شهادة محام بشِأن اعاقة حقه بدخول السجن: آن الأوان لإدارة مدنية حقوقية


2013-09-30    |   

شهادة محام بشِأن اعاقة حقه بدخول السجن: آن الأوان لإدارة مدنية حقوقية

زياد عاشور
في سجن رومية، الكثير من الحركة والقليل من البركة، اليسير من الضجيج وما ندر من الانتاجية …
حتى في لغة الامن التي لا يدرك الأمنيون غيرها، للأسف، ما كانوا يوماً موفَّقين سوى بالعروض والمواكب والتجاوزات، و ….
حاصلاً على ترخيص صادر عن وزارتي العدل والداخلية، ومزيَّل بتوقيعٍ مزدوج من قبل حضرة المدعي العام لدى محكمة التمييز والمدير العام لقوى الامن الداخلي، تتزوّد ببطاقة تفيد ذلك بوضوح وصالحة لغاية 31/12/2013، كذلك بوضوح، دون محوٍ او حكٍ او حشو، وهي صالحة لزيارة السجون.
متسلحاً بهذا الترخيص، تضع نفسك في خدمة الصالح العام وتَنذر العمل متطوعاً في رحاب المجتمع المدني، والخدمات المتواضعة التي يتم تقديمها للسجناء الذين يعانون ما يعانونه من الاهمال والقهر والحرمان في سجوننا المحصّنة بحصونٍ لم تمنع من تسلل الفساد والمحسوبيات اليها، والتي أفرزت طبقة من الاكثر تهميشاً، الّذين لم يبقَ لهم سوى أن ينتظروا ما يأملونه من ناشطين ومتطوعين في اطار فعاليات المجتمع المدني، الذي يجهد قدر الامكان من أجل تلبية الحاجات والطلبات المادية والمعنوية، القانونية منها والاجتماعية والصحية وغيرها.
“مفعماً” بما هو واقع من حرمان وقهر وظلم، تقرر أن تضع نفسك وامكاناتك وطاقاتك واستثمار جهدك ووقتك في سبيل العمل على محاولة رفع نذرٍ يسيرٍ من هذا الحرمان والظلم الذي تعبق به سجوننا والذي يقبع ثقيلاً على أكتاف وصدور هؤلاء السجناء، والذي يجثم كريهاً على ميزان عدالة هذا الوطن.
اذن بوجود النية والاندفاع، وتوفر الاذن من السلطات، تنطلق متوجهاً الى سجن رومية، متجاوزاً المسافة، وتظن أن الطريق أمامك سالك لتقوم بما استسغته لنفسك واخترته من مهمة انسانية تطوعية متسلحاً بصفة محامٍ أو طبيبٍ أو معالج أو عامل اجتماعي، أو اعلامي أو باحث أكاديمي، و”بطاقة شرف” للدخول الى السجن كما هي موصوفة اعلاه.لا يغير في الأمر ان كنت مكلّفاً من النيابة العامة أو غيرها من المراجع القضائية للكشف على سجين أو على أمر معين ينظر اليه بعين الريبة، اذ تصل الى مدخل السجن الخارجي وتبدأ الجلجلة، بتفتيشٍ دقيق للسيارة والتأكد من كل الاوراق الثبوتية لشخصك وسيارتك، وانتظارٍ قد يطول او يقصر بحسب المزاج او حسب التعليمات او حسب الظروف الأامنية الراهنة، داخلياً وخارجياً، أو حسب العدة والعديد المتوفر، وما الى ذلك من ظروف ومهمّات قد تربك المحيط من حولها ولا تقدّرنا على تسليك أمورنا في ظلها.
مع العلم أنه يمكن أن يصل الامر الى المنع من الدخول عند المدخل الخارجي، او عند غيرها من المراحل والممرات، إذا كان من داعٍ لذلك يتمثل بزيارة مسؤولٍ رفيع، أو هروب سجينٍ ، او تمرد مجموعةٍ محصّنة ومحظية، أو “انتحار” سجينٍ رغماً عنه، او أحياناً ضرورة اتخاذ اجراءات قمعية ضد عصيانٍ ورفضٍ من بعض الضعفاء المسحولين لواقعهم المرير.
بعد ذلك، تتقدم متجاوزاً المرحلة الاولى لتركن سيارتك بعيداً جداً عن مباني السجن وتكمل سيراً على الاقدام، وهو انجازٌ اضافيّ لعملية تنظيم السجن واتخاذ الاحتياطات الامنية المشددة، لتصل الى نقطة تفتيش او حاجز ثانٍ، ومن ثم ثالث ومن ثم رابع، كلها مزودة بسجلات يدون عليها الاسماء ويتحقق من الصفات والوثائق وغير ذلك، ولا تعرف ما الفرق بين كلٍّ منها والآخر، الى أن تصل الى حيث يسمح لك بالدخول عبر بوابة ضخمة تصل بك الى ساحة المبنى، حيث تتوجه تحت مراقبة مشددة من كاميرات وغيرها الى ما يعرف ب “السكانر”، وهنا لا يشفع لك كونك محاميا أو طبيبا شرعيا أو غيرها من الصفات بعدم خلع حذائك، وتفتيشٍ جسديٍّ دقيق، وتفتيش ملفاتك وأوراقك، حيث يجيبك المسؤول عندما تصرح عن صفتك: “تشرفنا وان يكن!”. فيخيل لك للحظة أن السجن خالٍ من المخدرات والحبوب والممنوعات على أنواعها، وان كل هذه الاجراءات هي للحفاظ على هذا الانجاز العظيم وحتى لا يتحول السجن الى مكان للفساد وحتى لا تتأثر بذلك وتيرة برامج التأهيل التي يضج فيها السجن وتملأ يوميات السجناء، يدوم ذلك لحظات قبل ان تعاود ادراكك للواقع المعلوم من الجميع.
بعد ذلك، وان وُفِّقتَ بتجاوز كل هذه المراحل وتمكنتَ من ضبط أعصابك أو كنتَ محظوظاً “بتطنيش” من يسمعون ويدركون بعض انفعالاتك وردّات فعلك، فيُشار اليك بالتوجه الى باب مدخل المبنى المقصود، متطوعاً لتقديم ما لديك لسجناءٍ يرَونَ فيك أملاً باستشارةِ أو خدمةٍ أو علاج أو دواء أو حتى اجابة على سؤالٍ بسيطٍ أو بالأحرى قد تراه بسيطاً، أو أحياناً وسيلةٍ للهروب من واقعهم عبر الحديث أحياناً عن مواضيع تتعلق بما يعتقدونه “عالم الحرية”، واذ يطلّ عليك أحد العسكريين من عرينه عند هذا المدخل عبر طاقةٍ صغيرةٍ ليستلم منك ما لديك من بطاقة او اذن ويتثبت من صفتك وغاية زيارتك، فيتمعن في كل ذلك، ويفكر قليلاً قبل أن ينادي أحد زملائه ليعطيه اذن الدخول الموقّع من أعلى مرجعية قضائية وأرفع سلطة أمنية، وذلك ثابت حتى ادعاء تزويره، ويطلب منه أن يعرضه على ضابط  يقبع في مكتبه ويتنعم بما توفر من تكييف وتبريد، يرمي الطرف من وقت لآخر لما تيسر من كاميرات المراقبة، وهو الضابط المسؤول عن أمن المبنى وأمن عناصره.
يمر الوقت، وقت انتظار قد تحسّه طويلاً أو بالاحرى ثقيلاً لما يتصف من عدم اللزوم وعدم الضرورة وغياب المبرر لإهداره، لولا المشهد الذي تصادفه في جوارك بوجود شاحنة سوق السجناء المقيتة مركونة منذ مدة لا بأس بها أمام مدخل المبنى وفي داخلها سجينين أحدهما واقف بجانب زميل له، أظنه في العقد الخامس من العمر، ممتلئ الجسد، غير قادر على الحركة ولا الوقوف ليتبين لك انه نصف مشلول ومبتور اليد اليسرى يجلس على بطانية على حافة الشاحنة حيث يتدلى نصفه المشلول، ومن حوله بضع عساكر، حائرون، وربما ينتظرون الامر او الاشارة من أعلى، كيف ينقلون هذا السجين الى داخل السجن، ليواجه مصيره وعذاباته، ذلك انك عندما ترى هذما المشهد المهين وترى كيف تتم “عملية تحرير شاحنة سوق السجناء هذه من جسد هذا السجين المعوّق والمصاب”،  يصعب عليك تصور كيف ستتم مساعدة هذا الجسد في التغلب على اعاقته وصعوباته ومشاكله داخل اسوار السجن وجدرانه، ويسهل عليك تخيّل المعاناة التي سوف تكون بانتظاره هناك.
يساعدك تأمل هذا المشهد الاليم على تجاوز الوقت وتحمل ثقل الانتظار، دون ان يزرع في داخلك أثراً معيناً، قبل أن يعود اليك العسكري معلناً “ان الضابط مش فاضي لهيدا، عنده تحقيق” وبالتالي يجب الانتظار حتى يفرغ المسؤول من مسؤولياته، و”لا يمكننا ان ندَعَك تدخل” بالرغم من حيازتك على اذن بالدخول من أرفع المرجعيات.
هنا تسأل، ما قيمة ان يأذن لك كل من حضرة مدعي عام التمييز وحضرة مدير عام قوى الامن الداخلي، بالدخول الى السجن، حكماً لأمر آخر غير “التسلية”، طالما ان الموضوع مرتبط بما يرتئيه هذا الضابط او ذلك العنصر، وهو مبدئياً ملزمٌ بتطبيق القانون وتنفيذ الاوامر الشرعية. الا اذا تمكن هذا الضابط بقدراته الخارقة ان يتبين ان الاذن بالدخول الصادر كما اشرنا اعلاه هو غير شرعي، وهذا يمكن ان يكون موضوع وجهة نظر قابلة للنقاش، وعندها نضع على بساط البحث ما اذا كان حضرة مدعي عام التمييز موفقاً بإعطاء الاذن وهل كان حضرة مدير عام قوى الامن الداخلي مصيباً بتذييل الاذن بتوقيعه وخاتمه؟
وعندها فقط يمكننا افتراضيّاً أن نستنج ان تقصيراً حصل، أو عدم اصابة في التقدير وقع، من قبل حضرة المدير العام عندما أذن بالدخول الى السجن، حيث لم يتم التنبه الى فرضية أن الضابط المسؤول يمكن ألا يكون لديه الوقت لينفّذ ما تمت الاشارة اليه او الموافقة عليه.
وما قيمة ان يشير المرجع المختص، ويضع توقيعه ويدمغ بختمه، طالما ان المشار اليه والمخاطَب “غير المختص” لا يعرف صلاحياته ، وقد أعطى لنفسه شرعية وسلطة مراقبة ومصادقة الاذونات الصادرة عن أرقى وأرفع المرجعيات الامنية والقضائية.
وهنا تجدر الاشارة الى أن ما حصل يمكن أن يصدر عن أي عسكري أو رتيب أو ضابط بناء على تعليمات داخلية او حتى على اجتهادات شخصية او “حس أمني مرهف” في غير مكانه حكماً. هذه “الشرعية البديلة”،  منحها الضابط لنفسه لكي يضع ،على باب مبنى السجن، شخصاً متطوعاً للدخول الى السجن ومتكبداً الكثير من المشاق وتاركاً نِعَم المكيِّفات والملذات الشخصية، وذلك تحقيقاً لغاية لا تبغي الربح “للجميع”، ولا تبحث عن الشهرة ولا تتحصن بالنجوم ولا بالسلاح ولا بالزي المرقط او الوساطات او العلاقات الضبابية او غير ذلك،  متحصِّناً بالقانون والكلمة والحق وبما اختزنه من احساسٍ بالرحمة والعدل، ومتشبِّثاً، لسذاجته ربما، بإذنٍ أُعطِيَ له من قبل المرجعيات المعنية وفقاً للأصول القانونية والادارية.
هنا تقرر أن تسجّل موقفاً رافضاً لهذا الواقع، وتختار أن تضع حدّاً لهذه المهزلة، محاولاً ان تحافظ على ما تبقّى من كرامةٍ واحترامٍ لشخصِك وموقعِك وصفتِك المهنية.
“تبربس بأدبٍ قليلٍ” قليلاً، معبّراً عن غضبك، وتختار المغادرة لتواجه كمّاً أكبر من الحواجز ونقاط التفتيش “الطيارة” حيث تُسأل مجدّداً في كل مرة عن هويتك لتدوَّنَ على سجلاتٍ متعددةٍ ومتكررةٍ ومتشابهةٍ دون معنى، وهو اذ ذاك هدرٌ للوقت والجهود والامكانيات، يضاف الى رصيد الطاقات المهدورة والوقت المبعثر هنا وهناك، والملايين الضائعة آخذة في دربها طاقات الوطن وكرامات البشر وحقوقهم من سجناء وزائرين وعائلات وغيرهم من عاملين ومتخصصين ومتطوعين وما الى ذلك مِمَّن يمكنه أن يساهم في تليين قسوة هذا الواقع وفي انارة ظلماته.
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة المنطق،ً تجاوزاً منّا لهذا السرد من الوقائع وهذا الوصف لمسارٍ من المعاناة الذي لم يقدّر له بقدرة ضابط ان يثمر بدخول السجن، هو كيف انه لم يقدَّر لكل هذه الاجراءات والاحتياطات والجهوزية الامنية، والذكاء الامني ان تشفع للأمن الموضوع في مقدمة الاولويات بعيداً جداً عن حقوق الانسان، فلم تنجح في منع قيام بعض السجناء باحتجاز عسكريين وتهديد حياتهم أكثر من مرة، وفي كل مرة كاد الوضع ان ينقلب كارثياً، كما لم تَحُل كذلك دون هروب سجناء كان آخرهم السجين عبد الَّله الحشَيمي الذي أراد ان يحتفل على طريقته بزيارة معالي وزير الداخلية الى السجن، فقفز قبل أقل من أسبوع فوق خيال جهابذة الأمن والاحتراز دون ان ترصده احاسيسهم الامنية المرهفة، ولا كاميراتهم المتأهبة، ولا الخطط المطبقة بإتقان، ولا العديد المنتشر هنا وهناك في ارجاء السجن ومحيطه؟
وعوداً الى صلب الموضوع، ولنتجاوز التجربة بعينها والتي نتشاركها مع الكثير من المواطنين والزملاء، ولنتجاوز الغضب الذي حرك القلم وأثاره ليقول أنه آن لنا ان نستنتج بيقينٍ وتصميم أنَّ السجون لا تُدار هكذا، وان العلاقة مع المجتمع المدني، بما لديه من إمكانية تواصل مع العائلات لا تنسج بخيوط مرقطة وعضلات أمنية فقط وأسلحة قمعية وسلطة متعجرفة، بل تنسج بأفكار ذكية دون ان تكون متذاكية، وسلطة حازمة دون ان تكون متسلطة، قادرة على الموازنة بين الامن والحقوق، حقوق الانسان، وأولّها حق المجتمع المدني بكل أطيافه وفعالياته وقواه من الولوج الى السجون وأماكن الحرمان من الحرية، وما ينطبق على سجن رومية ينطبق بدرجات متقدمة على باقي أماكن ومراكز أخرى، سجون وغيرها، هي برعاية سلطات ومؤسسات أمنية أخرى، وهي ربما في حال أسوأ لجهة التواصل مع العالم الخارجي، حيث لا يرشح منها الّا القليل من المعلومات ولا تنضح الا بما نذر من واقعها وحقيقتها، ذلك أن من يدخلها يخرج خائفاً ويتابَع مرهَّباً وغالباً ما يختار الصمت، وان تجرّأ على الكلام فغالباً ما يمارَس الترهيب على الآذان التي سمعت والعيون التي ذرفت دموعاً تأثراً بما شاهدت، وتفاعلاً مع ما أدركت من صدق الرواية، كل ذلك في غياب المعلومات الرسمية وانعدام الشفافية.
علماً ان حُسنَ ادارة أمكنة الحرمان من الحرية هو حجر الزاوية في عملية اعادة تأهيل السجناء وتحضيرهم من أجل اعادة اندماجهم في مجتمعهم حيث  سيعودون لا محال، وفي تجنب احداث صدمات وترددات،  لن تكون ترددات “اجرامهم”، انما ترددات سوء محاكمتهم، واساءة معاملتهم لدى تنفيذ عقوباتهم، وممارسة سياسات النعامة وطمر الرؤوس في الرمال، والتقصير في استقبالهم في المجتمع من جديد، فتكون النتائج وخيمة جداً على الجميع.
انّ ما عبَّرَت عنه هذه السطور، والذي هو مزيجٌ من غضبٍ ورفضٍ وانفعالٍ، القصد منه تعبيرٌ صادقٌ وواقعيٌّ عن معاناةٍ يوميةٍ يقاسيها الكثير من المواطنين وتعاني من آثارها ونتائجها شريحة كبيرة من عائلاتنا التي تفقد التواصل مع ذويها في السجون واماكن الحرمان من الحرية بسبب هذه الممارسات والاحتياطات الامنية العمياء والغبية، وغيرها من العناوين والشعارات والحجج، فتستقر ترددات هذا الواقع على المجتمع بكامله.
آن الاوان أن نريح أنفسنا ونريح العناصر والضباط الامنيين من واقع زجهم في مجالٍ واختصاصٍ هو فوق قدراتهم وطاقاتهم وعلمهم وخبراتهم وتدريباتهم العسكرية والامنية. انه مجالٌ مدنيٌّ بامتياز، وتخصصيٌّ بكل ما للكلمة من معنى، ولقد تأخرنا كثيراً في تحرير هذه الصلاحيات واعادتها الى مرجعها الاصلي وهو وزارة العدل، والكف عن “اغتصابها الشرعي” يومياً من قبل وزارة الداخلية، المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، وهنا نؤكد انه يقتضي أن تكون جميع مراكز الحرمان من الحرية، وليس السجون فقط، بإدارةٍ مدنيةٍ وحقوقيةٍ متخصصةٍ وقادرةٍ ومؤهَلةٍ لكي تدير هذه الاماكن بمعايير الامن والعدل وحقوق الانسان والمصلحة الاجتماعية والانسانية، وان تساهم في بناء الهوية الوطنية وتكريس الانتماء لدولة القانون، وقادرةٍ ان تنخرط في مسار المفهوم العقابي الحديث والمتحضر المبني على توصيفٍ مختلفٍ تماماً لما هو عليه اليوم لمؤسسة السجن العقابية ولدورها ولما ننتظره منها ولما هي قادرة على احداثه من تغيير في المجتمع، ذلك ان رجل الامن مهما أضاءت نجومه ومهما نَشُطَ عسَسَه ومهما علا شأنه، هو، بكل احترام ومحبة، غير قادر على المُضيِّ في هذا المسير، ودوره عقيم في هذه الادارة، اذ أنه منهمك بأمنه وتراتبية منظومته ومقيّد بأطر وأوامر وقيود حديدية لا ترى الا جانباً واحداً من جوانب عدة لمشهدٍ معقد بطبيعته ووظائفه وهويات شاغليه.
لقد فاتنا القطار وأصبح بعيداً، ولم يعد مبرراً أبداً أيّ تأخيرٍ في تحويل هذه الادارات الى مدنية حقوقية، تكون أولى مهماتها العمل على وضع اطارٍ قانونيٍّ وتوصيف علمي واضح لدور تشاركي ووظيفة تكاملية للمجتمع المدني، الذي يمكنه أن يكون الجناح الآخر المقابل للإدارة الرسمية في عملية التحليق في سماء المنظومة السجنية القائمة على مفهوم حقوق الانسان ونهائية اعادة التأهيل والاندماج. وذلك لن يكون من دون تكريس حق هذا المجتمع المدني، بكافة فعالياته، لا سيما الجمعيات والاعلام والنقابات، في الولوج الى هذه الاماكن. وهنا نؤكد على كلمة “حق” التي مصدرها النص القانوني الواضح وغير القابل للتأويل والالتباس، والتي يضمنها الدستور وترعاها سلطة قضائية متنورة وتقدمية، ونرفض ان يستمر هذا الدور مختزلاً بمجرد “اذنٍ” او “ترخيصٍ” “يُمنح أو يُحجب” بغياب معايير علمية وموضوعية مقررة مسبقاً ومعلومة من المعنيين، مع تقديرنا وعرفاننا لما هو ثمرة راهنة لهذه الشراكة مع المراجع الرسمية. وهنا نؤكد ونكرر ان “الحق” ليس رديفاً للفوضى ولغياب السلطة الرسمية، كما هو مصوّرٌ في أذهان الكثير من معارضي ومنتقدي المجتمع المدني، لا سيما اذا تمكنّا ان نبني هذه الشراكة على معايير وليس على مزاج او استنساب معيّن، وطالما ان الحق يقابله مسؤولية ومحاسبة ضمن أطرٍ واضحة من الشفافية واحترام الحقوق.
وفي غياب ذلك، وبانتظار هذا التغيير، يبقى الامر على ما هو، على همّة أصحاب النوايا الحسنة وتحت رحمة مزاج أصحاب السلطة المستفيدين من غياب هذا الإطار القانوني ومن تغييب منطق المحاسبة والمساءلة في واقع يغلب فيه التسلط على الشرعية والقوة والاستنسابية على الحقوق المكتسبة.
نُشر في العدد الحادي عشر من مجلة المفكرة القانونية    

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني