“لا، ما رح نكون رقم بهيدي الحرب”، بهذه العبارة تختصر ضحى جعفر ابنة مدينة صور إرادتها وتمسّكها بالحياة، كما بوطنها. وهي النازحة بين حوالي مليون و200 ألف شخص، جرّاء وحشية العدوان الإسرائيلي الذي وسّع استهدافته منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023.
يوم قرّرت ضحى وضع حدًّ لغربتها الطويلة خارج لبنان وعزمت العودة إليه “لتعيش بسلام”، تحديدًا في صور “المطرح” الأحب إلى قلبها في هذا الكون، ما كانت لتتخيّل جنون الصواريخ والغارات وهي تهدّ البيوت والمباني فوق رؤوس قاطنيها، وتحرق ليمون البساتين وزيتونها الأخضر، مقوّضةً كلّ مقوّمات الحياة بل حتى سبل النجاة.
لم تأخذ ضحى إنذار إسرائيل بالإخلاء صباح الإثنين 23 أيلول على محمل الجدّ، إلى أن اهتزّ المنزل بفعل غارتين للطيران الحربي على بلدة القاسمية، مطلّ بيتها الكائن في برج رحّال.
“قالولنا عندكن ساعتين، فكّرنا متل العادة عم يخوّفونا، وضلّينا. ماما أكتر شي ما كان بدّها تفلّ، قالتلي بدّن يانا نتخلّى عن الجنوب والمقاومة لحتى يخلّصوا عليهن ونحنا مش رح نخزلن”. ولكن سرعان ما نسف العدوّ الإسرائيلي قرار البقاء، “دق خيّي وقّلي أنا محاصر يا ضحى، 20 غارة بـ 6 دقائق”. تروي ضحى رعب هذه اللحظات: “جنّيت، كل ضيَع منطقة صور عم تنقصف بنفس الوقت، بنفس الدقيقة”. وتحاول ضحى أن ترسم بسيل الدموع والكلمات مأساوية المصاب والفاجعة بعد أن قصفت اسرائيل منازل الجيران من حولها وقتلت أحباء من أبناء بلدتها، وقصفت معظم قرى الجنوب.
وسط النار والركام والدخان شقّت ضحى طريقها وأحفادها الثلاثة وعائلتها الكبيرة المكوّنة من خمس عائلات، لتبدأ جلجلة عذابهم وتستمرّ لأكثر من 15 ساعة وتنتهي في بلدة “البنيه” في قضاء عاليه، حيث احتضنهم أحد أبنائها.
وصلت ضحى “البنيه” بشفاه شقّقها الرعب والعطش إلى ذرّة أمان، ووجه اسودّ أمام هول ما رأت، وكأنها تركت الجنوب زحفًا لا بالسيارة: “ما عرفنا كيف تركنا بيوتنا، ويا ويلي الأتوستراد! متل الخيال، فيلم رعب ما عم يخلص…”
عن رعب “الصمت” وسط هدير الطائرات
“نحنا وماشيين عم يضربوا الضيَع ع جوانب الطريق، الكلّ ساكت”، تقول وهي تكاد لا تصدّق كيف خطف الوجع أصواتهم وكبّلهم كبارًا وصغارًا: “سكتنا.. قديش بكون في ولاد بالنزوح.. صوت ما في! صرخة ما في! بكي ما في..!” وتعترف: “كنا متل اللي خايفين الطيران يسمع صوتنا.. متل يلّي رايح على الجحيم، متل اللي جارّينو على مقصلة الموت..”
“كان في سكوت بيخوّف.. في سكوت بيرعبك، بيقتل!” تقول هذه العبارة همسًا وكأنّها تستعيد الحالة التي كانوا بها في تلك اللحظات وتتابع: “هيدا المشهد ما بنساه، كان إذا جارك بالسيارة بدّو يطلب منّك شي، كنت اسمع بالهمس صوت واطي عم يسأل: “معك شي قنينة مي؟ أو بسكوتة لابني جعان.. الكلّ بصوت واطي وكأنّه خيفانين الطيران يسمعنا”.
تشرد ضحى قليلًا، قبل أن يستفيق صوتها المثقل بحمل ما شهد: “كنّا كلّنا خرسانين، بس دموع عم تنزل”، وتشهق بالبكاء وكالطفلة تشتكي الجدّة: “بتحسّي إنّو الكوكب تخلّى عنّا والبشر كلّها تخلّت عنا.. أكتر شي كان مرعب بنزوحنا هو الصمت”.
“الموت من حولنا”
كنت أتردّد في سؤال ضحى عما رأته على الطريق خوفًا من تأجيج جمر المآسي في ذاكرتها، ولكن بركان الحزن والألم في قلبها ما كان لينتظر أحدًا: “الزهراني انضرب، الصرفند انضرب.. والغازيّة قصفوها 3 غارات… فش ضيعة ع طريق الأوتوستراد ما انضربت، ما في!” تجزم ضحى وتغصّ بالبكاء علّها تخمد النار التي اشتعلت بداخلها، ولكنها تفشل وتتابع: “اللي بيحرق، إنّو نحنا وعلقانين بالسيارات، صرنا بس يمر الطيران ويضرب.. نقول الحمدلله إنّو الضيع عم تنضرب ومش نحنا..”.
وتنفجر ضحى استنكارًا: “تخيّلي! تخيّلي عم نقول الحمدلله زمطنا وهودي الضيع هنّي أهلنا.. وأحبابنا.. راحوا”.
وعن “رحلة العذاب” التي استغرقت 7 ساعات، من برج رحّال إلى صيدا.. تشرح ضحى: “غير الجوع والعطش، ورعب القصف، في ناس كانت عم تنزح مشي وكلّ اللي معها كيس بلاستيك.. شفنا جرحى نازحين، وسوريين ماشيين ع إجرين أكتر من يلّي بالسيارات، ومنن ناس عم يطلعوا بكميونات الزبالة ليهربوا من تحت القصف..”.
وتتابع ضحى: “شفت أشياء ما بيتخيّلها العقل وكأنّه يوم القيامة. ما كنت عم صدّق عينيّ، عدد مخيف نزح، ناس نايمة بالسيارات وناس عالأرض، وناس مش عارفة وين تروح وعم تسأل من وين الجبل ومن وين بيروت، لأن ما بحياتها ضاهرة برّات منطقة صور”.
وبأسى شديد تبكي ضحى الجنوب وناسه وتقول: “عزّ عليّي الجنوب وناسه المدلّلة، كيف هيك؟”، وفجأة تستحضر ضحى العيون التي تآكلت بدموع التيه والقلق وتسرد لـ “المفكّرة” المأساة: شي خرافي، 180 ألف من يلّي كانوا عالضيع الحدودية، نزحوا لعنّا ورجعوا نزحوا معنا.. عشان هيك كان الجو مأساوي”.
وتنقل ضحى معاناة آلاف النازحين: “تخيّلي في ناس ما بحياتها ضاهرة من منطقة صور.. في ناس ما بتعرف تشغّل الـ GPS، توقّفني وتقلّي علّمينا كيف منحط google map لأن في ناس ناطرينا بالمنطقة الفلانية بس ما منعرف كيف بيروحولها”.
لا تخفي ضحى مشاعرها: “بتحّسي بالذنب كيف إنت مأمّنة وعارفة حالك وين رايحة بس هالبشر كلّو مش عارف مصيرو. انت بأمان، بس غيرك بعدو علقان وتركتي وراكي كتير أهل وأحباب”.
تؤكّد ضحى: “في كتير عالم ما بدّها تفلّ، مستصعبة البهدلة.. ابن عمّي قلّي شو بدّي اتبهدل وموت عالطرقات وما لاقي بيت. موت ببيتي أشرف لي..”.
تخلص ضحى بالقول: “شفنا كلّ الرعب الموجود بالكون” وتتساءل: “قدّيش بدّن الولاد لينسوا كلّ هيدا الألم والرعب اللي حسّوه؟”
خطط الطوارئ: روح ودبّر حالك
في الجنوب تركت ضحى كلّ شيء، إلّا ذكرياتها وعشقها لشاطئ صور، وبساتينها، وهكذا احتضنت عائلتها وأملها في العودة القريبة ومضت باتجاه الجبل، تساعد من نجا من النازحين بعد أن التحفت عائلتها سقفًا آمنًا.
“إنّك تحسّي بغربة بوطنك، شي ما بتقدر توصفوا الكلمات.. في ناس هيك كانت تايهة، وانتركت لمصيرها”، تقول ضحى وتشرح “ما يحزّ في نفسها”: “عشر شهور صرلنا بالمحنة، مش محضّرين حالن؟ عارفين يمكن نوصل لهاللحظة كيف تركونا لمصيرنا؟”
وعن خطط الطوارئ تصرخ من ألم الواقع الذي عاشته: “ما في شي، روح ودبّر حالك، كيف هيك؟ مش قادرة استوعب، لهلّق شو صار فينا وكيف تركونا نموت.. ما في مسؤولين، ما في خطة طوارئ ما في دولة.. وين كل شي؟ ما في شي!”
وتلفت ضحى إلى الحصار غير المعلن وخطورة تفاقم الكارثة: “كل قرايبيني وأحبابي ومنهم مسيحيي صور كلن ما تركوا.. بعدن بالحارة. بس إذا طوّل بعد الوضع هيك، صور بتنقطع من كلّ شي.. عم يعانوا من أزمة خبز وغاز ونقص المواد”.