على غالبية الإقرار (التي هي الثلثين). وهذا الأمر يبقي تاليا هذا الفصل ضمن الفصول الخلافية التي يتعين حسمها في سياق الدورة الثانية لمناقشات الدستور.
سعت كتلة الاغلبية النيابية للانقلاب على نص دستوري ساهمت في صياغته. وهو أمر لا يمكن فهمه بمعزل عن صراع التعيينات القضائية الذي دارت رحاه بين وزير العدل التونسي ورئيس الحكومة من جهة والهيئة الوقتية للإشراف على القضاء من جهة أخرى. فنواب الاغلبية بالمجلس الوطني التأسيسي لم يطرحوا سابقا مسألة حق الحكومة في ممارسة التعيينات في المناصب القضائية غير ان تطور الصراع بين القضاة وحكومتهم حول التعيينات اثناء المرحلة الانتقالية جعلهم يقررون ان يحرموا المجلس الاعلى للقضاء مستقبلا من حق الولاية الكاملة على مسارات القضاة. بدا مقترح التعديل تراجعا عن ثوابت تكرست في صياغات متعددة لمشروع دستور بأسلوب متسرع. وبرر أعضاء السلطة التأسيسية الذين ساندوا المقترح موقفهم من خلال محاكمة أداء القضاء.
فشلت الأغلبية التي لا تملك نصاب الثلثين اللازم قانونا للمصادقة على الفصل الدستوري في تحقيق ثأرها من قضاة رفضوا تدخل الحكومة التي يساندونها في عمل هيئتهم المؤقتة للأشراف على القضاء العدلي وكان لوعي جانب هام من نواب الشعب بمسألة استقلال القضاء دور في حماية مستقبل استقلال القضاء من دسترة تدخل السلطة التنفيذية في مفاصل القضاء. ويظل على القضاة أن ينتظروا ما ستفرزه توافقات المفاوضات بين الساسة في خصوص باقي نصوص باب السلطة القضائية في الدستور المرتقب وفي خصوص الفصل 103 من مشروع الدستور الذي كان في أول حضور له في جلسات النقاش ضحية حسابات ساسة شغلهم شأن الحكومة واعمالها عن النظر الى مستقبل البلاد. فأرادوا للنص الدستوري ان ينتصر لموقف حكومي وفاتهم ان نصوص الدساتير لا تصاغ تحت تأثير ردود الفعل وانما هي اداة فعل تنحت مستقبل المؤسسات.
الصورة منقولة عن موقع www.culturafric.net
متوفر من خلال: