لم يكن المؤتمر الصحفي المشترك لنوّاب كتلتي ائتلاف الكرامة وقلب تونس عاديا في 25 جوان 2020. حيث قاطع الصحفيون كلمة النائب سيف الدين مخلوف بعد تهجّمه على مراسليْ قناتي العربية وسكاي نيوز اللذين تغيّبا عن المؤتمر، معتبرين ما أتاه رئيس كتلة إئتلاف الكرامة بمثابة تحريض على زميليهم. هذه الحركة الإحتجاجية تأتي بعد أقلّ من أسبوعين من حادثة الإعتداء التي تعرّض لها مراسلو مؤسسات إعلامية عربيّة خلال تغطيتهم لما سُمي يومها باعتصام الرحيل 2 في ساحة باردو، والذي دعت له جبهة الإنقاذ في 14 جوان 2020. وتأتي هذه الحوادث في سياق تصاعد حدّة التجاذبات السياسية وصراع المحاور تحت قبّة مجلس نواب الشعب، ليدفع الصحافيون، وخصوصا منهم المراسلون الميدانيون، الثمن بعدما انخرطت مؤسساتهم الإعلامية في عملية الإصطفاف السياسي.
وقد تحرّكت حينها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين على الفور لتعرب في بيانها الصادر بتاريخ 14 جوان عن استهجانها لما تعرّض له المراسلون الصحفيون من شتى أصناف التهديد والسب والشتم ومحاولات المنع من العمل المصحوبة بتوجيه اتهامات بالعمالة ومناهضة الثورة. داعية النيابة العمومية إلى فتح تحقيق عاجل في جريمة الإعتداء المذكور وتحملها مسؤولياتها في حماية الصحفيين من مختلف التهديدات والمضايقات.
صراع المحاور بوابة للإعتداء على الصحفيين
على مدار أسبوعين، مثلت المستجدات السياسية في تونس مادة إعلامية رئيسيّة في بعض وسائل الإعلام العربية التي تناولت عديد القضايا من بينها لائحة تجريم التدخل العسكري في تركيا التي تقدّم بها الحزب الدستوري الحر ولائحة مطالبة فرنسا بالإعتذار التي تقدّمت بها الكتلة البرلمانية لائتلاف الكرامة وحراك جبهة الإنقاذ يوم 14 جوان 2020 الداعي إلى تنحية رئيس البرلمان راشد الغنوشي من منصبه، والإسراع بوضع محكمة دستورية، وتعديل القانون الإنتخابي من أجل تمثيلية أكبر في البرلمان، وتعديل النظام السياسي الحالي. تناول هذه الأحداث اختلف باختلاف الخط التحريري لوسائل الإعلام، التي عبّر البعض منها بشكل جلي في بعض الأحيان عن المساندة المطلقة لطرف دون الآخر. مواقف غرف التحرير أدت إلى الزجّ بالصحفيين في خانة الأطراف المصطفة لصالح قوى أجنبية.
إقحام الصحافيين في حملات الشحن والتجييش بين مختلف الأطراف السياسية أدى إلى ارتفاع منسوب الحساسية تجاه بعض الوسائل الإعلامية وارتفاع منسوب العنف ضد مراسليها على الميدان. حيث ذكر التقرير السنوي الخاص بواقع الحريات الصحفية لسنة 2020 الذي نشرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في شهر ماي 2020 أن الميدان مثل مسرحا لـ 124 اعتداء على صحفيين، وصل بعضها إلى حد استعمال العنف الجسدي، وحتى حمل السلاح الأبيض في وجههم.
في هذا السياق تعرض عدد من مراسلي بعض وسائل الإعلام العربية يوم 14 جوان 2020 أثناء تغطيتهم للحراك السياسي الذي انتظم بباردو إلى اعتداءات عديدة بلغت الإتهام بالعمالة ومناهضة الثورة والتهديد. مما اعتبرته النقابة الوطنية للصحفيين في بلاغ لها إنتهاكا مخيفا ومسّا بحرية الإعلام، مطالبة الرئاسات الثلاث بالتحرك العاجل وإطلاق الرسائل السياسية الضرورية حتى لا يحصل المحظور وتشهد الساحة السياسية أحداث تصفية للصحفيين.
اعتداء صنّفه الكاتب العام للجامعة العامة للإعلام محمد السعيدي في تصريحه للمفكرة القانونية كخطوة أخرى نحو التضييق على العمل الصحفي ودلالة على محاولة إقحام الصحفيين في صراع محاور لا دخل لهم فيها، فمهمتهم تقف عند القيام بتقرير صحفي يستجيب لضوابط المهنة الصحفية أو مراسلة ميدانية لنقل الأحداث.
في حين علّق الصحفي سيف الدين العامري (مراسل قناة سكاي نيوز عربي)، الذي تعرض للإعتداء من قبل أحد المواطنين خلال تحرك 14 جوان، على الحادثة في تصريحه للمفكرة القانونية معتبرا أنّ الإعتداء على مراسلي وسائل الإعلام العربية بات أمرا رائجا عزاه لسببين: الأول عدم تمييز جميع القنوات في خطها التحريري بين استراتيجية دولتها أو الدول التي تنتمي إليها والشركات الكبرى التي تمولها وآرائها ومواقفها السياسية تجاه ما يحدث، وبين العمل الميداني الذي يندرج ضمن ضوابط العمل الصحفي. أما السبب الثاني لتنامي الإعتداءات التي تطال مراسلي القنوات الأجنبية فهو الخلط الفادح لدى الرأي العام بين السياسة التحريرية للمؤسسة وبين العمل الصحفي، لذلك يتهم جزء من الرأي العام القنوات القطرية بالعمالة، في حين يتهم الجزء الآخر القنوات الإماراتية بتضليل الرأي العام، في حين أن الصحفي المهني بإمكانه العمل مع قناة سكاي نيوز ثم مع الجزيرة في فترة لاحقة، لأنه في نهاية الأمر يقدم إنتاجا صحفيا يتوافق مع الشروط المهنية والقواعد العلمية للعمل الصحفي.
الصحافة في مرمى المشاحنات السياسية
ظلت العلاقة بين الصحفيين والسياسيين في تونس متقلّبة خصوصا بعد 14 جانفي 2011 لتشهد في بعض الفترات مصالحة وودّا وفي أحيان أخرى مشادات واتهامات بتوجيه وتأليب الرأي العام.
وقد بدأت ظاهرة الهجوم على الإعلام والصحافيين تشهد تزايدا ملحوظا منذ سنة 2012 بعد إطلاق عدد من النشطاء السياسيين دعوة آنذاك لتطهير الإعلام من الوجوه والأسماء التي عملت في هذا المجال خلال حقبة نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. الدعوة لقيت تجاوبا من قبل عدد من المواطنين، حيث تجمهر المئات أمام مؤسسة التلفزة الوطنية لتنفيذ اعتصام تحت عنوان “اعتصام الأحرار لتطهير إعلام العار”، والذي دام أياما تعرّض خلالها الصحفيون إلى وابل من الإعتداءات والشتائم والتشهير في الساحات العامة وعلى منصات التواصل الاجتماعي. حالة العدوانية تلك تزامنت حينها مع مزاج عام وخطاب سياسي رسمي لحكومة الترويكا تبنى شعارات القطع مع الماضي ومحاسبة كل من علقت به شبهة التعامل مع النظام السابق.
كما تزداد معاناة الصحفيين عند كل استحقاق انتخابي، حيث يتهمون بالترويج لمرشح على حساب الآخر، وهو ما يجعلهم عرضة للانتهاكات اللفظية والجسدية من قبل مناصري كل طرف سياسي. وقد سجّل التقرير الخاص حول الإعتداءات على الصحفيين وحرية الصحافة أثناء الفترة الانتخابية الصادر عن النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، 79 إحالة اعتداء جسدي ولفظي ومنع من العمل طال 76 صحفيا تونسيا إضافة إلى شنّ حملات تحريض ضد قناتين تلفزيتين طيلة الشهرين اللذين تزامنا مع المسار الإنتخابي في البلاد. لتبلغ الإنتهاكات ذروتها في الإعتداء على فريق قناة الحوار التونسي في شارع الحبيب بورقيبة أثناء الإحتفال بفوز الرئيس قيس سعيد بالانتخابات يوم 13 أكتوبر 2019 بدعوى أن القناة ساندت المرشح المنافس نبيل القروي وتعمدت تغييب قيس سعيد، أبرز مثال على النتائج الخطيرة لحملات الشحن السياسي ضد الصحفيين.
مصدر الإعتداءات لم يقتصر على قوات الأمن، بل انخرطت فيه السلطة التشريعية. حيث كان لنواب الشعب نصيب في حصيلة الاعتداءات المسجلة في 7 مناسبات. وقد تراوحت هذه الإنتهاكات بين التحريض الذي مارسه بشكل كبير نواب ائتلاف الكرامة، إضافة إلى منع عدد من الصحفيين من دخول مجلس النواب بأمر من رئيس المجلس راشد الغنوشي وذلك لمنعهم من تغطية اعتصام كتلة الحزب الدستوري الحر.
في هذا السياق، اعتبر كاتب عام الجامعة العامة للإعلام محمد السعيدي أن الخطاب السياسي هو السبب الأساسي في تنامي الإعتداءات على الصحفيين. فالأحزاب السياسية في بعض الأحيان تسعى إلى شيطنة المؤسسات الإعلامية التي تختلف تقنيا في خطها التحريري عما تدعو إليه هذه الأحزاب فتوكل لأنصارها مهمة الإعتداء على الصحفيين. ويذهب السعيدي إلى حد القول أن الحل الوحيد لإيقاف هذا النزيف هو إصدار قانون يجرم الإعتداء على الصحفيين ويكون رادعا لوقف هذه الممارسات.
يشير بدوره الصحفي وعضو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين سيف الدين العامري إلى أن الإشكال يتمثل في عدم فهم مهمة الصحفي. فالمواطن لا يفرق بين عمل الصحفي والسياسة. أما عن سبب تزايد هذه الحوادث، فيؤكّد هذا الأخير أن معظم الإعتداءات تسبقها عملية ممنهجة من التجييش السياسي، من هذا الطرف أو ذاك. ليختم موضّحا أنّه لا يمكن لأحد إنكار الإصطفاف الإعلامي خلف المحاور الإقليمية أو المحليّة، ولكن لا بد من إيضاح الفرق بين العمل الميداني ومهمة تحرير التوجه العام للمؤسسة الإعلامية الذي يخضع لتدخّل عدد من الأطراف والحسابات السياسية والاقتصادية.