في صمت إحدى مقابر غزة، خرج صوت مذعور من بين القبور. صرخت حليمة (6 سنوات) بعد أن استيقظت على وجه جدتها المتوفّاة، معها في قبر واحد. كانت حليمة بحكم الميتة، دماغها خارج جمجمتها، وقضت ليلتها في براد الموتى. عندما نُقلت لتُدفن في قبر جدتها، في ظلّ تخمة مقابر غزة وعدم توفّر مساحات لقبور جديدة. كان الناس يهمّون بإغلاق القبر لولا أنّهم وجدوا بعض المساحة التي يمكن استغلالها لدفن أكياس أشلاء، فأجّلوا إغلاقه بينما يحضرون المزيد منها، تأخّرٌ كان كفيلًا لتستعيد حليمة وعيها، وتصرخ. قصّة حليمة على قسوتها وما قد توحي به من “استثنائيّة” إلّا أنّها تشبه قصص أطفال لا حصر لهم في غزّة، هي شهادة على الإبادة الجماعية الوحشية التي تشنّها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني في القطاع. ومن خلال عيون هؤلاء الناجين الأبرياء، نرى الأركان الكاملة للعنف المُمنهج الذي يهدف ليس فقط إلى محو الأفراد، بل مستقبل بأكمله.
في مساء ذلك اليوم، استهدف صاروخ إسرائيلي منزل الأسرة. أصيب شقيقا حليمة وأمها بجروح خطيرة. وجد المسعفون الطفلة ذات الست سنوات وقد تكسّرت جمجمتها وخرج دماغها منها، وكانت لا تتحرّك فيما يبدو أنّها دخلت في غيبوبة. كان قلب الأم مشتعل على ابنتها، لكنّها لم تمتلك رفاهيّة الحداد، منشغلة بمتابعة إجراءات إنقاذ أولادها الأربعة الباقين. طلبها الوحيد كان: “أمانة لا تدفنوها قبل ما تعطوني فرصة أودّعها”. ولمّا اطمأنّت ظريفة على أولادها، كانت تنتظر بلهفة فرصة رؤية حليمة ولو لمرّة أخيرة، حينها دخل المسعفون على الأم حاملين لها بشرى عودة ابنتها من الموت. نهضت الأم غير مصدّقة للخبر، وشدّت على إصاباتها التي أعاقت حركة قدميها، لتصلّي شاكرة ربها.
اليوم، وفي أحد منازل بيروت، حيث نجح صندوق د. غسان أبو ستة للأطفال في نقلها إلى لبنان للعلاج، تبتسم حليمة وتستعرض برشاقة ما تعلّمته من رقص هو في حقيقته قفزات وتمايلات عشوائية. لم يكن يتوقع الأطباء أن تعيش، وهم كانوا قد قالوا لوالدتها إنّ حياتها قد تكون شاقّة بالنسبة لها، مع خطر تضرّر كافة الوظائف الحيوية بسبب الإصابة الشديدة للدماغ: “ادْعي لها بالرحمة، قد يكون موتها رحمة لها”، قال لها أحد الأطباء.
حليمة هي من ضمن الدفعة الثانية التي تضمّ ستّة أطفال والتي نجح فريق صندوق د. غسان أبو ستة للأطفال في إخراجهم من غزة والإتيان بهم إلى لبنان، بعد الطفل آدم، الذي وصل في آذار الماضي يرافقه عمه. وصلت حليمة وأختها سوار وأخوتها محمد وإبراهيم ومحمود، ترافقهم والدتهم ظريفة. كما وصل الطفلان التوأم محمد وعبدالله ترافقهم والدتهم عزّة المصابة بدورها إصابة خطرة في قدميها وسائر أنحاء جسمها. ويقدّم الصندوق للأطفال ومرافقيهم الرعاية الطبيّة والاجتماعيّة طوال فترة إقامتهم، معتمدًا على التبرّعات.
وقد أتت الإصابات الجسدية الخطرة والحاجة الملحّة للعلاج، بالأطفال واثنتين من الأمهات إلى بيروت، ومعهم شهادات حيّة على الإبادة التي يتعرّض لها أهل غزّة، هي قصصهم الفردية وجروحهم وندوبهم غير المرئية.
في هذا المقال نسلّط الضوء على قصص الأطفال المصابين والناجين، بينما نفرد لاحقًا مساحة لشهادتي اثنتين من الأمهات المرافقات والمصابات في الآن عينه. ونعالج هذه السرديّات كلًّا على حدة، لأنّ الأطفال، وبسبب عدم اكتمال نموّهم النفسيّ والجسديّ، يتحمّلون كامل وطأة الأحداث التي تجتاحهم دفعة واحدة، فتكون قصّة كلّ منهنّ توثيقًا لتفاعلهنّ البريء في مواجهة الإبادة الوحشيّة. في المقابل، كما سنرى لاحقًا مع الأمهات اللواتي عشن تحت وطأة الإبادة الجماعية واضطررن لاتخاذ قرارات مستحيلة استجابة لهذه الظروف القاسية، تعكس قصصهنّ جانبًا إنسانيًّا مختلفًا في مواجهة الإبادة، من دون أن تتمكّن أيّ منهنّ من النجاة مع أسرتها من الاستهداف الإسرائيليّ الشامل لأهل غزّة، حيث أصبن مع الأطفال فيما فُقد الآباء.
إصابات الأطفال
نجح أطباء غزة في إعادة دماغ حليمة إلى داخل الجمجمة، لكن الفجوة التي خلّفتها الإصابة بقيت من دون عظام بسبب عدم قدرة القطاع الطبّي الفلسطيني المُدّمر على استكمال سائر العمليات المطلوبة. اليوم، لا تزال آثار العملية الأخيرة التي خضعت لها الصغيرة في بيروت ظاهرة في رأسها، والضمّادات الجراحية تعانق شعرها، بعد أن احتاجت إلى عملية زرع عظام للجمجمة. وبهذه العمليّة، يكون الصندوق قد ختم الملف الطبيّ لحليمة، وقد اكتمل علاجها. حليمة، هي شهيدة حيّة، وشاهدة على همجية حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على أهل غزة، لكنّها بالنسبة لأمّها، معجزتها الصغيرة.
“شفت ستي”، عبارة تردّدها الطفلة، من دون أن تتذكّر سائر ما حدث لها تلك الليلة. وفي كلام حليمة، حديث عن تنكيل الجيش الإسرائيلي بالفلسطينيين في غزة طوال مدة الحرب، ومشاهدات من الاعتقالات والتجويع واستهدافات النازحين. تأتي هذه الذكريات متقطّعة، ومتناثرة، وتحكي حليمة عنها بانفعال شديد، ويحلّ الغضب محلّ وداعة هاتين العينين، وشعور ثالث يمكن استخلاصه من تقاسيم وجهها الصغير، هو الاندهاش الكبير بحجم الفظائع التي رأتها، يتمظهر من خلال اضطرارها للقسم: “بوقفوا الناس على إجر واحدة كلّ النهار، والله هم هيك بيعملوا، والله”.
يحافظ شقيقها محمود (15 عامًا) على هدوئه، يبدو حتمًا أكبر من عمره، ولعلّ همًّا إضافيًّا يحمله هو صحّته المتدهورة. طوال فترة الحرب، حُرم مريض الكلى من حقّه في الحصول على العلاج مع تدمير الحرب الإسرائيليّة الممنهج للقطاع الطبّي الفلسطينيّ، ما أدى إلى تراجع دراماتيكيّ في صحّته. وتسبّبت الصدمات بإصابته بتجلّط الدم، وظهور نقطة دم على الدماغ (تورّم دمويّ داخل القحف). وكان محمود يعاني من أوجاع شديدة في الرأس وثقل في العيون منذ ليلة الغارة، وحتّى وصوله إلى بيروت. وقد استأنف الفتى علاجه في لبنان اليوم.
ليلة الغارة، غطّى الدم رأس الشقيق الأوسط إبراهيم (9 سنوات) وظنّت والدته أنّه استشهد بدوره، لولا أنّ المسعفين أحسّوا عليه يحاول أن يزيل بعض الشظايا من رأسه. نُقل إبراهيم إلى المستشفى على عجل. وبما أنّ المستشفيات في غزّة تعمل بطاقتها القصوى، وبإمكانيّات دنيا، كان على الطفل أن ينتظر قبل أن يصل إليه الأطباء المنشغلين بحالات طارئة لأطفال يصارعون الموت. وقبل أن يأتي دوره، كان إبراهيم قد نزع من رأسه معظم الشظايا بنفسه، ومن دون أيّ مخدّر.
لعلّ رباطة جأش الطفل ذي التسع سنوات، اكتسبها من مراقبته لعمليّات انتشال الجرحى المستمرّة عقب كلّ مجزرة، فلم يجزع لرؤية الدم يوم وصلت المجازر إلى أسرته وإليه. ولأشهر خلت، كان إبراهيم يخرج مع أخيه الأكبر محمد (11 سنة) إلى الشوارع، يحملان أكياس بلاسيتيكيّة، ويجمعان أشلاء الشهداء. وكان محمد يهبّ إلى المهمّة كلّما سمع صوت مواء قطط لمعرفته أنّها تأتي لأكل الأشلاء، كما يشرح لنا.
أحلام من صنع الإبادة
ورغم أنّ محمد لم يحمل إصابات جسدية من الغارة، إلا أن الشقيقين المقريبين من بعضهما يتشاركان مشاعر الصدمة ذاتها. قبل أن يتشاركا مهام جمع الأشلاء، جمعهما أيضاً شغف لعبة كرة القدم. في أحياء غزّة، مدنها ومخيّماتها، وعلى الشاطئ الرمليّ العريض، تنتشر اللعبة بين الأطفال بقوّة، وينسج أهل غزّة المحاصرين في قطاعهم منذ قبل أن يولد هؤلاء الأطفال، علاقة خاصّة مع اللعبة. لكن للولدّين، فإن كرة القدم أكثر من لعبة، بل حلم احتراف مؤجّل. عاد الطفلان اليوم إلى لعب كرة القدم، لكنّهما يقولان إنّ “غزّة غير”، ويستعجلان العودة.
سوار (15 عامًا) ستّ البيت، واليد اليمنى لأمّها. عاشت الحرب، واعية لها، وقامت بالحمل الثقيل، بعد إصابة أمّها وأخوتها. تتعلّق سوار بالبحر في بيروت، والشاطئ الرمليّ، ولا يعكّر خرق جدار الصوت فوق العاصمة اللبنانية صفو تأمّلاتها أمام البحر: “كيف لو شفتوا بغزّة”، تقول. تبدو الإبنة قد سبقت عمرها بمراحل زمنيّة، وهو استنتاج يمكن أن يقال عن كلّ الأطفال هنا.
في حلم سوار للمستقبل، هي مصوّرة صحافيّة، وفي حلم الأخت الأصغر، حليمة، هي مهندسة في المستقبل. تقول حليمة إنها تريد أن تكون مهندسة، أوّلًا لأنّها “حرّة”، ترد بحزم على من يستفسر منها عن رغبتها، وثانيًا لأنها تريد أن تعيد بناء “دارنا بغزّة”. وتكشف هذه الإرادة، عن معالجة حليمة الطفولية البريئة لتدمير دارها. بوجه التدمير، “سأصبح مهندسة وأعيد بناءه”. لكن مع سوار، الأخت الكبرى، وعي أعمق بعمق الصراع، ووحشيّته. تختار سوار أن توثّق، أن تقوم بدور هي قادرة عليه. فالمشكلة ليست تدمير دارها، بل أنّ هناك جيشًا يدمّره، جيش ينبغي توثيق جرائمه، لتحفظ الذاكرة. وسبب آخر تحكيه سوار، هو رغبة بتوثيق جمال غزّة. هي بالفعل، تجمع اليوم صورًا لغزّة قبل الحرب، شوارعها، ناسها، الأشجار والبيوت والسماء. تقول سوار إنها تريد أن توثق جمال مدينتها في صور فوتوغرافية، وإرادتها هذه، رد أصيل على التدمير الإسرائيليّ لمدينتها، ومحاولة مصادرة مستقبلها، كأرض دمار وإبادة.
يمثّل هؤلاء الأطفال الذاكرة الحيّة لشعب تريد إسرائيل شطبه. لقد غيّرتهم الإبادة إلى الأبد، هذا واقع، لكن توقهم الإنساني إلى التحرّر من قيود الواقع، من أجل الحلم أكثر، يعكس قصّة الشعب الذي مضى على نكبته 8 عقود، ولا يزال يقاوم بوجوده، وبخياله.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.