أصدر مجلس شورى الدولة قرارا في 12 كانون الثاني 2016[1] بردّ المراجعتين المقدّمتين في القضية المعروفة ب “قضية الموازنة”. وكان سياسيون[2] باشروا القضية المذكورة لإبطال القرار المتخذ في مجلس الوزراء بتاريخ 24 تموز 2014 المتعلق بتأمين الاعتمادات المطلوبة للرواتب والأجور وملحقاتهم من احتياطي الموازنة العامة، وذلك لاستنادها إلى موازنة 2005. وقد برر هؤلاء طلبهم بأن الاستناد الى القاعدة الاثنتي عشرية لتطبيق موازنة صادرة منذ 10 سنوات غير قانوني وأن السلطات العامة ترتكب مخالفات جسيمة تبعاً لتقاعسها عن القيام بواجبها الدستوري في إقرار الموازنات العامة السنوية، لما يقارب العشر سنوات. وتبعاً لذلك، ردّ المجلس الطلب الوارد فيهما بتشكيل هيئة قضائية للإشراف على إدارة المال العام وفرض الضرائب والاستدانة، “بما يؤمن الوظائف الحيوية للدولة حصراً”، وتاليا بفرض ما يشبه الحراسة القضائية على الدولة. وقد تمّ ردّ المراجعتين لانتفاء الصفة والمصلحة، أي شكلا ومن دون التعرض لموضوع الدعوى، بما يتضمنه من مخالفات جسيمة.
واللافت أن هذا القرار صدر خلافا لمطالعة مفوض الحكومة المعاون الذي دعا إلى التوسّع في تحديد المصلحة العامّة كما نبيّن أدناه.
وهذا القرار يستوجب ملاحظات عدة، أبرزها الآتية:
1- مفهوم “المصلحة المباشرة” كأداة لتحصين القرارات الإدارية
في هذا المجال، أدلى مقدّمو المراجعة بمصلحة مباشرة يستمدّونها من واقع أنهم نوّاب أو وزراء حاليون أو سابقون تستحق لهم رواتب وتعويضات شهرية في ذمة خزينة الدولة، وأن لهم تاليا مصلحة في تقديم المراجعة الرامية إلى حماية المال العام وضمان قانونية الجباية والإنفاق. وبالطبع، لم يكتفِ مقدمو المراجعة (وكلهم من الشخصيّات العامّة) بهذا الحدّ، إنما بيّنوا على طول عشرات الصفحات حجم المخالفة المتمثلة في تقاعس الدولة عن القيام بواجبها الدستوري في اقرار الموازنات العامة السنوية، لما يقارب العشر سنوات، مما جعل جميع عمليات الإستدانة والإنفاق والجباية منذ 1-2-2006 (وهو تاريخ إنتهاء العمل بالقاعدة الإثني عشرية على أساس الموازنة الأخيرة لسنة 2005)، غير شرعية وغير دستورية. وهذا ما عكسته تصريحاتهم بأن دعواهم ترمي إلى إعادة تأسيس الانتظام العام. فمن دون موازنة، لا وجود لدولة. وأخيراً، أسهب مقدّمو المراجعة على ضوء وضع المؤسسات العامة ليخلصوا إلى تحميل مجلس شورى الدولة مسؤولية كبرى على اعتبار أنه بات السلطة الشرعية الوحيدة وتاليا الملاذ الوحيد لاستعادة الدولة.
وقد جاء قرار مجلس شورى الدولة على نقيض كل ذلك. فبدل أن يتساهل في شروط توفر الصفة والمصلحة المباشرة المشار إليها في المادة 106 من نظام مجلس شورى الدولة على ضوء الأهمية الفائقة للمصلحة العامة بناء على دعوة مفوض الحكومة، تراه استغلّ وجود هذه المصلحة لإلغاء مصلحة فردية مباشرة. ولم يجد حرجا في هذا المجال في أن يحيل إلى قرار فرنسي صادر في 1930 بات في حال تعارض مع الاجتهاد الفرنسي المعمول به حالياً، وبأية حال مع اجتهاد مجلس شورى الدولة نفسه. والأسوأ من ذلك هو أن القرار (2016) عرّف شرط المصلحة في أن يكون القرار المشكو منه يمسّ المركز القانوني حصرا للمستدعي، “دون المساس بمركز سائر الأشخاص الآخرين، بمعنى أن يتمايز ضرر المستدعي الشخصي عن الضرر العام الذي يصيب كافة المواطنين”. ويبدو وكأنما المجلس قد أدخل في هذا الصدد شرطاً إضافياً لاعتبار المصلحة متوفرة، وهو أن تكون “حصرية” للمستدعي تحت طائلة اعتبار الدعوى دعوى شعبية، وذلك دون أي مسوغ قانوني، فقهي أو إجتهادي. ويؤدي هذا الأمر عمليّاً إلى إقصاء كمّ كبير من المصالح العامة من دائرة المصالح المحمية، على اعتبار أن المصلحة يجب أن تكون فردية وحصرية، وتاليّا إلى إقفال الأبواب حيث يقتضي التوسّع في فتحها. فكأنما لا مصلحة “شخصية” لأحد بالطعن بها لأن للجميع مصلحة في ذلك، كما هو الأمر في قضية الموازنة.
2- مطالعة مفوض الحكومة تؤسس لاجتهاد جديد بخصوص تعريف “المصلحة المباشرة”
على نقيض ذلك، طلب مفوض الحكومة القاضي ناجي سرحال من مجلس الشورى إعتبار أن الجهة المستدعية تتمتع بالصفة والأهلية اللازمتين للطعن. وبالإستناد إلى الفقه والإجتهاد الفرنسي[3]، برهن مفوض الحكومة أن شرط المصلحة يجب أن يفسّر على نحو يتلاءم مع الهدف الأساسي من مراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة، أي صيانة مبدأ الشرعية. وبذلك، يجب أن تكون المراجعة متاحةً لأكبر عدد ممكن من الأفراد، إحتراماً لحق المواطنين بالوصول إلى القضاء من جهة، وإحتراما لمبدأ الشرعية من جهة أخرى. كما بيّن أن التمسّك بتفسير ضيّق للمصلحة والصفة في المراجعة لتجاوز حد السلطة هو مؤشر سلبي يتناقض مع هدف هذه المراجعة ويؤدي إلى تحصين القرارات الإدارية غير القانونية. وقد استند في مطالعته إلى تطور كل من الإجتهاد والفقه الفرنسيين في هذا الشأن، معتمدا على تفسير الصفة والمصلحة من مراجع في القانون الإداري كـChapusو[4]Horiou. وقد أكّد سرحال أن القرارات المطلوب إبطالها هي قرارات تهم المواطن حيث من شأنها الإضرار في الإقتصاد ومالية الدولة. وعليه، دعت المطالعة مجلس شورى الدولة لأداء دوره الرقابي على الإدارة، وذلك إنطلاقا من سببين، الأول، متعلق بخطورة القضية المطروحة أمامه والتي تتضمن خروقات عدة للدستور ولمبدأ الشرعية، والثاني، متعلق باستثنائية الظروف التي تمر بها البلاد وأهمها غياب “الرقابة البرلمانية المشكولة”.
3- يحق للطوائف ما لا يحق لسواها:
في جانب ثالث، يلحظ أنّ قرار مجلس شورى الدولة جاء مخالفاً لتوجهه السابق في القضية التي رفعتها الرابطة المارونية ضد الدولة لإبطال مرسوم التجنيس لتجاوزه حد السلطة. فبعدما رأى المجلس في قراره الصادر في 2003 في القضية المذكورة أنه “لا يمكن لجمعية معيّنة أن تعطي لنفسها بصورة مطلقة الصفة والمصلحة لمقاضاة الدولة في قرار يمس بمصالح الوطن ككل ومكوناته العضوية ويرتبط ارتباطا وثيقا بممارسة الدولة لسيادتها وإلا لادعت كل جمعية من الجمعيات ذات الهويات الدينية أو الطائفية حق مقاضاة الدولة…”، استدرك مذكرا “بالتساهل الملحوظ الذي يبديه الإجتهاد الإداري في ما خصّ دعوى الإبطال رغبة منه في الوصول إلى إبطال عمل إداري مغاير للقانون”.
وتكشف مقارنة القرار الصادر في 2016 بقرار 2003 عن أمور جد هامة. فلماذا “رغب” المجلس بالتساهل في قضية مرسوم الجنسية ولم يرغب بذلك في قضية الموازنة رغم ما لغياب قانون الموازنة المتمدي من نتائج جدّ سلبية على المصلحة العامة؟ فهل تنشأ الرغبة عندما يتهدد القرار المطلوب إبطاله مصالح الطوائف، فيما تتلاشى الرغبة حين يتهدد القرار موضوع المراجعة كيان الدولة برمته؟
خلاصة
يسعى تيار الدراسات القانونية النقدية (Critical Legal Theory) في نظرية عدم التحديد القانوني (indeterminacy of the legal norm) إلى إظهار كيف يمكن لأي مبدأ قانوني أن يستخدم للحصول على نتائج قانونية متناقضة، وذلك بحسب الدور الذي يلعبه العامل “البشري”، أي القاضي. كما وتشير هذه النظريات إلى أنه لا يمكن فصل القانون عن السياسة. فحتى لو استند القاضي إلى اعتبارات تقنية وموضوعية في إصدار حكمه، فهو يمتلك السلطة الإستنسابية لتقدير المعايير وهو يتأثر في هذا الإطار بالمنحى الإيديولوجي والسياسي الذي يتبعه. وإن كان فصل القانون عن السياسة والإيديولوجيا ممكناً في بعض القضايا، فإنه يبقى صعب التصوّر في القضايا التي تحمل معها أسئلة حول النظام القانوني في البلد ومساءلة السلطة. من هنا، فإن تفسير المصلحة والصفة يمكن أن يأتي ضيقا أو ليبراليا، ويختلف حسب نظرة القاضي لدوره كصمام أمان للمجتمع أو كحام لمصالح السلطة.
نشر هذا المقال في العدد | 38 | نيسان/أبريل 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الإتجار بالبشر، صدمة في المرآة
للإطلاع على تقرير مفوض الحكومة، وقرار 237، الضغط على الروابط أدناه:
تقرير مفوض الحكومة
قرار 237 بتاريخ 12 01 2016
[1] قرار رقم 197292014، صادر في 12-1-2016
[2]راجع: نزار صاغية، “دعوى لإعادة تأسيس النظام العام: الجمهورية أمام القضاء”، المفكرة القانونية، العدد 22، تشرين الثاني 2014.
[3]إضافة لما ورد في مطالعة مفوض الحكومة، نشير إلى إجتهادات فرنسية إضافية، فمثلا، إعتبر مجلس الشورى الفرنسي أن صفة المستخدم في الخدمة العامة (
usager d’un service public) تكفي لإعتبار أن له مصلحة في التصدي لأعمال التي تتعلق بالخدمة العامة أو تنظيمها أو أدائها (
CE 21 déc. 1906, Synd. des propriétaires et contribuables du quartier Croix-de-Seguey-Tivoli, Lebon 962, concl. Romieu)، كما واعتبر المجلس أن دافعي الضرائب في إقليم معين، لهم المصلحة للطعن في قرارات هذا الإقليم التي لها آثار مالية عليهم (
CE 4 juill. 1997, req. no 161380, Région Rhône-Alpes, Lebon 276)
[4] راجع: مطالعة مفوض الحكومة المعاون القاضي ناجي سرحال، في المراجعة رقم 197292014، في 17-1-2015.
متوفر من خلال: