بعد قراره الصادر في 17/7/2023 لمصلحة المفكرة القانونية والائتلاف من أجل المحاسبة وعدم إفلات الجرائم المالية من العقاب، عاد مجلس شورى الدولة في ظرف أقلّ من أسبوع ليصدر قرارا ثانيا أكّد فيه على عدم قانونية التذرّع بسريّة نتائج التدقيق الجنائي الذي أجرتْه شركة ألفاريز آند مارسال بتكليف من الحكومة اللبنانية بشأن حسابات مصرف لبنان على اختلافها. وقد صدر القرار الثاني بتاريخ 24 تموز عن القاضي نفسه كارل عيراني وفق الأصول المستعجلة، وذلك في معرض المراجعة المقدمة من النائب سامي الجميّل ضدّ الدولة اللبنانية – وزارة المالية تبعا لرفضها تسليمه نسخة عن التقرير المبدئي للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي أجرته شركة ألفاريز. وقد خلص عيراني إلى إقرار حق الحصول على نسخة من التقرير المبدئي للشركة، بعدما ردّ جميع الحجج التي أثارها وزير الماليّة يوسف الخليل والتي تذرّع فيها بسرية التقرير. ويلحظ تحوّل من قبل هيئة القضايا (ممثلة الدولة اللبنانية) في هذه القضية، حيث أنها تركت أمر البت بالمسألة لتقدير مجلس شورى الدولة، خلافًا لما كانت ذهبتْ إليه في القضية السابقة للمفكرة حيث ادّعت أنّ من شأن الكشف عن نتائج التدقيق المسّ ب “الأمن القومي المالي”.
ومن أهمّ ما أثبته مجلس شورى الدولة في سياق تعليل قراره، الأمور الآتية:
- أنه لا يمكن للإدارة الركون إلى ذريعة عدم اكتمال إنجاز التقرير وأنه تاليا ما يزال تحضيريا لرفض تسليمه من دون إعطاء أيّ مستند يثبت ذلك، لأن ذلك يُبقي قانون الحق في الوصول إلى المعلومات معطلاً وغير قابل للتطبيق،
- أنّه لا يجوز لوزارة المالية الامتناع عن تسليم التقرير بحجة أن دورها يقتصر على تمثيل الحكومة اللبنانية تجاه الشركة وأن لمجلس الوزراء الحق الحصري بالتصرف بالتقرير عند جهوزه، لأن ذلك يخالف المادة 14 من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات التي تلزم الإدارة التي تكون المعلومة بحوزتها بتسليمها طالما أنها ليست ضمن الاستثناءات المشمولة بالمادة 5 من قانون حق الوصول إلى المعلومات وأن تقرير التدقيق الجنائي ليس ملكًا لمجلس الوزراء بل ملك للشعب اللبناني الذي له الحق موازاة مع أي سلطة إدارية أو قضائية في معرفة الأسباب الواقعية والقانونية وغير المعلنة التي أدت إلى انهيار النظام الاقتصادي والمالي برمته للدولة اللبنانية.
- أنه لا يصح لوزارة المالية التذرع ببند السرية والبند الذي يفرض الحصول على عدم ممانعة من الشركة للإفصاح عن المعلومات الوارديْن في العقد الموقع بين الشركة والدولة، لأن هذين البندين يخالفان أحكام قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، الذي تبقى ضوابطه هي المعمول بها حصرًا في ما خص تسليم التقرير المبدئي. وقد استند المجلس تأكيدا على موقفه إلى المادة 5 (فقرة 4-أ) من قانون حق الوصول للمعلومات التي نصّت على أنّه “لا تحول بنود السرية المدرجة في العقود التي تجريها الإدارة دون الحق في الوصول إليها”.
انطلاقا مما تقدم، يستدعي القرار الصادر عن القاضي عيراني في هذه القضية الملاحظات الآتية:
1- مواصلة الاجتهاد لمنع استغلال الاستثناءات على حق الوصول للمعلومات أو التوسع فيها
أول ما نلحظه هو أن القاضي عمد في هذه القضية كما في القضية السابقة إلى دحض الحجج التي أثارتها وزارة المالية أو هيئة القضايا، في اتجاه تضييق الاستثناءات على حق الوصول للمعلومات.
ففيما دحض بعبارات حاسمة تذرع الدولة ب “الأمن القومي المالي”، أسّس القرار في هذه القضية لمنهجيّة قانونيّة هامّة ضمانا للحق في الوصول إلى المعلومات، قوامها إلزام الإدارة بتقديم إثباتات خطيّة للجهة طالبة المعلومة في حال تذرّعها بعدم اكتمال إنجاز المستند المطلوب، تحقيقًا للهدف الأساسي وهو إبقاء قانون الحق في الوصول إلى المعلومات بمنأى عن التعطيل. كما جرّد الإدارة من سلاح التذرّع بوجوب الاستحصال على موافقة من السلطة العليا لتسليم المعلومات التي بحوزتها، وإن كانت هذه السلطة هي مجلس الوزراء، طالما أنّ المستند موجود بحوزة الإدارة. إلى جانب ذلك، رسّخ القرار المبدأ القانونيّ الذي يرعى تراتبية النّصوص القانونيّة، من خلال إعلانه عدم الاعتداد بمواد العقد الموقّع بين الدولة والشركة التي تخالف قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، خصوصًا أنّ المادة الخامسة منه تنص في فقرتها 4-أ على أنه لا تحول بنود السرية المدرجة في العقود التي تجريها الإدارة دون الحق في الوصول إليها.
2- اتجاه لتوسيع حق الوصول للمعلومات بالنظر إلى الأهمية الاجتماعية للمعلومات المطلوبة
الأمر الثاني بالغ الأهمية الذي نسجله هو أن القاضي عيراني لم يكتفِ بتعليل قراره هذا كما القرار السابق بإسقاط السرية عن نتائج التدقيق الجنائي بحجج تقنية وقانونية، إنما أشار أيضا إلى الأهمية الاجتماعية لكشف هذه النتائج. ففي قراره السابق، لم يكتفِ لاستبعاد حجة الأمن القومي المالي بالقول بأنها عبارة لم يذكرها القانون (ضمن الاستثناءات على حق الوصول للمعلومات) بل أضاف أن “عدم إعطاء المعلومات المتعلقة بالمراحل التي وصل إليها التحقيق الجنائي والنتائج التي توصل إليها، من شأنه (هو) أن يعرض الأمن القومي المالي للخطر، لما يمثله هذا التدقيق من أهمية لجميع اللبنانيين في ظل الوضع الاقتصادي والأزمة المالية التي أصابت البلاد برمتها وأدت إلى الانهيار المالي”.
في الاتجاه نفسه، ذهب في القرار الأخير، حيث لم يكتفِ بإعلان حق المستدعي كما أي فرد بالوصول إلى المعلومات، بل ذهب إلى إعلان أن التقرير هو ملك للشعب اللبناني الذي له حقّ موازٍ لحقّ أيّ سلطة إدارية أو قضائية، بمعرفة الأسباب الواقعية والقانونية وغير المعلنة التي أدّتْ إلى انهيار النظام الاقتصادي والمالي برمّته للدولة اللبنانية.
فكأنما القضاء الإداري يمنح حماية أكبر لحقّ الوصول للمعلومات التي تتوفر مصلحة اجتماعية خاصة في الكشف عنها. وهذا ما ينسجم مع ما سبق للمفكرة أن عرضته في انتقادها لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات، بعد مقارنته مع القانون التّونسيّ الذي نصّ على أنّ الإستثناءات على حق الوصول إلى المعلومات غير مطلقة، ويمكن تجاوزها كلما تبيّن أنّ المصلحة في الكشف عن المعلومات تعلو على المصلحة في كتمها.
3- تراجع هيئة القضايا عن موقفها السابق
أمر ثالث نلحظه في هذه القضية وهو تراجع هيئة القضايا في وزارة العدل عن موقفها السابق الذي أثارته إبّان ردّها على المراجعة المقدّمة من المفكرة القانونية المشار إليها آنفًا، والتي اعتبرت فيه أنّ الكشف عن المعلومات المتعلقة بالتدقيق الجنائي يشكّل مسًّا بالأمن القومي المالي للبلاد، وبأنّ التقرير المبدئي هو مستندٌ تحضيريّ يقتضي اكتماله وتلاوته في جلسة علنيّة قبل تسليمه. ففي ردّها على المراجعة المقدّمة من النائب سامي الجميل، اكتفت هيئة القضايا بترك أمر البت بطلب المستدعي لمجلس شورى الدولة، دون أن تتبنّى موقف وزير المالية الرافض لتسليم التقرير.
يُؤمل أن يكون هذا التحوّل في موقف هيئة القضايا عدولاً عن الوجهة التي نحت نحوها سابقًا، والتي أثبت مجلس شورى الدولة عدم قانونيتها، ونزوعًا منها نحو توجيه الإدارة لتطبيق القانون عوضًا عن الالتفاف على أحكامه واعتماد تفسيرات متناقضة مع القواعد القانونية العامة وغايات التشريع ومستوجبات العدالة. وما يؤمل هنا من الهيئة إنما ينسجم ليس فقط مع أخلاقيات “الخصم الشريف” التي يجدر بممثلي الدولة أن يتحلوا بها، لكن أيضا مع مواقفها الأخيرة التي تمسكت فيها بدورها في الدفاع عن المصالح العامة بمنأى عن الحسابات السياسية. –
4- هل تُميط وزارة المالية اللثام عن تقرير التدقيق الجنائي؟
أخيرا، على الرغم من كلّ الأصوات التي علت مطالبةً وزير المالية بالكشف عن التقرير المبدئي للتدقيق الجنائي والتي رفدها موقف مجلس شورى الدولة الحاسم في القرارين الصادرين في هذه القضية، ما يزال الوزير ممتنعًا عن كشف التقرير وأية معلومات أخرى متعلّقة بالتدقيق الجنائي. يرشح هذا التعنت عن خطورة كبيرة ليس فقط في إنكار حق الوصول إلى المعلومة أو في عرقلة نفاذ القرار القضائي (مما يمسّ بمبدأ استقلالية القضاء والمادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة ويشكّل جرما جزائيا سندا للمادة371 من قانون العقوبات) ولكن أيضا في احتمال التستر على جرائم مالية فادحة (وهو فعل قد يترتب عليه مسؤوليات جزائية عدة سواء بموجب قانون تبييض الأموال أو قانون العقوبات في فصله المتصل باستغلال السلطة). ولا نبالغ إذا قلنا أن من شأن حجب هذه المعلومات ومنع المحاسبة على أساسها إنما يؤدي إلى تعطيل حظوظ الإصلاح واسترداد الأموال المنهوبة، مع ما يستتبع ذلك من إضرار جسيم بمصالح حيوية للمجتمع والدولة، مع ما يستتبع ذلك من مسؤوليات كبرى، أقلها الخيانة.
يمكنكم هنا الاطلاع على قرار مجلس شورى الدولة كاملا