“كانت غرفة المستشفى مظلمة، تحلّق ستّة جنود حولي مدجّجين بأسلحتهم، على جباههم كشّافات إضاءة تعمي النظر، ومعهم كلبين شرسين، وأنا على السرير، عظام قدمَي تفتّت، وجسدي نخرته الشظايا، وبجانبي، عبودي وحمودي، طفلاي. وكل ما أفكّر فيه هو: كيف أحميهما الآن؟”. حوصرت عزّة (33 عامًا) مع ولديها في مستشفى ناصر في غزة، منتصف شباط 2024، بعد رحلة طويلة من محاولة النجاة المستحيل وسط الإبادة. وشكّل هذا الموقف لحظة المواجهة بينها وبين جنود الاحتلال الإسرائيليّ.
قبل هذه المواجهة، خاضت عزّة جُلجلة يصعب وصفها للهروب بطفليْها من الإبادة الإسرائيلية، وفي كلّ قرار اتّخذته، كان هاجس كيفية حمايتهما محرّكها الوحيد.
وعزّة، سيّدة فلسطينيّة وأمّ للتوأم محمد وعبدالله (5 سنوات) تدلّعهما حمّودي وعبّودي، لم تتعرّف على غزّة إلّا بعد زواجها قبل حوالي 10 سنوات من أحد أبناء القطاع، هي التي ولدت وترعرعت في السعودية حيث كانت تعيش أسرتها. في خضمّ الحرب، وجدت نفسها المسؤولة الوحيدة عن سلامة طفليها، حيث كان الزوج، أحمد، وبحكم عمله الإنسانيّ، مسؤولًا عن خيمة كبيرة لإيواء النازحين بمنطقة “السطر الغربي” في خان يونس. وللأم علاقة خاصة بولديْن أنجبتهما بعد 5 سنوات من العلاجات الطبيّة. كانت تربّيهما، وتُلاعبهما، مع تحدّيات الموازنة بين الدلال والحزم. جاءت الحرب، لتفرض تحدٍّ جديد: البقاء على قيد الحياة.
انتقلت الأسرة إلى منزل أوسع مع مساحة كبيرة للعب في الأوّل من تشرين الأوّل. لكن مع الحرب، بدأت رحلة النزوح. كانت عزّة تأخذ قرارًا تلو الآخر، تبحث عن المستحيل، تحاول أن تحمي ولديْها، وأن تجد لهما بضعة أمتار آمنة لم تجدها في طول الشريط الساحليّ الفلسطيني وعرضه. من منزلها في النُصيرات، إلى منزل أسرتها في خان يونس، ثمّ خيمة زوجها في شارع 5، إلى مدارس رفح، وقبلها مدارس النزوح في النُصيرات، جرّبت عزّة كلّ السبل، لكن أينما توجّهت، كانت تجد جحيم القتل الإسرائيليّ الشامل ضدّ السكّان في استقبالها، وكان الخوف يكبر في قلبها. حتّى بعد أن استهدفت أسرتها، ومكثت في المستشفى جرّاء إصابات خطيرة، لحق بها القصف، والحصار، حتّى اجتاح جنود الاحتلال المستشفى.
والغارة الإسرائيليّة قدرٌ لا مهرب منه، فأين يفرّ الناس في وجه الوحش الذي يلاحقهم مطبقًا حصاره جوًّا وبرًّا وبحرًا عليهم؟ والإصابة، مع جهود المنظّمات التي تعمل تحت الغطاء الطبّيّ الإنسانيّ، لإخراج ولو قلة من المصابين وسط عوائق جمّة، السبيل الوحيد لإخراج الأسرة من بين فكيّ هذا التوحّش. فهي لو لم تصب، لم يكن ليُسمح لها يومًا بالخروج. اليوم، ترقد عزّة في بيروت، بعد أن وصلت مع ولديها ضمن مشروع صندوق غسّان أبو ستّة للأطفال المعنيّ بنقل وعلاج الأطفال المصابين ومرافقيهم. ونستكمل معها سلسلة “شهود على الإبادة”، من خلال توثيق شهادتها، وكتابة قصّتها، جُلجلتها الخاصة.
عودة إلى الأوّل من أكتوبر
انتقلت الأسرة إلى بيت جديد في النصيرات شمال القطاع قبل أسبوع واحد فقط من الحرب: “منزل على السطح، أمامه فسحة للعب الأولاد. كنت أخطط أن أركّب لهما المراجيح”. كانت الأم منذ البداية إذًا، مسكونة بابتداع مساحات لعب لطفليها.
تستذكر عزّة: “يوم كنت متعبة من أعمال تهيئة المنزل الجديد، وكان الوقت يقترب من الغروب، طلبت من عبودي وحمودي الخروج للعب على السطح المسوّر والآمن لهما، لعلّ جسدي المتعب يرتاح بهدوء”. تبتسم وتتابع: “غضبا من تصرّفي، وهما لم يألفا إبعادي لهما ولو لربع ساعة. تآمرا ووضعا حجرًا كبيرًا أمام الباب لمنعي من الدخول أو الخروج، كرسالة احتجاج”، كان الطفلان شقيّان، وكانت عزّة تحبّ هذه الشقاوة.
كانت مشاكل الأسرة من هذا النوع العاديّ جدًّا، والجميل جدًّا في ذاكرة الأم: “وكنّا بعيدين عن السياسة، بحكم نشأتي في خارج القطاع. كنّا بحالنا، وحتى علاقاتنا محدودة”، إلى أن وقعت حرب الإبادة.
في الأيّام الأولى من الحرب: “كان القصف لا يهدأ ليل نهار، ولأنّنا في الطابق السادس، كان البيت لا يتوقّف عن الاهتزاز”. وحديث عزّة عن “الخوف” حتى الفزع، يبدأ مع اقتراب القتل الإسرائيلي الذي لا يميّز أحدًا: “بدأت أفقد الناس، صاحب الدكان استشهد، تدّمر المحل بآخر السوق وصاحبته استشهدت مع أولادها. بلّشت أخاف”. ويوم 13 تشرين الأوّل، أقنعتها والدتها بضرورة النزوح “لأنّ حاجيّات المنزل بدأت تنفذ ولن يكون آمنًا ترك الأولاد وحدهم للبحث عن طعام”. اتّخذت عزّة القرار: “ونزحت بشنطة صغيرة فيها بضعة كتب ولعبتين للطفلين والقليل من الملابس، ذهبت على أساس أنّها ستكون رحلة مؤقّتة”.
كان النزوح إلى خان يونس ثاني قرارات عزّة، بعد قرار الصمود 5 أياّم، وفي الحالتين “كان همّي طفلاي، وكيف أحميهما”.
تتالي القرارات المستحيلة
صعُب الحال على عزّة في خان يونس: “ما في أكل، المخازن الغذائية فارغة. ينام أخوتي 3 أيام في الشارع لتعبئة غاز صغير للطهي. نخرج منذ الصباح لنجول على المساجد لعلّنا نجد الكهرباء لشحن هواتفنا. والبيت صغير، والعائلة كبيرة، كانت المعاناة اليومية كبيرة جدًا”.
وفي هذه الفترة، بدأ البرد يشتدّ: “وما في لبس”. كانت رؤية عزّة لولديها يرتجفان بردًا، أكثر ممّا تستطيع أن تقبل به، رغم الموت المحيط بهم. استغلت الأمّ ساعات النهار القليلة التي حدّدها جيش الاحتلال للغزّاويّين كي يغادروا الشمال، وسارت بولديها إلى النصيرات، عكس حركة النزوح حينها، في رحلة عودة وسط النزوح الكبير، وهدفها محدّد: “جلب الملابس الشتويّة للأولاد”، لا أكثر. وصلت النصيرات مساء، وكان الوضع هادئًا، سألت من كان هناك: “كيف الوضع؟” فأجاب الناس: “هادئة، والحي يعجّ بالنازحين”. وتضيف: “كانت المنطقة خالية من المقاومين، وبعيدة عن محاور القتال”. تأخُّر الوقت وتقييمها للوضع، دفعاها للنوم في منزلها الذي اشتاقت إلى راحتها فيه، واشتاق أولادها إلى اللعب بين غرفه الواسعة.
“عند الساعة 11:30 ليلًا، سمعتُ صوتًا مرعبًا لطائرة واهتزّ المبنى بأكمله، ثم قصفت، استهدفت جيراننا. هلعت، ولم أستطع استيعاب الموقف أو تحمّل مسؤولية طفلين بين ذراعيّ والنار في الطوابق الأولى من المبنى. انفتح الباب الذي يؤدي إلى الشرفة بفعل الانفجار، وكاد يسقط علينا. في تلك اللحظة، كان جيراننا محاصرين خلف بابهم المغلق، وبدأوا بالصراخ. لا أدري كيف، ولكن الله منحني القوّة لأخلع الباب، رغم أنّهم هم حاولوا ولم يتمكّنوا من ذلك، وبينهم فتيان أشدّاء”. أنقذت عزّة جيرانها من الحريق وهي تحمل طفليها، وكان طريق خروجها من المنزل، محاطًا بالنار وبالجثث المشتعلة، وبين الجثث، وجوه جيران لها، وجثة طفل كان بعمر ابنيْها محمد وعبدالله، شعرت أنّ نظراته تلاحقها وهي تهرب من النار.
“ارتعبت بشكل لم أشعر به من قبل”، تقول عزّة.
قررت الأم الشابة النزول إلى مدرسة للنازحين، على أمل أن تكون آمنة. وفي الصباح، دفعت 500 شيكل، هي كلّ ما كان في حوزتها، أجرة سيّارة تنقلها إلى خان يونس، ورغم ضخامة المبلغ “شعرت بأنّه الثمن لحفظ حياتنا”.
“وين نروح؟”
أوصلت عزّة ما استطاعت أخذه من ملابس شتوية مجبولة برائحة الموت والنار، إلى بيت أهلها، ومضت إلى رفح، بحثًا عن مناطق آمنة: “من الصباح إلى المساء وأنا من مدرسة إلى أخرى، لكن لم أجد مدرسة واحدة تستوعبنا. كان الوضع في المدارس هناك حزينًا للغاية، والناس بالكاد يعيشون. وفي النهاية، قال لي السائق إنّه سيعود إلى خان يونس، فقرّرت العودة معه والبقاء في بيت أهلي”.
توجّهت عزّة في الأصل إلى رفح بناء على اقتراح زوجها الذي نصب خيمته الإغاثيّة بشكل متّصل مع مدرسة في آخر شارع 5 الذي كانت تتخوّف منه عزّة “فهو شارع معروف بأنّ نصفه كان تحت سيطرة الصهاينة”. لاحقًا، خاطرت عزّة بالتوجّه إلى خيمة زوجها: “قال لي زوجي أنْ آتي نحوه، فتوجّهتُ إليه وفي نيّتي أن أخبره أنّنا قادمون إلى الخيمة. ركبت على الكارة (عربة يجرّها حمار)، وكان يقودها رجل مصاب. لم ألاحظ إصابته في البداية، لكنه كان مصابًا من القصف الذي حدث قرب المدرسة حيث يتواجد زوجي. أدركت هذا عندما وصلت إلى هناك”.
تضيف عزّة: “لمّا وصلت، كان القصف شديدًا، عشوائيًا، والقنابل والقذائف تتساقط في كل مكان. سيطر الرعب عليّ. وقلت للسائق: ‘هل كنت تعلم أنّ هذه المنطقة بهذا الوضع؟ لماذا أحضرّتني إلى هنا؟’ اضطررت للعودة من منتصف الطريق، وعندما وصلنا إلى وسط خان يونس، شعرت بشيء من الطمأنينة. اتّصلت بزوجي وقلت له: “كنت قادمة إليك لأبلغك بقراري الانتقال إلى الخيمة، لكنني لم أتمكّن حتى من رؤيتك بسبب القصف المحيط”.
تختصر عزّة كلّ حكاية التشرّد والنزوح، بالعودة إلى سؤال “وين نروح؟” الذي يطبع حياة الغزّاويّين منذ بدء الحرب. وتقول “أكثر ما كان يثير الرعب هو أنّه لم تكن هناك منطقة آمنة. في النصيرات كان الوضع مخيفًا جدًا، وفي خان يونس لم يكن الوضع أفضل. وفي رفح أشبه بيوم البعث”.
“صاروخ سيدخل من باب سيدي”
حدث كلّ ما سبق في الأسبوع السابق لليلة 24-25 كانون الأوّل: ليلة الغارة. “واليوم الذي قُصفنا فيه، كان يومًا عاديًا. كنا نُنقّي القمح لنصنع الطحين لأنّه كان معدومًا في المدينة”. وسط جمعة العائلة على تنقية القمح، فتحت عزّة باب السطح لأولادها ليلعبوا. قال لها بعض أهلها: “يا عزّة، لا تصعدي إلى السطح، كي لا يروا أنّ هناك أحدًا في البيت فيقصفوه”. فأجابتهم بحزم: “لا أستطيع حبس الأطفال في مكان ضيّق ومظلم؛ يجب أن يروا الشمس وأن يستنشقوا الهواء”.
في المساء، عاد الإنترنت بعد انقطاع أسبوع فنزلت عزّة لتخبر أهلها بذلك: “لم أمض الوقت معهم، كان قلبي مقبوضًا وكان لدي شعور داخليّ بأنّ شيئًا سيّئًا سيحدث”. مدّت فراشها، وجاء الطفلان ليناما على ساقيها، كما يفعلان كلّ ليلة “ولكن في تلك الليلة، نهرتهما وأبعدتهما، وهذه كانت رحمة من الله”. مدّت عزّة لولديها فراشًا مستقلًّا: “وفجأة، شعرت برغبة تدفعني لأن أقبّل والدي قبل أن أنام، أن أذهب لرؤيته والحديث معه. لكنّي لم أفعل. وعلى غير العادة، قرّرت الاتصال بأختي. أحسّت بأنني خائفة ومحتارة، فقالت لي: ‘يا عزة، استودعي أولادك و استودعي نفسك’. قلت لها: ‘استودعتهما الله'” في تلك اللحظة، تذكّرت عزّة حينما استيقظ ولدها مذعورًا في آخر أيّام شهر تشرين الأوّل وقال لها: “ماما، هناك صاروخ سيدخل من باب دار سيدي (جدّي) علينا”.
“أذكر كم شعرت بالرعب، لأنّها المرّة الأولى التي يستيقظ ابني من النوم ليخبرني شيئًا كهذا ثم يعود فورًا لينام. لا أعرف إن كان هذا تحضيرًا من الله أو مجرّد وهم؟ أو حديث نفس لدى الطفل بسبب كلّ ما يراه ويسمعه. شرد ذهني وأنا أحلّل الرسالة، ولماذا استيقظ بتلك الطريقة المخيفة؟”، تضيف عزّة في شهادتها.
المجزرة باتت بيننا
كان الضيق يشتدّ على عزّة في تلك الليلة، فأمسكت بالهاتف لكي تقرأ ما فاتها من أخبار خلال انقطاع الإنترنت: “فجأة، وأنا ممسكة بالهاتف، رأيت ضوءًا كبيرًا، ضوءًا أبيض ضخمًا. كنت بين النوم واليقظة، وعندما رأيت الضوء استيقظت. شاهدت شظيّة تدخل من الهاتف وتخرج، وانفجر في يدي. بعد ذلك شعرت بضغط هائل، شعرت أنني متّ. كان الضغط كأنّه سكرة الموت. شعرت أنّني في لحظة الاحتضار، أحاول الصراخ للناس كي ينقذوني، لكن محاولة الصراخ الفاشلة كانت أشدّ رعبًا من الإصابة نفسها. شعرت أنّ الصاروخ رفعني وألقاني مرة أخرى، ثم لم أعد أشعر بشيء”.
هلع الأخوة في الطابق الثالث، ولأنّ الأضرار في بيتهم اقتصرت على تكسّر زجاج نافذتهم، ظنّوا أنّ الانفجار وقع في مبنى مجاور: “استيقظوا، ارتدوا ملابسهم، ونزلوا للمساعدة. وعندما وصلوا إلى الأسفل، انهاروا، لم يتوقّعوا أنّ الإصابة كانت في بيتنا”.
تقول عزة: “حين رآني أخي ظنّ أنّي متّ فألقى بطانية عليّ وانهار. أمّي خرجت ورأت الناس حولنا، بدأت تصرخ: “أولادي! أولادي!” وبدأت تبحث عنّا. دخل الناس وأخرجوني من تحت الأنقاض، سحبوني بالبطانية كما لو كنت ميتة، فقد كانت ساقاي بلا حياة. وضعوني في السيارة، وأخرجوا عبد الله، وكان الناس يستمهلونهم منادين: ‘هناك طفل آخر مفقود’، كانوا يقصدون ابني محمّد، وكنت أسمعهم”. أرادت عزّة، التي كانت تعتقد فعلًا أنّها ميّتة، أن توقف عمليّة إنقاذها، وأن تطالب الجيران بالبحث سريعًا عن محمّد. لكنّها لم تستطع.
في الطريق إلى المستشفى، استجمعت عزّة بعضًا ممّا تبقّى فيها من حياة، لأنّها شعرت أنّ عليها أن تتكلّم لتقول كلماتها الأخيرة: “بلّغوا زوجي، في آخر شارع 5، يجب أن تبلغوا زوجي”. تقول عزّة إنّها لم تكن تثق بأحد آخر كي يعتني بأولادها بعد مماتها. ولكن من كان ليجرؤ على الذهاب من منطقة إلى أخرى في ظلمة الليل وتحت القصف: “ليالينا رعب برعب، لا اتصالات، لا مواصلات، ومُسيّرات تستهدف كل من يتحرّك على الطرقات، لم يأبه أحد لتوسّلاتي”.
شمل الأسرة يلتم
وصلت عزّة المستشفى، ووجدت أنّ الجيران قد أحضروا ابنها محمّد، بعد أن وجدوه تحت حائط انهار نصفه، وحجارة الحائط نفسها، سحقت جسد أبيها، الذي عثر عليه أشلاء، لكنّها لم تعرف أنّه استشهد. لم يرد أحدًا أن يفجع قلبها وهي بهذا الحال. في صباح اليوم التالي، جاء زوج عزّة صدفة إلى المنطقة، حاملًا معه بعض الأدوية للأولاد مثل مخفّضات الحرارة ومضادات حيويّة خوفًا من انقطاعها. عندما وصل إلى شارع البيت، بدأ الناس يقولون له: “الحمد لله على سلامتكم”، فيردّ عليهم “الله يسلمكم”. لكنه لم يفهم لماذا يخاطبونه بهذه الطريقة، حتى قيل له: “أولادك أصيبوا وهم في المستشفى”، لم يستوعب الخبر في البداية، فبدأ يصرخ رافضًا التصديق.
وصل إلى المستشفى وكأنّه كتلة غضب تمشي على قدمين، غضب من كلّ شيء، ينفجر في وجه كلّ من يحاول تهدئته. عندما استوعب الصدمة، سمح له الأطباء بالدخول إلى الغرفة، كان يصرخ بأعلى صوته مطالبًا بإدخال زوجته العمليات بسرعة. تذكر عزّة هنا “طرفة”، وتبتسم، وفي ابتسامتها سخرية من سخف الموقف، أمام وحشيّة السياق: “حينها لم أكن واعية لإصاباتي، لكنني كنت قلقة بشأن حجر صغير عالق في يدي. قلت للطبيب: “من فضلك، بعد ما تُبنّجني، أخرج الحجر”. وإصابات عزّة كانت التالي: فجوة في الظهر، شظايا غيّرت معالم وجهها، وسكنت كلّ أنحاء جسدها، قدمين مسحوقتين فقدتا شكلهما الطبيعيّ وباتا أشبه بقطعتي لحم مهشّمتين تخرج منهما الدماء: “رغم هذا، لم يشغل بالي سوى هذا الحجر الصغير في يدي”. اليوم، يستمرّ العلاج في بيروت، وتحتاج عزّة لإعادة ترميم لعظام قدميها، وزراعة مفصل في الركبة.
في مستشفى ناصر، وفي اليوم التالي للإصابة، قضت عزّة سبع ساعات في العمليات، وعندما أفاقت، اكتشفت أنّ ابنها عبد الله بين المصابين الكثيرين معها في ذات الغرفة: “كان يناديني باستمرار ‘ماما وينك؟’ كنت بجانبه لكن لم أستطع الالتفات لرؤيته، وكان هو أيضًا غير قادر على الالتفات لرؤيتي. كان كلّ ما أستطيع فعله هو الرد عليه وطمأنته بأنني هنا”. أما محمّد فأصيب بكسر في قدمه، وخُلعت عن حوضه، وفقد سنتيمترين من طولها، ما يؤثّر على مشيته اليوم، وسيحتاج لعمليّات لاحقة ريثما ينضج عظمه، بعد بلوغه.
في الأيام الأولى للاستهداف، وقبل نزوحهم إلى رفح، كانت والدة عزّة وأخوتها يزورونها لـ 5 دقائق فقط: “كانوا يظنّون أنني أموت، كانوا يأتون لتوديعي، واستمرّوا بإخفاء استشهاد أبي عنّي ، كانوا ممثلين بارعين برباطة جأشهم”، لكنها تتابع: “رغم ذلك، كانوا لا يحتملون المكوث معي أكثر من دقائق قليلة، 5 على الأكثر، لأنّ شكلي كان مشوّهًا جدًا، كان يخيف الزوّار، والمارّين، وحتى أهلي”.
في ثاني أيام المكوث في المستشفى، كان الهواء في رئتيّ عزّة ثقيلًا، وجهاز الأكسجين لم يكن كافيًا لتخفيف شعورها بالاختناق. طلبت عزّة من الممرّضين أن يخرجوا بسريرها قليلًا لتلتقط أنفاسها، وفي الخارج، رأت ابنها الآخر عبودي، وهو يئنّ من شدّة الألم: “كانت الجروح عميقة في رأسه، ولأنّ إصابته كانت الأخفّ بيننا، كان وحيدًا. وقعت في قلبي حسرة فظيعة على الولد، قلت الله يكون بعونه، كيف قادر طفل يتحمّل كل هذا”.
تسكت قليلًا عزّة، ثم تقول بنبرة تحمل انكسارها: “أنا حاولت بكلّ جهدي احمي الصغار، مش مهمّ أنا.. مش مهم إشي، بس إنّه يكونوا الصغار محميين، يكونوا بمنطقة أمان”. تنهمر دموع الأم هنا لأوّل مرّة خلال المقابلات التي أجريناها معها في إطار توثيقنا لشهادتها، رغم قساوة ومرارة كلّ ما روته حتى اللحظة. تقف عزّة وجهًا لوجه مع حقيقة أنّ جهودها لم تجنّب ولديها بطش الإبادة، وتلوم نفسها.
حصار ثم اقتحام
بقيت الأسرة في مستشفى ناصر، ومع بدء حصاره من قبل قوّات الاحتلال في 22 كانون الثاني، بدأ الغذاء والوقود ينفذان، وبدأت تنتشر أخبار موت المرضى جرّاء انقطاع الكهرباء، واستشهاد مرضى ونازحين بالقنص كما بالقصف المدفعيّ. وعندما جاءت أوامر الاحتلال بالإخلاء على مراحل، منتصف شباط، رفض الأب خوفًا على أطفاله. عزّة عاجزة عن الحركة، وهو عرضة كأي فلسطينيّ للاعتقال خلال خروجه ضمن إجراءات معيّنة مفروضة تتضمّن السير في صفّ طويل، كلّ شخص على حدة، بما يشمل الأطفال، وممنوع الالتفات أو الاتيان بأيّ حركة، ما سيعني ضياع ولديه في فوضى الحرب خارج أسوار المستشفى خصوصًا إذا ما اعتقل. لكن حينما اقتحم الإسرائيليّون المستشفى، رضخ الأب. أمسك بيدي طفليه وسار بخوف، فيما بقيت الأم وحيدة على السرير. بعد ساعتين من مغادرتهم، اعتقل الجنود الأب، وعاد الطفلان لوحدهما. أخبرا عزّة أنّ الجنود عرّوهما مع أبيهما، وأخضعوه أمامهما لتفتيش مهين.
كانت تلك المرّة الأخيرة التي ترى فيها عزّة وأطفالها، أحمد، الأب والزوج. وما زال مصيره مجهولًا، أصبح مفقودًا بين آلاف المفقودين. بعد خروج الإسرائيليّين، عُثر على مقابر جماعيّة في باحة المستشفى. وتعاني عزّة في محاولة تذكّر لون الثياب التي خرج فيها أحمد: “ربّما لأنني كنت منهكة، أو ربما لأنني لا أريد التصديق أنّه ربّما مات. عندما أرسلوا لي صورة لجثمان رجّحوا أنه يعود إلى زوجي، ظلّيت أدقق بالهيكل العظمي الذي عليه كنزة زرقاء، لم أتعرّف عليها، ولا أذكر أبدًا ماذا كان يرتدي”.
عودة إلى لحظة المواجهة
في اليوم التالي لاعتقال أحمد، اقتحم الجنود غرف المرضى. فتّشوا الحمّامات، وكسّروا الأبواب، ثم بدأوا بسحب المرضى واحدًا تلو الآخر. لم يفرّقوا بين أحد، حتى الأطفال تمّ تقييدهم بأصفاد. أخذوا الكثير من الرجال، وأصوات الصراخ كانت تملأ المكان، أحدهم عُذّب بشدّة في غرفة مجاورة، وكانت أصوات استغاثته مرعبة، كأنّها تأتي من عالم آخر.
أحسّت عزّة بالخوف يغزوها من كلّ جانب، أمرت ولديها بملازمة سريرها، ودخل عليها الجنود. كلّ الأحداث قادت إلى تلك اللحظة التي بدأنا فيه قصّتنا: أمّ وطفلان، مقابل 6 جنود وكلبين. لـ 5 أشهر خلت، حاولت عزّة حماية طفليها بكلّ الطرق المتاحة، لكن اليوم، والآن، في تلك اللحظة، من سيحمي من؟ كان الجواب لعزّة واضحًا في ذهنها: أنا أمّهما، أنا أحميهما، وأقاوم الإصابة والعجز لأحفظهما. هذا ما دار في خلدها، لكنّ لسانها خانها: “سألوني: إيش اسمك؟”، فصمتت: “أنا عارفة لو ما نطقتش ممكن يطخّوني، ممكن يضربوني، ممكن انسحب برّا، لكن مش قادرة اتكّلم. الموقف كان مهيبًا لدرجة أنّني مش عارفة أقول إيش اسمي، انخرست، بذلت كلّ جهدي إنّي أعرف اتكلّم ما عرفتش”.
لم يكسر الصمت سوى همسة من عبّودي بعد تكرار السؤال المصحوب بالتهديد والإهانات: “اسمها عزّة”. استكمل الجنود عرض قوّتهم بتحطيم مرحاض الغرفة، وتربيط رجل مشلول وبضعة أطفال، وسحب آخرين لم يعرف مصيرهم. ثمّ انصرفوا.
تصدّى الطفل لمهمة “الحماية” في لحظة الاستحقاق الكبير، وهو حماها، بعد أشهر قضتها وهي تحاول أن تحميه من الوحشيّة الإسرائيليّة التي التهمت القطاع بسرعة. لعلّها مفارقة، أو نتيجة طبيعيةّ للغريزة الإنسانيّة التي لا يعوزها حتى الطفل.
عن اللوم واستحالة النجاة
ولوم عزّة لنفسها هو أقسى ما في قصّتها. بل إنّ السرّ الذي تكشفه هو أنّها كانت ترى في نظرات حتى أقرب الناس إليها، نوعًا من اللوم، بعد أن فشلت في المهمّة. والإشكاليّة هنا، هي استحالة هذه المهمّة، وهي حقيقة تكشف الجانب الأشد رعبًا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. لا تستطيع أمّ، أن تقف وحدها، في وجه عمليّة عسكريّة مصمّمة لسحق الجماعة الفلسطينية التي تنتمي هي وولداها لها. إنّ “جريمة” الأسرة التي كانت تحمل وزرها أينما ولّت وجهها في غزّة، كانت ببساطة: فلسطينيّتها. وفي هذا السياق، يخيّل لك أنّ حتى الهرب، يصبح ربّما عبثيًّا، وهو حتمًا بلا جدوى.
تحتشد المفارقات. قضت عزّة أشهرًا تهرب. اليوم، عرض عليها شقيقها جلبها إلى الولايات المتحدة حيث يعيش، فرفضت واختارت بيروت. عرضت عليها أسرتها الرجوع إلى السعوديّة، أو الذهاب إلى الأردن، لكنّها رفضت. جاءت بيروت، وكان هذا قرارًا آخر تأخذه ويحضر أولادها فيه: “أريد أن تكون رحلتنا مؤقّتة، وأريد أن أعود وإيّاهم إلى غزّة”. عزّة التي جاءت غريبة إلى القطاع قبل عشر سنوات، تقول اليوم: “علاقة غريبة نشأت بيني وبين غزّة في هذه الحرب، لقد خسرت زوجي ومنزلي ولم يعد لي شيء ماديّ أبدًا فيها، لكنّني لأوّل مرّة، أشعر أنّي تركت شيئًا فيها يجب أن أعود من أجله”.
تعي عزّة عبثيّة رحلة الهرب تحت الإبادة. نرى في عينيها غضبًا كبيرًا، ومخيفًا، لكنّه صادق جدًا، وربّما، بديهيّ جدًا. تقدح عيونها بهذا الغضب، لكنّ هذه العيون تحافظ على صفائها وبراءتها، ربّما هي براءة الغضب الإنسانيّ جدًّا، أو هو غضب تلك البراءة، وتقول: “أنا عائدة إلى غزّة، لي فيها حقّي وحقّ زوجي وأولادي.. لي فيها ثأر”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.