شهود على الإبادة: لطيفة حملت أولادها وقضيّتها.. وواجهت


2024-08-28    |   

شهود على الإبادة: لطيفة حملت أولادها وقضيّتها.. وواجهت
رسم رائد شرف

كانت لطيفة¹ تركض وهي تحمل طفلتها بين ذراعيها، والدبّابات الإسرائيليّة تزحف نحو دار نزوحهم الأخير في وسط غزّة. تنشر سائر أولادها الأربعة في كلّ اتجاه، تحاول أن تخدع الموت ليتوه عنهم. تضمّ حنين، الصغيرة الهشّة، إلى صدرها، وتضغط عليها، تجعل من جسدها درعًا يحميها من الرصاص. تصرخ لطيفة لأولادها بكلمات بين الوصيّة والمناجاة: “إذا صار رصاص، أنا آخذ الرصاص عنكم، انتوا اركضوا يمّا”، قبل أن تلتفت إلى يمينها، تبحث بعينيها عن حامد: “حامد يمّا، إذا أنا استشهدت انت دير بالك على أخوك طه”، ثم تلتفت إلى اليسار: “يمّا لُجين ديري بالك على أخوتك يمّا”.

ركضت لطيفة، وركض أطفالها مثل أطياف تتشبث ببقايا حياة تتسرّب من بين أصابعهم. كانت وصاياها لهم أكثر من كلمات، كانت دعاءً، نداءً أخيرًا في قلب المعركة، وسط ضجيج جنازير الدبّابات، وأصوات القصف المدفعيّ الذي يمزّق المكان من حولهم.

حامد، في عمر الخامسة عشرة، كان يحاول أن يكون سند أخيه طه الذي يصغره بأربع سنوات، فيما لُجين، ابنة الأربعة عشر عامًا، كانت تجرّ معها موسى الصغير الذي يكاد عمره لا يتجاوز التسع سنوات. كانوا يركضون بكلّ ما أوتوا من قوّة، أجسادهم المثقلة بالجراح من غارة سابقة تئنّ بصمت، لكن عيونهم كانت مشتعلة بعزيمة لا تعرف الخوف، متعلّقين بالحياة، طالما استطاعوا إليها سبيلًا.

قبل أقلّ من شهر، استهدفت إسرائيل الأسرة في النصيرات، عندما كان الأطفال يلعبون أمام أطلال منزلهم، وأصيبوا جميعًا. حنين، البنت الصغرى التي لم تتجاوز الست سنوات، كانت “معجزة” الأسرة، نجت من الموت بأعجوبة، وهي التي دفنتها الأقدار ثم أعادتها إلى الحياة وهي تصرخ قبل أن يهيلوا التراب على قبرها ويقفلوه عليها.

ومع اقتراب الرصاص، نظرت لطيفة، أم حامد، إلى أطفالها بنظرة وداع، تمنّت أن تفديهم وأن يكون الاستهداف من نصيبها لينجوا هم. كانت تعلم أنّهم سيكافحون للبقاء بدونها، لكنّهم بحاجة إلى القوّة، أن يشدّوا عضدهم ببعضهم، وأن يرفعوا رأسها عاليًا حتى لو استشهدت: “ديروا بالكم على حالكم يمّا، وبدّي إيّاكم زلام، ترفعوا راسي لو استشهدت”.

وفجأة، دوّى صوت مرعب، كأنّ الأرض انفجرت تحت أقدامهم. نظرت أم حامد خلفها، فلم تجد سوى الأنقاض. البيت الذي كان قبل لحظات يضمّهم: “اختفى كأنّه لم يكن”. أولادها بخير: “اركضوا يمّا الله يكون بعونكم”، قالت لهم.

نستكمل في هذا المقال/الشهادة، سلسلة “شهود على الإبادة“، ونوثّق من خلاله، قصّة لطيفة، معلّمة اللغة العربيّة، والأم لخمسة أولاد، لنكتب حكايتها، كما روتها. وقد التقينا لطيفة في بيروت، حيث تخضع هي وأولادها للعلاج اليوم. 

عودة إلى المواجهة الأولى

منذ اللحظات الأولى للحرب، أخلت لطيفة وعائلتها بيوتهم القريبة من حدود القطاع الشرقيّة. خمس ساعات فقط بعد ذلك، قصفت الدبابات البيوت واحدًا تلو الآخر، ودمّرت كلّ المنطقة. بيت العائلة، بيت أختها، ثم بيت أخيها، كلها تحولت إلى أنقاض. وجدت العائلة مأوى لها في منزل نزوح في المنطقة الوسطى. وكان الأكل والشرب يأتي بصعوبة: “نأكل نصف وجبة في اليوم، ولا نقدر أن نزيد حصّة طفل جائع ولو حتى بنصف رغيف” تقول لطيفة، “وكنّا 27 نفرًا من عائلة واحدة، كلّنا نساء وأطفال دون الـ 14 عامًا”.

مرّت ثلاثة أشهر على هذا الوضع، حتى موعد المواجهة الأولى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، حينها وصلت إلى لطيفة رسالة منه تميّزت عن سابقاتها بمخاطبتها باسمها: “لطيفة، من أجل سلامتك وسلامة أبنائك، والبيت الذي تسكنين فيه الآن، ومن أجل سلامة الوالدة وأبناء اخوتك، أجيبي على الاتصال”. وكانت العائلة بأكملها منشغلة بالخَبز على الصاج وإعداد وجبة حساء. 

رنّ الهاتف فورًا: “أهلًا”، قالت لطيفة، وعيونها مسمّرة على والدتها وأولاد أخوتها، وهم أمانة في عنقها، بحسبها. قال المتّصل: “لطيفة، إحنا منعرف أنك في منطقة الحساينة”، وقد حدّد مكانها بشكل دقيق، أجابت لطيفة: “أوكي ماشي”، وقد بدأت عيونها تجول بين وجوه أولادها. “ليه إنت خايفة؟” قال المتّصل، فارتدّت عيونها وعبست قليلًا تقاسيم وجهها: “مين قلّك أنا خايفة؟ أنا مش خايفة، هيّاني بحكي معك، إيش بدك تحكي؟”. وتحافظ لطيفة على هدوء صوتها، لكنّ الضغط يزداد عليها في كلّ لحظة. كانت المروحيّة الإسرائيليّة فوق المنزل تهدر بقوّة، ويقترب صوتها: “إنت أكيد شايفة الهليكوبتر فوقك”، قال المتّصل، فردّت هي: “شايفاها”، فتابع المتحدّث من جيش الاحتلال: “نحن لو بدنا نقصفكم منقصفكم، بس إحنا بدناش إيّاك، إحنا بدنا تساعدينا”. ليردف المتحدّث سائلًا عن أسماء عدد من الأقارب وأماكن تواجدهم. 

ردّت لطيفة بوضوح شديد: “بعرفش حاجة عنهم”، ليردّ المتحدّث الإسرائيليّ: “إنت كذاب”، وتتابع لطيفة: “حتى لو بعرف بتتوقع أحكيلك اشي عن أهلي؟” تسأل لطيفة باستنكار، ليكون الرد الإسرائيليّ: “أنت جريء كتير يا لطيفة”. 

كانت لطيفة واعية إلى أنّ هذا الحوار هو تكتيك من أجل الابتزاز، وبين الخيانة وحفظ حياتها، لم يكن الخيار صعبًا بالنسبة لها. تقول لطيفة لـ “المفكّرة” إنّه وفي تلك اللحظات: “أنا شايفة حينزل الصاروخ حينزل ما فيش مجال، الكلّ صار يتشهّد، حتى الصغار، ولما قلّي إنت كذاب، إنت جريء، سكّرت بوجهه”. 

بعد أن أغلقت الخط، اتّصل الشخص عينه بشقيقتها طالبًا إخلاء المنزل خلال 5 دقائق. صاحت الشقيقة وهي ترتجف: “ياختي ياختي بدهم يقصفونا”. شقيقة أخرى صارت تقول: “الخبز والعجين والصاج، الأولاد ما أكلوش”. فكان جواب لطيفة حاسم: “والله العظيم ما بقوم. اسحبوا حالكم واطلعوا. أنا والله ما بطلع إلّا لمّا بخلّص الخبز وأخلّص الطبيخ”. لطيفة أرادت توجيه رسالة تحدٍّ وعدم خضوع، كما تقول لـ “المفكرة”.

بينما كانت النسوة يحاولن جمع حاجياتهنّ بسرعة، كان الجنود الإسرائيليون يراقبونهنّ من السماء. بات الجميع خارج الدار، جلسوا في سيّارة من نوع فان، ينتظرون لطيفة. وكانت الزنّانة (المسيّرة) والمروحيّة تقتربان أكثر، لكن أم حامد (لطيفة) أنهت خبزها وطهيها، وبعد 30 دقيقة من الاتّصال الأخير، خرجت. حملت لطيفة عائلتها وسارت بهم نحو البحر. 

اختارت البحر، لأنّها تعرف أنّهم باتوا تحت المراقبة، وقد يلحق بهم القصف أينما ساروا: “لو بدّهم كانوا قصفونا، لكنّهم يريدون شيئًا من ورائنا، يريدون تحديد أين سنذهب، ليلاحقوننا إلى هناك، ظنًّا منهم أنّنا قد نقودهم إلى أحد من المقاومة”. من البحر، ذهبت شقيقاتها وأولاد أخوتها إلى خيام النزوح في رفح جنوبًا، فيما قرّرت لطيفة العودة إلى منزلها، ولو فوق الردم. ومع لطيفة، عاد أولادها، ووالدتها أيضًا. 

رسم رائد شرف

عودة إلى المنزل المدمّر

تبرّع شاب بنقل الأسرة إلى مشارف النصيرات في سيّارته، ولم يستطع التوغّل في المنطقة أكثر بسبب تدمير الطرقات وحجم ردم المنازل الهائل في كلّ المنقطة. سارت لطيفة ووالدتها وأولادها ألف متر بين الأشلاء والجثامين.

وصلت الأسرة إلى أطلال منزلها، وجدوه قد دمّر بالكامل باستثناء غرفة صمدت. صلّت لطيفة ووالدتها صلاة العشاء، ثمّ استعدّ الجميع للنوم ملتصقين بعضهم ببعض.

طلبت لطيفة من أولادها عدم إيلاء اهتمام لصوت الـ “كواد كابتر” (نوع من المسيّرات القنّاصة خبِرها الغزّاويّون خلال هذه الحرب). وكان الإرهاق والخوف حاضرين، ومعهما روح الدعابة الغزّاويّة التي لم تُهزم هي الأخرى. فقبل أن يستسلم للنوم، سأل طه أمّه بقلق: “احنا متأكدين لو استشهدنا نروح الجنة؟”، فردّت: “إن شاء الله يمّا. انتوا رايحين ع الجنّة لأنّكم أطفال قاصرين، لكن الخوف عليي وعلى ستّكم”. إجابة لم تعجب الجدّة فقالت بجدّيّة لا تعوزها خفّة الدم: “ليش يمّا لطيفة أنا شو عاملة، قالولك عني أبو لهب ولّا أبو جهل؟” ضحكت لطيفة وأمّها من قلبهما، وقبل أن تنتهيا من الضحك الخارج من قلب متعب، نام الأطفال مطمئنّين على صوت ضحكات أمّهم وجدتهم، ونامت السيّدتان محيطتين بهم، نومًا عميقًا وهانئًا.

استمرار التمرّد على الإبادة

“خبط وضرب وقصف، بس نمنا ملء جفوننا، نمنا وصحينا الصبح رتّبنا الغرفة ورتّبنا الحوش (فناء المنزل)”، وفي الدار الذي كان بلا جدران، وقد سقطت أجزاء من سقفه، وجدت لطيفة مؤونتها التي تركتها، لم يمسّها ضرر، من رز وطحين وعدس. 

وتوالت الأيام، وصار الناس ممّن يأتون لأخذ شيء من أغراضهم، يُفاجؤون بوجود الأسرة: “أم حامد في دارها، معقول؟” يتساءلون، وينتشر الخبر. كانت لطيفة تردّ على من يستغرب رجوعها إلى المنطقة: “العمر واحد والرب واحد”. جارة أخبرت أخرى، وجارة جرّت أخرى، امتلأت الحارة بأهلها من جديد. لم تكن الحارة أخطر من أي حارة أخرى كان قد أوى إليها النازحون، ولا أكثر أمنًا، طالما أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية شاملة على كلّ غزة، وضدّ كلّ بشرها: “يصير قصف وضرب ونشيل بعضنا، بس عمّرنا حارتنا، 27 بيت اجتمعنا، ومرّة على مرّة صاروا يقولوا النصيرات فيها حياة، مع أنّ الاحتلال كان يقول ممنوع الرجوع”. وفي هذه المرحلة، كان جمع الأشلاء بمثابة “واجب” شبه يوميّ لولديها الشقيقين موسى وطه. فكلّما سمعا مواء قطّة، عرفا أنّ هناك أشلاء متروكة، وهرعا حاملين أكياسهما البلاستيكيّة لجمعها ودفنها.

الاستهداف المباشر

في هذا الفصل من المواجهة، بين إرادة أصيلة من أجل ما يستطاع إليه سبيلًا من الحياة، وبين الإبادة، كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصرًا في أحد أيام شباط 2024، وكانت حنين تلعب وموسى مع أطفال الحيّ، وكانت لُجين مع طه على الطريق عائديْن من تعبئة المياه، وكانت لطيفة ووالدتها على سجّادة الصلاة تكاد تفرغ من التشهّد، حين دوّى صوت الصاروخ الأوّل: “يمّا!”، صرخت حنين، فردّت لطيفة: “الله حاميك يمّا”، وأنهت تشهّدها. ومع الصوت الثاني، انهالت قذائف الفسفور الأبيض²، وامتلأ الجو بالدخان. حُجبت الرؤية، ثمّ جاء القصف الثالث: “يمّا أخوتي كلّهم انقصفوا”، سمعت الأم ابنتها الكبرى لُجين تصرخ. حدث كلّ هذا بفارق ثوانٍ. 

وفي هذه الثواني عينها، كانت حركة لطيفة ثقيلة، إذ آذى عصف الانفجارات جسدها، وأصيبت في ركبتها: “بالقصف الثالث، رمونا ببرميل متفجّر³. كنت أمشي وأسقط”. بحثت لطيفة عن والدتها وفي بالها: “أمّي أمانة عندي، كيف أعيش وأمي تستشهد”. كانت والدة لطيفة تجهد لالتقاط أنفاسها، لكنّها بصوتها الهادئ كعادته، خاطبتها: “أنا يا لطيفة منيحة. يمّا أولادك.. شوفي أولادك”. 

هرعت لطيفة ووالدتها، وخلفهما الأولاد، بحثًا عن حنين وموسى. كانتا تمشيان على أشلاء، وجثث كأنّها النار من شدّة حرارتها، لا تريان شيئًا، لكنّهما تهروِلان باتّجاه مصدر الصوت، كان هناك أطفال يئنّون، ولطيفة تدقّق في الأصوات، باحثة عن صوت أحد طفليها: “من بعيد، شفت بنتي مرميّة ودماغها خرج من جمجمتها، وعلى جسدها أشلاء كذا طفل.. ولقيت إبني موسى، مغيّم وكلّه أسود وشعره رايح ودم، كلّه دم، وعظمة صغيرة طالعة من رأسه”، تحكي لطيفة. 

وتتابع: “أوّل ما اطّلعت فيهم، أوّل ما شفتهم، قلت: اللّهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها”. تمتمت لطيفة دعاءها، وهرعت إلى طفليها. حرّك موسى يده، وبدا كأنّه يحاول أن يطرد الدم عن عيونه، أمّا حنين، فأخذها المسعفون على أنّها شهيدة. كان الحدث كبيرًا بحيث لا مجال للاستسلام للمأساة. رأت لطيفة ابنتها تسحب وقد لفّت بقطعة قماش، والمسعفون ينعونها “لا إله إلا الله”. عضّت على جرحها، ولم تدع قلبها الذي أحسّت كأنّه يقع من مكانه، أن ينهار أمام الأمهات الثكالى، وبينهنّ من خسرت كلّ أولادها للتوّ. أخذت لطيفة بكيس بلاستيكيّ، وبدأت تجمع أشلاء الأطفال مع المسعفين، وتبعها طه وحتّى موسى، رغم إصابته، والشظايا في رأسه، على عادته القديمة. 

رسم رائد شرف

وداع حنين.. وعودتها من الموت

مع الفراغ من جمع الأشلاء، قرّرت لطيفة توديع ابنتها بما يليق بالفجيعة. حاولت الدخول إلى غرفة برّادات الموتى، لكنّها مُنعت: “قال لي (أحد العاملين الصحّيين) يا لطيفة استنّي وما تفوتيش، قلتله أمانة ما تدفنوها إلّا لمّا أشوفها، أمانة برقبتك.. سكر الباب وقلّي ماشي يا اختي”. عادت إلى منزلها، وكان الغروب قد اقترب: “أنا والستات اللي راحوا أولادهن، قعدنا نواسي ببعض”، وكثيرة هي المسؤوليّات التي تحمّلها لطيفة لنفسها، لكنّ في مقدّمتها احتضان الناس وتعزيز صمودهنّ، كانت هكذا في كلّ أيام الحرب، ولم يكن اليوم مختلفًا. أذّن المغرب، ولطيفة – الصائمة – بانتظار توديع ابنتها: “يمّا جابوش حنين”، تقول لوالدتها، فتردّ عليها: “خلص يمّا، احتسبيها عند الله”، وتجيبها لطيفة بحزن رصين: “يمّا بس بدي أشوفها، والله ما شفتها يمّا، بس يخلوني أضمّها، بس أشبع منها”. 

كان ابن أخيها هو الموكل من قبل زملائه المسعفين إبلاغها بموعد دفن حنين لتودّعها قبل أن يغلقوا القبر عليها. وقد اختارت لطيفة لابنتها أن تدفن في قبر جدّتها لأبيها، لعدم توفّر القبور ومساحات للدفن. وفي المقبرة، كانت حنين قد وُضِعت في القبر بالفعل، وقد بدأ عمّها بإحضار أكياس لأشلاء شهداء، وكان قد وضع كيسين ولمّا ذهب العم لإحضار الكيس الثالث، عاد على صوت حنين التي استيقظت وحدّقت بجثّة جدّتها، وصرخت، حتى ملأ صراخها كلّ المقبرة. عادت حنين إلى الحياة، وعاد ابن أخ لطيفة إليها حاملًا البشرى: “فجأة بدق الباب عليّ، ابن أخوي، يقلّي يا عمتي حنين اتحرّكت وهيّاها بالعمليات”.

“جريت إلى المستشفى، طبعًا فش مواصلات، ورجلي مصابة، صرت أمشي وأعرج”، سارت لطيفة تجرّ قدمها لمسافة 4 كيلومترات. وما إن وصلت المستشفى حتّى وجدت أملها يكاد يتحطّم مرّة أخرى: “ادعيلها بالرحمة، لعلّ موتها يكون رحمة لها، حنين لو عاشت رح تعيش دون كلّ أو أغلب وظائفها الحيويّة”، كانت كلمات طبيب الجراحة لها. “راضية، والله راضية، بس تعيش”، ردّت لطيفة. وانصرفت إلى مناجاتها: “رحت ع مصلّيتي، قلتله يا رب والله راضية، بس إلي طلب من عندك، بدي بنتي تشوف، تشوفنا وتشوف أخوتها”. 

ظلّت حنين في غيبوبة اصطناعية لثمانية أيّام، ولمّا أراد الأطباء إيقاظها، حملت لطيفة مسبحتها، وهي ذات المسبحة التي هرعت بها إلى ابنتها لمّا أحست عليها تريد أن تفتح عيونها، حرّكتها أمامها، فتحرّكت عيونها معها. اطمأنّت لطيفة على بصر ابنتها، فسجدت شاكرة، ثم عادت ورفعت رأسها. نظرت الابنة إلى أمّها نظرة استغاثة، وبادلتها لطيفة بنظرة حنوّ. أكمل الأطباء إجراءاتهم، وكانت حنين تستجيب لكلّ المحفّزات، حتى أنّها وقفت، وسارت، ورفعت يديها كما طُلب منها. الفتاة بخير، وبصحّة وعافية، لولا فتحة في جمجمتها تشهد على إصابتها، وهو ما أعدّه الأطباء معجزة بكى بعضهم بسببها، كما تروي لطيفة. حصلت حنين على رعاية صحيّة مميّزة، بفضل كفاءة الأطباء في مستشفى شهداء الأقصى في غزّة. حتى نُطقها، الذي شابه خللٌ في الأيام الأولى، بدأ يتعافى تدريجيًّا. وذاكرتها التي خسرتها بسبب الإصابة، بدأت تستعيدها مع مرور كلّ يوم. بقي أنّها بحاجة لعمليّة زراعة عظام في الجمجمة، من غير الممكن إتمامها في غزّة، مع التدمير الممنهج للقطاع الصحيّ فيها على يد الاحتلال. وهنا بدأت إجراءات تهدف لتسفير حنين بشكل عاجل، ضمن اللوائح الطبيّة التي كانت قادرة على الخروج من معبر رفح، قبل احتلاله.

رسم رائد شرف

آخر الرحلة

حملت لطيفة أطفالها إلى منزل صديقة لها، لتستطيع تقديم الرعاية المطلوبة لهم فيما ظلّت والدتها مع ابن أخيها. مرّ 17 يومًا، قبل أن يبدأ تقدّم جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو المنطقة. 

سمعت لطيفة بالخبر، فنادت على جارها: “يا جار، لوين وصلوا بالدبابات؟” فلم تلقَ جوابًا. في هذه الأثناء، غافلها ابنها طه، وصعد إلى السطح، وإذ به ينده: “يمّا الدبابات وصلت راس الشارع”. 

دقائق قليلة، وغيّمت الدنيا، من دخان الدبّابات، وقد وصلت دبّابة إلى البوّابة الرئيسيّة للمنزل. حوصرت الأسرة داخل الدار، تحيط بها أسوار عالية لا طاقة لهم بتسلّقها، رغم أنّ من شانها أن تخرجهم إلى منطقة أخرى، تحتاج الدبّابات لسلوك طريق طويل للوصول إليها. وفجأة بدأ قصف مدفعيّ عشوائيّ على المنطقة، وأصابت قذيفة أحد أسوار المنزل، مخلّفة فتحة فيه. 

سارع الأولاد، ومعهم أمّهم، يوسّعون الفتحة بأيديهم، خرجوا منها، وبدأوا الركض، لئلّا يقعوا بيد الاحتلال، ولم تكن الأم تخشى على أولادها من الموت، قدر خشيتها عليهم من الاعتقال، وما يصاحبه من تنكيل وتعذيب لا طاقة للأطفال به. وزّعتهم لطيفة، بتعليمات واضحة. لُجين مسؤولة عن موسى، ويركضان على يمينها، بعيدين عنها 30 مترًا، وحامد مسؤول عن طه، ويركضان على يسارها، وحنين في حضنها. 

نفس طويل لمقاوِمة جبّارة

نصل هنا إلى حيث بدأت قصّتنا. ركضت الأسرة مئات الأمتار قبل تدمير المنزل. وتدمير المنزل كشفهم لأعين الجنود الذين بدأوا بإطلاق الرصاص، لكنّ الأسرة كانت أسرع من الموت الذي يلاحقها. بعد نصف ساعة من الركض، وصلت الأسرة طريقًا عامًا لم يبلغه الاحتلال بعد. استأجرت لطيفة كارة (عربة يجرّها حمار)، أخذتها إلى دير البلح، حيث باتت في خيمة لليلة واحدة. في الصباح التالي، جاءها اتصّال من  الهلال الأحمر الفلسطيني، يحدّد لها موعدًا للخروج عبر معبر رفح لعلاج أولادها. وحملت لطيفة إصابتها وإصابات أولادها، وأخطرها في رأس ابنتها حنين. وانتقلت إلى مصر، في رحلة لم تخلُ من المصاعب والتحدّيات الخاصّة. ولاحقًا، وصلت الأسرة بيروت، ضمن مشروع صندوق غسّان أبو ستّة للأطفال، لنقل وعلاج الأطفال جرحى الحرب. 

وكانت كلمات والدة لطيفة على الهاتف حاسمة في قرارها الخروج من غزّة: “أمي قالتلي روحي واتوكّلي على الله، إلهم عمر أولادك يمّا”. 

تجلس لطيفة في سكنها اليوم في بيروت، تطبخ لأولادها ما يغذي أجسادهم، وتأخذهم إلى مواعيد الأطبّاء، وتداوي إصابة قدمها، لكنّها حرّمت على نفسها أن يرتاح قلبها، أو أن تستمتع بطعام أو شراب، طالما أنّ غزّة، غزّتها، تحت الحرب: “أنا ما كانش على بالي أترك أهلي وأرضي ووطني، بديش يعني”، تقولها بحزم. تغصّ بكلماتها وهي تقول: “بعتبر حالي خاينة إنّي سِبتهم، مع أنّي بحاول أعيّش أولادي، بس بحس بالتأنيب، ليش أنا منيحة وهما مش مناح.. ليش أنا بأمان وهما مش بأمان”. 

بالتأكيد، ليست لطيفة سيّدة عاديّة، جبلت غزّة في روحها، وذابت فيها. هي صاحبة قضيّة، مستعدّة للتضحية من أجل قضيّتها. تتابع أخبار غزة ثانية بثانية: “وتصلني أخبار الموت، لكن لي فيها أشخاص، أصلّي ليل نهار كي يحميهم الله من كلّ مكروه، ولو استشهدوا، فلن يكون لي طاقة بتحمّل سماع خبرهم”. 

ما يميّز قصّة لطيفة، أنّه كان لها مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى. على الهاتف، وتحت التهديد المباشر. بعد هذه الحادثة، لم يكن لها أن تختبئ عن أعين من يراقبها، ومن تعمّد قصف أولادها، بعد أن رفضت التعاون معه ضدّ أهلها وناسها. لم يكن للطيفة أن تختبئ بعد تلك المواجهة، فسارت بها حتى النفس الأخير، ولعلّها انتصرت. وتعدّ اليوم الساعات والليالي، كي تعود إلى أرض المعركة، ويبدو أنّ نَفَسها الذي أعانها في كلّ مرّة ركضت فيها، ضمن مشوارها الطويل، سيكون نفسًا طويلًا جدًّا: “لأنّنا شعب جبّار، وسنبقى نقاوم، حتى التحرير الكامل، وهو يقين في قلبي”، تختم لطيفة شهادتها. 

___________________________________________________

¹ اختارت لطيفة الأسماء الواردة في النص كأسماء بديلة وفضّلت عدم استخدام الأسماء الأصليّة خوفًا من أن تضرّ شهادتها بأحبّاء لها هم اليوم أسرى في المعتقلات الإسرائيليّة

²وثّقت منظمة العفو الدوليّة استخدام الجيش الإسرائيلي لقذائف الفسفور الأبيض المدفعية في المناطق المدنية المكتظة بالسكان في غزة، وبدوره قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن الجيش الإسرائيليّ وجه أكثر من 1000 ضربة قذائف مدفعيّة تحتوي على الفسفور الأبيض في مناطق مأهولة بالسكان في الأسابيع الستّة الأولى من الحرب.

³تحدّث صحافيّون وتقارير إعلاميّة عدّة خلال الحرب الحاليّة عن استخدام الجيش الإسرائيلي للبراميل المتفجّرة في استهداف المدنيّين وبيوتهم في غزّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، الحق في الصحة والتعليم ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني